إياك وان توقظ الدب الروسي من سباته، فمن الأفضل أن تتركه نائما، وإذا ما أحببت مداعبته فلا تثير أنيابه بالثلج البارد. ليست تلك حكمة روسية ولا مثل قديم في التراث الروسي، ولكنه حديث الأروقة السياسية، وحقيقة يعرفها صيادو الدببة في القطب البارد. ولعلها مزحة بين الصيادين أحيانا، لا يفقه عمقها الساسة الذين يلعبون بأوراق ساخنة في مناخ متوتر.
هكذا راقبت عن كثب وباهتمام بالغين، الولاياتالمتحدة قمة منظمة شنغهاي للتعاون، والمفارقة ليست في قمة المؤتمر، الذي بعث برسائل مباشرة وغير مباشرة إلى الولاياتالمتحدة، بضرورة إعادة النظر في سياستها إزاء العالم ونزعتها الاستفرادية والأحادية من اجل زعامة العالم والهيمنة عليه، فقد كان خطاب بوتين واضحا حين قال «إن أي محاولة لحل القضايا والمشاكل العالمية بصورة أحادية الجانب مصيرها الفشل».
بل وعكست توجهات وبيان المجتمعين «في قمة شنغهاي» في منتصف أغسطس /2007، في بشكيك عاصمة قرغيزيا، رغبتهم الواضحة لتعزيز النظام العالمي متعدد الأقطاب، والذي وحده بإمكانه ضمان الأمن للجميع وتحقيق سلام عادل بين كافة البلدان والمجتمع الدولي، وإتاحة المساواة في الفرص لكل البلدان، بعيدا عن روح الغطرسة والتعالي.
والمفارقة أن القمة تنعقد في دولة كانت تدور في فلك الاتحاد السوفيتي السابق ولاتزال عضوا في المنظمة، فيما نراها اليوم تفتح ذراعيها للولايات المتحدة فتمنحها قاعدة عسكرية متقدمة، بحجة مكافحة الإرهاب والدول المارقة، في وقت ترى فيها موسكو وبكين تهديدا مباشرا لأمنها القومي.
بل ولم يخف الرئيس الإيراني نجاد، والذي حضر بصفته مراقبا، إدانته للخطة الأميركية لنشر منظومة صواريخ دفاعية في أوروبا الشرقية واعتبرها تشكل تهديدا للمنطقة، بل وحدد التهديد بشكل مغلف وغير مباشر قاصدا بلاده حين ذكر «إن الأهداف المتوقعة - لتلك الصواريخ - تتجاوز تهديد بلدا ما بعينه، بل تمتد لتهدد أيضاً قسما مهما من القارة الأسيوية والدول الأعضاء في المنظمة. ولا نحتاج لكشف من الذين يعنيهم الرئيس الإيرانيش بالقسم المهم» من القارة!
ويأتي انعقاد قمة شنغهاي في أجواء ومناخات متوترة أعادت العالم إلى فترة الحرب الباردة، حيث بدأت عملية الشد والجذب بين الطرفين، الروسي والأميركي تأخذ منحى في اتجاه التصعيد العسكري، وقد كان ذلك واضحا منذ شهور، خلت عندما دب الخلاف حول منصات الصواريخ الأميركية المنصوبة في بولندا وتشكيا.
بحيث اعتبرتها روسيا تهديدا لأمنها وحدودها المجاورة، بينما راحت الولاياتالمتحدة تتملص من تلك الاتهامات، بأنها منصات دفاعية لحماية أوروبا من الإرهاب الدولي، خاصة بعد أن طورت إيران أسلحتها الصاروخية البعيدة المدى، والقادرة على إصابة أهداف بعيدة.
غير أن المشكلة الجوهرية تكمن في غياب الثقة المتبادلة منذ انهيار الثنائية القطبية، وانقسام العالم إلى تكتلات جديدة أثارت على أسسها طروحات جديدة حول مسألة الصراع وزعامة العالم وقيادته بعد حقبة الحرب الباردة، فكانت هناك ثلاثة طروحات رئيسة تسود داخل أروقة وزارة الخارجية الأميركية.
وقد ذكرها دانيال وارنر في كتابه الصادر عام 1993 «السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية ما بعد الحرب الباردة» حول مسألة الإستراتيجية الجديدة في تعاملها مع العالم بعد نهايته التاريخية أيديولوجيا (فوكوياما)، وانبثاق أيديولوجية صراع الحضارات (هنتنغنتون)،التي بنت الخارجية الأميركية على أسسها جزءاً كبيراً من فلسفتها في قراءة العالم في حقبة الألفية الثالثة، وطريقة التعامل معه وكيفية إدارته.
ففي الوقت الذي كانت هناك أصوات تنادي بأهمية التعددية القطبية، كانت هناك أصوات في البيت الأبيض والبنتاغون، تنادي بضرورة تحقيق الحلم الأميركي القديم في زعامة أميركا للعالم. غير أن هناك صوت أخر كان يؤمن بان التعددية ممكنة، شريطة أن تكون الولاياتالمتحدة محور الارتكاز لقيادة هذه التعددية، بينما يراها الآخرين خارج أروقة وزارة الخارجية والدفاع مختلفة.
وأن التعددية ينبغي أن تقوم على الشراكة في العلاقات الدولية وليس التبعية والهيمنة، والبقاء تحت مظلة الولاياتالمتحدة وزعامتها، كما هي رؤية أقطاب كبار في الساحة الدولية، وهم روسيا الاتحادية والصين والاتحاد الأوروبي والهند ومجموعات وكتل جديدة، نمت أجنحتها ورؤوسها بعد انهيار جدار برلين. بينما وجد المحافظون الجدد وهم أكثر تطرفا من المحافظين التقليدين، أن الأحادية وحدها تتيح للدولة العظمى، الأقوى والأغنى، قيادة العالم وتحويله وفق رؤيتها ومنهجها وطريقة تفكيرها.
وبذلك لم تستطع الولاياتالمتحدة الخروج من مأزق كيفية التعامل مع العالم بعد انتهاء القطبية الثنائية، فتخبطت منذ عام 1991-2007 في سلسلة من السياسات الدولية، التي وضعتها في صراعات ثانوية مع حلفاؤها التقليديين، وتراكمت أزمات ومشاكل داخلية وخارجية، أعادت للأذهان الصورة القاتمة لمرحلة فيتنام، حتى وان تذرعت الولاياتالمتحدة بورقة الديمقراطية ومكافحة الإرهاب وحقوق الإنسان.
ما شاهده العالم من سياسات خارجية ومواقف تفتقد للمصداقية والسقوط في الازدواجيات العديدة، جعلت من الولاياتالمتحدة نموذجا أكثر عدائيا من مرحلة الحرب الباردة، في وقت تطلع فيه العالم والتكتلات الجديدة إلى علاقات دولية جديدة ومختلفة، تنشد نظاما عالميا جديدا قائما على التعاون والشراكة والمساواة، والابتعاد عن نزعة سباق التسلح وبضرورة التخلص من ترسانة الأسلحة المدمرة للإنسانية، وتدمير أسلحة الدمار الشامل، والتركيز على التنمية والبيئة والكوارث والأمراض والظواهر السلبية في عالمنا.
ما تبعثه موسكو من خطابات القوة والمواجهة للبيت الأبيض، وما تمارسه من طلعات جوية ومناورات عسكرية مشتركة مع الصين، ليست مزحة سياسية ولا استعراضا للقوة وحدها وحسب، بل ورسالة واضحة أن الدب الروسي لن يترك المائدة العالمية لصفقات السلاح ومبيعاتها في الأسواق العالمية للولايات المتحدة الأميركية وحدها وسيعيد بناء التوازن، حتى وان كان توازنا للرعب.
ولن تجد سخرية المتحدث باسم الخارجية الأميركية شين ماكورماك في حديثه للصحفيين عن تهكمه حول» الطلعات الروسية قائلا «إذا أرادت روسيا استخدام طائراتها المتهالكة فهذا قرار راجع لها» بينما عين الولاياتالمتحدة لم تكن نائمة لا في جزيرة غوام ولا في ألاسكا الأقرب إلى نقاطها الإستراتيجية.
مثل هذه السخرية من الدب الروسي المتهالك بأنيابه النووية، يثير شهيته نحو مزيد من سباق التسلح، ويحفزه على إعادة إنتاج أسلحته ويطورها ويدفعها نحو مزيد من سباق التسلح، خاصة وان هناك فائضاً في خزانته بعد ارتفاع أسعار النفط والغاز، بالإضافة للمخزون الهائل من الخبرة وتكدس الأسلحة، في دولة تدرك أنها ليست جمهورية من جمهوريات الموز، دخلت لتوها كعضو جديد في أروقة الأممالمتحدة.