خضير بوقايلة تصر السلطات الإيرانية على تفسير ما يجري في الجمهورية الإسلامية من حراك سياسي انه من فعل المخابرات والجهات الأجنبية والغربية منها بصفة خاصة، ومن أجل ذلك فهي لا تتردد في اللجوء إلى أقسى الأساليب القمعية والترهيبية من أجل وضع حد لموجة الاحتجاجات التي انفجرت غداة الانتخابات الرئاسية الأخيرة قبل ستة أشهر.
المتظاهرون الإيرانيون من أنصار 'الثورة الخضراء' وغيرهم صاروا في نظر مرشد الثورة وحكومة أحمدي نجاد مجرد فوضويين خائنين سمحوا لأنفسهم أن يكونوا أدوات بين أيدي المخابرات الأجنبية تتلاعب بهم كيفما شاءت.
حرب إيران الرسمية مع القوى الخارجية العظمى بلغت ذروتها في عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد على خلفية أزمة الملف النووي الإيراني، لذلك فإن أية محاولة إيرانية داخلية للخروج عن الخط الرسمي المتشدد لا يمكن إلا أن تصنف في خانة الخيانة العظمى للوطن والخنوع لمخططات الاستخبارات الأمريكية البريطانية الإسرائيلية.
وما زاد طين إيران بلة هو التخندق العلني لمرشد الثورة علي خامنئي منذ البداية في صف الرئيس نجاد والجناح المحافظ في إيران، فلم يترك بذلك أي مجال للتدخل كحكم محايد عندما اشتد الخلاف واحتدم الصراع بين التيارين التقليديين المتنافسين على الحكم في إيران.
أثبتت عودة المظاهرات الواسعة أخيرا أن الهدوء النسبي الذي أعقب مظاهرات الصيف لم يكن إلا استراحة محارب، وأن الأزمة السياسية في البلد لا يمكن أن تحل بالتهديد والقمع والمحاكمات التشهيرية لرموز المعارضة.
وعلى النظام السياسي في الجمهورية الإسلامية أن يجد لنفسه بسرعة طريقا ثالثا لتهدئة النفوس واستمالة الغاضبين إلى صفه إذا كان يريد فعلا ربح معركته مع الخارج.
أما اللجوء إلى قمع المتظاهرين واستعمال الأساليب السوفياتية في مواجهة الأزمة الداخلية فلم تعد الآن إلا مسكّنا لألم سرعان ما يعاود الظهور مع أول مناسبة قادمة.
قد يكون من بين المتظاهرين الإيرانيين أناس يأتمرون أو يتحركون بإيعاز خارجي، وليس بالضرورة أن يكون هذا الخارج غربيا، بل هناك أنظمة عربية تتمنى هي الأخرى أو لعلها تسعى إلى تقويض وترويض المارد الإيراني.
لكن النظام الحاكم في البلد يفترض فيه أن يفكر أيضا في الأسباب التي دفعت الكثير من الإيرانيين إلى الخروج إلى الشوارع والوقوف في وجه عناصر 'الباسيج' المرعبة وغيرها من قوات الأمن.
ثلاثون عاما أو أكثر من قيام الثورة الإسلامية كافية لنظام الملالي في طهران أن يقف وقفة متدبر ويقيم المسيرة ويعترف بالأخطاء التي شابتها. فالطريق الذي سلكته الثورة ليست كلها ورودا ولا يمكن أن تكون كذلك مهما بلغت درجة العصمة التي يتغنى بها النظام، فهي سنة الله في خلقه.
التعاطف الذي يحظى به نظام طهران في عدد من الأوساط الشعبية وحتى السياسية العربية والإسلامية بخصوص موقفه من كثير من القضايا العربية والإسلامية وأيضا إزاء المكابرة التي أبداها مع الغرب بشأن ملفه النووي، لا يمكن أن يكون ذريعة للتعدي على شعب إيران وعلى حقه في التظاهر والتعبير عن معارضته بالطرق السلمية مثلما جرى قبل ستة أشهر ويجري الآن.
فقد انتهج نظام صدام حسين في العراق نفس النهج تقريبا عندما كان يسعى لاستمالة الرأي العام العربي والإسلامي إليه من خلال عدد من المواقف التي كان يحاول الظهور بها مكابرا ومغالبا للغرب، بينما كان يذيق شعبه الذل والهوان، فكانت النتيجة التي رأيناها غداة غزو الكويت وبعد غزو العراق قبل ست سنوات.
تجربة الثورة الإسلامية بلغت من الكبر ما يقتضي على أهلها أن يراجعوا أنفسهم ويكيفوا نظامهم وفق التطورات العالمية المتسارعة، وليس في ذلك أي عيب ولا يمكن اعتباره ضعفا. القطار وصل محطة هامة وحاسمة في مساره ولا بد له أن ينتقل إلى محطة أخرى يراعي فيها مصلحة البلد وشعب إيران بما لا يتعارض مع محيطه الإقليمي والدولي.
من أجل ذلك كان يقتضي على حكام طهران أن يبحثوا لهم عن حل آخر لمواجهة مظاهرات الإصلاحيين غير الهراوات والرشاشات ومحاكم التفتيش.
من الممكن أن يحافظ النظام في إيران على سياسة الندية والمكابرة مع الغرب ويلتفت في نفس الوقت لمطالب الشعب وحقه في تغيير ما يجب تغييره من ممارسات سياسية تجاوزها العمر الآن.
لكن الاستمرار في قمع الأصوات الداخلية الداعية للتغيير لن يصل بإيران إلا كما وصلت إليه كثير من الأنظمة القمعية العربية التي لا تزال تستمر في سد آذانها لكي لا تسمع أصوات مواطنيها المطالبة بالتغيير والإصلاح والديمقراطية.
الإمام الخميني ورفقاؤه اجتهدوا وأقاموا ثورتهم بنجاح وتأييد شعبي كبير، ولا عيب في الخلف أن يفكروا في تقويم المسيرة وإدخال ما يجب من تعديلات تسمح لإيران بأن تعيش قوية وتحفظ لها دورا رياديا في المنطقة، لكن هذه القوة يجب أن يستمدها النظام من أبناء شعبه جميعهم بمحافظيهم وإصلاحييهم على حد سواء.
الوطنية وحب الوطن ليست حكرا على فئة دون أخرى، كما أنه ليس من حق النظام أن يجرم أي مواطن ويتهمه بالخيانة والعمالة لمجرد أنه وقف ضد الحاكم أو طالب بتغيير أوضاعه نحو الأحسن.
* كاتب وصحافي جزائري جريدة القدس العربي 30/12/2009