تركيا ودرب النجاحات د. عمر عبد العزيز كل المؤشرات تدلل على ان عبدالله غول ذاهب إلى كرسي الرئاسة التركية وبصفة مؤكدة، بالرغم من احتمال إعادة الانتخاب في البرلمان لمرة أو مرتين، والحال، فإن عدم حسم انتخابه يوم 20 اغسطس/آب من الشهر الجاري لا يعني أن فرصه في النجاح تضاءلت بل العكس تماماً، فقد تمكن غول وحزبه خلال الأيام والأسابيع الماضية من كسب المزيد من المؤيدين في البرلمان، كما ان النجاح الكاسح لحزبه “حزب العدالة والتنمية" في الانتخابات النيابية الأخيرة عزز من مكانته ورفاقه، وجعل الجماهير والنخب التركية في حالة استيعاب وقبول للمرجعية السياسية الإسلامية المغايرة جذرياً لتلك المعهودة في بقية البلدان الإسلامية. كانت تجربة حزب العدالة والتنمية في تسيير الحكومة فريدة من نوعها، وبدت النجاحات الاقتصادية والاجتماعية ظاهرة للعيان منذ الأشهر الأولى لتوليه الحكم، كما أظهرت قيادات وكوادر حزب العدالة والتنمية درجة كبيرة من الرشد والعقلانية، وخاصة لجهة الاحترام وعدم المساس بمرجعية الدولة التركية العلمانية، ليس لأسباب تكتيكية كما يتوهّم البعض، بل لقناعاتهم بأن العلمانية لا تضر البلاد والعباد إذا كانت موصولة بانتفاء الفساد والعنف، ومحكومة بالمصلحة العليا للوطن والمواطن، الأمر الذي راكم من رصيد نجاحاتهم، وأثبت إمكان إقامة مشروع سياسي رشيد لا يخلط بين الدين والدولة، ويبحث عن الفضيلة المجتمعية في الانتماء الديني الإسلامي. ما فعله حزب العدالة والتنمية في تركيا يذكرنا بالحكمة الصينية التي اجترحت مأثرة تعايش المتناقضات على قاعدة الهدف النبيل، فالصين بقيادة رائد الإصلاح الحديث “دينغ تسياو بينغ" أدخلت نمط الإنتاج والسوق الرأسمالية في الصين من دون أن تتخلّى عن محاسن النظام الاشتراكي، وخاصة لجهة الحماية الاجتماعية للناس، ومكافحة الفساد والرذيلة. قال دينغ تسياو بينغ: ليس مهماً ما لون الهرة، المهم أن تجيد اصطياد الفئران. الإسلام السياسي التركي الرشيد أمسك بالخيط الرفيع الذي يصل ويفصل بين علمانية الدولة وإسلامية المجتمع، فأحسن الأداء في مجابهة المشاكل الواقعية على الأرض، محققاً نجاحات اقتصادية غير مسبوقة، في الوقت الذي لم ينجرف فيه إلى مشاكل هامشية، فلم يخدش حياء المؤسسة الأتاتوركية العلمانية محافظاً على مزاياها ومشروعيتها التاريخية، وفي ذات الوقت وضع العسكرتاريا المتغوّلة على الدولة في زاوية حرجة، وخلع مخالبها وأنيابها من خلال التمسك بتقاليد الدولة، والتقليل من فرص الفساد والإفساد، وضرب المثل الذاتي سلوكاً وعملاً وأمانة. تلك المقدمات هي التي منحت حزب العدالة والتنمية مكانته في المجتمع التركي، وهي الرافعة الأساسية التي ستوصل عبدالله غول إلى الرئاسة، ومن المؤكد أن معركته الحقيقية ستبدأ بوصوله إلى رأس الجهاز التنفيذي والتشريعي، فالرئيس التركي يتمتع بصلاحيات تعيين القيادات العليا للأجهزة القضائية والتربوية والأمنية، وهي المعاقل التقليدية لليمين المدعوم بجنرالات الجيش ممن كانوا يشكلون “حكومة الأمر الواقع" التي تُحيل الحكومات التركية المنتخبة إلى حكومات ظل تعجز عن مباشرة مهامها. وتتعرض دوماً لمصادرة العسكريين وحماة العلمانية اليمينية من رجال التشريع والقضاء، وقد نال الإسلاميون الأتراك قسطاً وافراً من تعسف تلك الدوائر، فالمعروف أن الزعيم التقليدي للإسلام السياسي التركي نجم الدين أربكان كان قد تعرض لأكثر من إجراء “قانوني"، كما أصدرت مؤسسة القضاء التركي أحكاماً ضد حزب “الرفاه الإسلامي" وصلت إلى حد اعتباره حزباً غير مشروع. يومها أثبت “الأربكانيون" “نسبة إلى نجم الدين أربكان" حنكة ودهاء عندما بادروا بتغيير مُسمّى الحزب إلى “حزب الفضيلة"، وتالياً لم يتوانوا في تحويل الاسم مجدداً إلى “حزب العدالة والتنمية" وخوض الانتخابات البرلمانية، والفوز في تشكيل الحكومة بعدما تقدموا على خُطى التنسيق البنّاء والتحالفات الواسعة مع التيارات الليبرالية والقومية. ملحمة حزب العدالة والتنمية ستتوج قريباً بنيل الرئاسة، وسيجد قيادات الحزب وأنصاره أنفسهم أمام استحقاقات أكبر، سواء في تسيير الحكومة أو في التماس مع ثوابت المرجعية العلمانية الأتاتوركية التاريخية، ولا يبدو أن إسلاميي تركيا الرشداء سيخلون بالمألوف، وسيلجأون إلى أساليب تتناقض مع ما عُرف عنهم من رويّة وسويّة، وأغلب الظن أنهم سيتعاملون مع المشهد على قاعدة جمع المتناقضات، والبحث عن المشتركات مستأنسين بالفلسفة الرشدية التي أشارت ذات يوم إلى أن الحكمة (الفلسفة) والشريعة لا تتناقضان البتة إذا كات الفضيلة هدفاً مشتركاً لهما، وكما رأى “دينغ تسياو بينغ" فإن الاشتراكية والرأسمالية لا تتناقضان إذا كان الهدف المشترك النمو والتطور والعدل والأمن والأمان. الثنائي رجب أردوغان وعبدالله غول يمثلان الآن محور ارتكاز الفعل المؤسسي الكبير، وبتصاعد ينقلان المهمة الجسيمة من رئاسة الوزراء والخارجية إلى رئاسة الدولة والوزراء، وإذا سارا على درب الحكمة والرشد الذي عُرف عنهما ستكون تركيا النموذج الأهم، والجواب الأكبر في فضاءات المسلمين الملبدة بغيوم البؤس والاستبداد والاحتكار. عن صحيفة الخليج الاماراتية 23/8/2007