ثنائية القطبية.. تطل برأسها د. فايز رشيد عقد ونصف العقد ، هي الفترة الزمنية الفاصلة بين نهجين مختلفين لروسيا ما بعد الانهيار السوفييتي الأول: مرحلة يلتسين التي تميزت بالتبعية المطلقة للولايات المتحدةالأمريكية في المجالين السياسي والاقتصادي ، وقد استعمل الثاني من قبل واشنطن لممارسة الابتزاز في المجال الأول. روسيا التي كانت في الحقبة اليلتسنية دولة شبه منهارة ومكسورة بكل المعاني . سارت في طريق الخصخصة لمعظم الشركات ومؤسسات القطاع العام ، بما في ذلك الهيئات النفطية وبعض الصناعات العسكرية ، حيث جرى بيعها بأرخص الأسعار ، وبما يوازي في الكثير من الأحيان 1% من أثمانها الحقيقية ، إضافة إلى هيمنة عصابات المافيا ، وانتشار واسع للجريمة المنظمة ، وشبه تفكك للمؤسسات الأمنية والعسكرية ، والتضخم الاقتصادي والعجز عن دفع رواتب الموظفين. المرحلة الثانية ، ابتدأت مع الرئيس بوتين ، الذي تقلد إرثاً ثقيلاً في كافة المجالات ، وحاول ان يعيد لروسيا مجدها على صعيد السياستين: الداخلية والخارجية بما تعنيه الأولى من امساك قوي بالاقتصاد والأمن والسيطرة على مؤسسات النفط والتصنيع العسكري ، وما تتطلبه الثانية من استقلال متدرج بعيدا عن التبعية للغرب والولاياتالمتحدة بشكل خاص. بوتين الذي عمل طويلا في أروقة ال "كي. جي. بي" إبان الحقبة السوفييتية ، كان يدرك حقيقة الترابط العضوي بين السياسة والاقتصاد ، وان لا مجال لانتهاج سياسة مستقلة على الصعيد الدولي دون الاعتماد على اقتصاد مركزي قوي للدولة. ولعل الحقيقة الثانية التي اخذ بها بوتين هي: معرفة وإدراك سيكولوجيا الشعب الروسي ، وقد عاش حقبة طويلة في دائرة الاحساس والشعور بعظمة دولته ، كقوة موازية على قدم المساواة مع الولاياتالمتحدة ، والذي عاش مجداً وطنياً تاريخياً يمتد من هزيمة نابليون التي ألحقتها بجيشه روسيا ، وصولاً إلى هزيمة الوحش النازي في عقر داره في الحرب العالمية الثانية . حيث كانت القوات السوفييتية هي الوحيدة (من بين قوات الحلف المشترك) التي حاصرت برلين ودخلتها وتمكنت من رفع علمها على الدايخستاغ الألماني ان شعباً بهذا العمق والخلفية التاريخية من التأثير في الحدث السياسي لا يمكنه القبول بفرض الهيمنة عليه من قبل مطلق دولة أخرى ، ولذلك وعلى المستوى الشخصي ، ونتيجة لمعرفة دقيقة نتيجة لاحتكاك مباشر مع قطاعات روسية كثيرة ولسنوات دراسية طويلة . كنت من بين مراقبين قليلين ممن كتبوا عن حالة الانفصام المؤقت التي "يعيشها" الشعب الروسي في المرحلة الأولى لما بعد الانهيار ، وممن توقعوا حتمية عودة روسيا إلى سابق عهدها ابان الحقبة السوفييتية ، ولكن من دون الايديولوجيا هذه المرة ، وعن امكانية العودة للثنائية القطبية في مواصفات جديدة ضمن السياق التاريخي ، ومع الاخذ بعين الاعتبار ظروف العولمة الجديدة ، ومعطيات العصر من الثورة التكنولوجية الهائلة. وبعيداً عن استعراض النهج البوتيني على الصعيد الداخلي ، والذي كانت حصيلته استقرار الاقتصاد الروسي المتطور بوتائر سريعة ، وعودة الامن وشبه كنس لسيطرة المافيا ، والتحديث الصناعي وبخاصة العسكري منه ، واعادة سيطرة الدولة بالكامل على قطاعي النفط والغاز (أهم مصدرين للثروة في روسيا اضافة إلى السلاح) ، وما جره ذلك من هجوم إعلامي غربي - أمريكي على السلطة الروسية وبوتين شخصياً ، واتهامه بالعودة إلى دكتاتورية الحقبة السوفييتية والاعتداء على الديمقراطية وحقوق الانسان. على صعيد السياسة الخارجية لروسيا ، فليس من الصعب على المراقب ان يلحظ انها مرت في اطوار ثلاثة ، وذلك توافقاً وتماهياً مع ما كان يجري في الداخل الروسي من متغيرات ذات ابعاد اقتصادية ، اجتماعية ، امنية وبنيوية وما اسفرت عنه من نتائج لها دور تحكمي في السياسة الخارجية ، الطور الأول ، تمثل في انتهاج سياسة روسية مستقلة بعيدة عن الرضوخ للولايات المتحدة وليست مجابهة لها ، أما تعبيرات ذلك ، فقد تمثلت في احتكاكات بين سياستي البلدين ببين الفترة والأخرى. الطور الثاني ، انطلق من ضرورة إعادة العلاقات الروسية مع دول كثيرة في العالم كان لها أفضل العلاقات مع العهد السوفييتي ، ومحاولة تحييد أوروبا ، بمحاولة إقناع دولها بأفضلية الاعتماد على النفط والغاز الروسي في إطار من التسهيلات الكبيرة ومحاولة الوصول مع جاراتها (من الجمهوريات التي كانت ضمن الإطار السوفييتي) إلى الوضع الذي تكون فيه معنية بإيجاد نمط من النهج السياسي المشترك على الصعيد الخارجي. ولذلك شهدنا جولات سياسية لبوتين واتفاقيات اقتصادية ، تصنيعية ، تعاونية مع دول كثيرة: الصين ، الهند ، إيران ، وغيرها من الدول الإفريقية ، والأمريكية اللاتينية ، والآسيوية ، بما في ذلك بعض الأقطار العربية ، الجزائر ، سوريا ، قطر ، ونمطا جديدا من السياسات الروسية تجاه قضايا كثيرة تعيشها هذه الدول. وأيضا شهدنا تطورا في علاقات روسيا مع روسياالبيضاء ، وكازاخستان وأوكرانيا وقيرغيزستان ، وطاجيكستان وأوزبكستان ، وغيرها. ولعل روسيا وفي علاقتها مع هذه الجمهوريات ، لجأت في بعض الأحيان إلى استعمال سلاحي النفط والغاز ، واللجوء إلى التجمعات الروسية فيها كوسيلة ضغط قوية في المعادلات السياسية الاقتصادية ، الاجتماعية في هذه الجمهوريات كما حصل مع استونيا وليتوانيا. الانتقال إلى الطور الثالث ، كان انعكاسا لتهديد الولاياتالمتحدة المباشر للأمن القومي الروسي ، إن من خلال إنشاء القواعد الأمريكية في الدول المحيطة بروسيا ، أو الوجود المباشر العسكري في أفغانستان والعراق ، الأمر الذي أدى بروسيا إلى إنشاء حلف (منظمة شانغهاي للتعاون) وإلى قيام مناورات عسكرية مشتركة ذات مراحل متعددة من هذه الدول ، وإلى استعراض روسي للقوة أمام الغرب ، بالرحلات الطويلة للقاذفات الاستراتيجية الروسية ، والتي يصل بعضها إلى مسافات قريبة من الأراضي الأمريكية. الطور الثالث ، ابتدأت ملامحه في الظهور إلى العلن في (منتدى دافوس للأمن) في ميونيخ ، حيث شن بوتين أعنف هجوم له على الولاياتالمتحدة. ليس منتظرا أن تظل الخطوات الروسية والأمريكية القادمة عند هذا الحد ، الأمر الذي يعيد إلى الأذهان مرحلة الحرب الباردة ، والعالم الثنائي الأقطاب ، والذي بدأ يطل برأسه من جديد. عن صحيفة الدستور الاردنية 27/8/2007