** معتصم أحمد دلول لقد أثبت أهل غزة المحاصرين أنهم الأقدر على صناعة التاريخ عندما كانوا أول من يدمر الحدود الاستعمارية (السايكسبيكية) التي قسمت الوطن العربي بين المحتلين المستعمرين الذين جاؤا لا لهدفٍ إلا لتركيع و إذلال الشعب العربي و الإسلامي .. لقد أثبتوا فعلاً بهذه الخطوة الجريئة و الغير مسبوقة أنهم أهلٌ لحمل راية المقاومة و الممانعة التي تحمي بلاد العرب و المسلمين .. لقد أثبتوا بهذه الخطوة أنهم الأقدر و الأقوى و الأكثر صموداً و ثباتاً في مواجهة الأعداء مهما كانوا. فأهل غزة الذين اقتلعوا السور الذي يقسم بلاد العرب و المسلمين إلى كانتونات و صناديق صغيرة لا يعترفون بالأسوار الظالمة و يعتبرون أن كل البلاد بلادهم و كل العرب و المسلمين إخوانهم. لذلك لم يستغرب أهل غزة ما فعلوه و لم يحتاجوا إلى فترةٍ من الزمن حتى يتأقلموا مع المناخ الجديد و المكان الجديد لأنهم لم يخرجوا خارج إطار وطنهم و أرضهم. و دخل أهل غزة إلى مصر ليجدوا الحضن الدافئ في الشق الآخر من الوطن .. وجدوا خير أهلٍ و خير أحباب .. وجدوا خير معين و خير نصير و خير آخذ و خير عاطي و خير محب و خير مضيف و خير مُسْتَقْبِل و خير بيت و خير طعام و خير شراب، و قائمة طويلة ليس لها آخر من الخيرات. لم يبخل أهل مصر الأحرار .. أهل مصر الثوار .. أهل مصر الأبطال على أهل غزة بشئ لأنهم يؤمنون أنهم الدرع الواقي لمشروع الأمة الذي يبدد أحلام أعداء العروبة و الإسلام-اليهود. لم يبخل أهل مصر على أهل غزة بعزيزٍ و لا نفيس. منعوا عن أنفسم و قدموا لهم كل ما يستطيعون. فوالله لا أنسى أول ليلةٍ قضيتها في مصر مع أحبابي و إخواني عندما استضافني و ثلاثة من إخواني أحدهم بدون موعد مسبق وقدم لنا طعامه و طعام أبنائه. لم أنسَ ذلك اللحظات بعد صلاة العشاء عندما أحاط بي و بإخواني عدد من المصريين في المسجد، كل واحدٍ منهم يقسم أن يستضيفنا في بيته و يطعمنا من طعامه و يقدم لنا المساعدات. وأيضاً لم و لن أنسى العم أبو رائد الذي أحاط بنا في بقالة ابنه الذي اشترينا منها بعض الأغراض و لم يتركنا إلا بعد أن بتنا ليلتنا عنده و قدم لنا الشاي و أحضر لنا المنقل و أشعل الفحم ليدفئنا. و والله لم و لن أنسى العمة أم رائد التي كانت تحمل فراش أبنائها و تحمل السجاد و تنقله لنا في الشقة المجاورة التى لم يكن فيها فراش، و أيضاً و هي تحمل سفرتين كبيرتين مملوءتين بالطعام البيتي و تقدمهم لنا و كأننا أبناؤها حيث تجاوز عددنا في شقة العم أبو رائد في تلك الليلة الثلاثين غزي. و يأبى العم أبو رائد إلا أن يبيت ليله معنا ليؤنسنا و يقص علينا من قصصه مع أهل غزة عندما كان يأتي إليها بشكل شبه يومي قبل عام 1967. و تأبى العمة أم رائد التي كانت تعاملنا كأبنائها إلا أن تلتقط معنا الصور التذكارية حتى لا نغيب عن ذاكرتها. إذاً، فالأخوة الأعزاء الذين لاقوا أهل غزة بهذه الطريقة و بهذا الأسلوب لا أتوقع أنهم يوماً سيكسرون قدم الفلسطيني الذي سيدخل إلى مصر مرة أخرى من أجل التزود ببعض الطعام و الشراب و الدواء كما يقول السيد أبو الغيط. لا أعتقد أن الشعب الذي أدفأ أهل غزة بحضنه الحنون سيغلق متنفس أهل غزة كما يقول محمد على إبراهيم رئيس صحيفة الجمهورية المصرية و الذي أيضاً يصف ما فعله أهل غزة بقلة الأدب. كما أنني لا أعتقد أن الشعب المصري الحر الذي وقف بجانب أهل غزة قد فعل ذلك إيماناً منه بأنه يمن عليهم و يتصدق في محاولة لإنقاذهم و تخفيف ضنك العيش الذي يعيشونه بسبب أمراء حرب حماس في غزة و صواريخ القسام الهزيلة التي أتت لهم بالويلات كما يقول السيد إبراهيم سعدة في صحيفة الأخبار المصرية. فأظنني بالسادة الأفاضل الذين ذكرتُهم إلى جانب السيد صلاح منتصر في صحيفة الأهرام الذي يبرر ما يفعله الاحتلال من حصار و قصف و تجويع بحق أهل غزة و يصف المقاومة بأنها السبب الذي يعرقل صدور قرار إدانة لإسرائيل، أظنني بهم أنهم لم يرو الكم الهائل من الأشقاء المصريين الذين دخلوا إلي غزة و قبلوا ترابها و طافوا بشوارعها ليستنشقوا طعم الحرية الذي ما عرفوه في ظل نظام حكامهم. أظنني بهم لم يرو كيف امتلأت شوارع غزة بالآلاف من المصريين و العرب الذين تمكنوا من الدخول إلى مصر متوجهين إلى غزة كيف عبَّروا عن شعورهم بالفرحة و الابتهاج لأنهم استطاعوا أن يطئوا تراب غزة و استطاعوا أن يعيشوا القصف و الخوف و الجوع مع إخوانهم في غزة و لو للحظات. وأظن هؤلاء أنهم لم يقرؤا التاريخ ليرو كيف كان أهل مصر في المقدمة عند الدفاع عن أرض غزة و أهل غزة. أظنهم لم يقرؤا عن العز بن عبد السلام و السلطان قطز و جيشه المصري الذي حارب الأعداء على أرض عين جالوت في فلسطين. وأظنهم لم يعرفوا شيئاً عن بطولات المصريين في عام 1948م الذي خذلت فيها الجيوش العربية الرسمية آمال العرب و المسلمين و لم يعرفوا أيضاً أي شئ عن تبة 86 في وسط قطاع غزة، و لم يعرفوا و لم يعرفوا ... وأخيراً، فالمأساة إذا هي أن هؤلاء لم يقرؤا التاريخ و لم يعرفوا هويتهم الحقيقية. أظنهم لو نظروا إلى أنفسهم لوجدوا أنهم أقرب لبني المحتل المستعمر الظالم لأنهم سخروا ألسنتهم و أقلامهم لخدمته، و لوجدوا أن الشعب المصري برئ منهم براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام. فمن لا يعرف طبيعة العلاقة بين أهل مصر و أهل غزة لا يخرج من نطاق هذا التعريف حتى و لو كان أبو الغيط.