حذر وزير الدفاع الامريكي روبرت جيتس من “حرب باردة” جديدة قد تقع على المستوى الدولي، بعيد الانفتاح الروسي المتعاظم على حل المشاكل الدولية.
وإذا كانت اجواء الحرب الباردة السابقة غير متوافرة، نظراً لأسباب عدة، أهمها غياب الصراع الايديولوجي بين الماركسية والليبرالية، إلا أن اتجاه التعددية القطبية آخذ بالصعود.
هناك إشارات الى التعددية عند القوى الدولية الآسيوية والأوروبية، ولم يعد بوسع الإدارة الأمريكية تجاهلها. في هذا السياق تندرج القمة السعودية - الروسية في الرياض، حيث طغت الاهتمامات الإقليمية والدولية البارزة. وبينما يركز الكرملين على الانتخابات الرئاسية المقبلة بعد سنة لاختيار خليفة بوتين، يركز البيت الأبيض على استعادة الرأي العام الأمريكي في معركته الرئاسية الآتية مع الديمقراطيين. السياسة الروسية منطلقة من فكرة التعددية القطبية، فيما تصر إدارة جورج بوش على هيمنة القطب الواحد مع إدراكها مؤخرا بصعوبة هذا الطموح. كيف يتجه النظام العالمي نحو التعددية؟
ثمة إشارات متراكمة الى ظهور تعددية قطبية، ناتجة عن عوامل دولية مختلفة، أهمها:
1- صدور تصريحات صينية وروسية وفرنسية وألمانية تتحدث عن تعدد المصالح الدولية، وضرورة المشاركة في قيادة النظام الدولي. كما ان بعضها ينبه لمخاطر التفرد الأمريكي بهذه القيادة، وما يحمله من سلبيات عالمية.
2- بروز شراكات تجارية وأمنية بين قوى دولية في مناطق إقليمية عدة. إنها بين القوى الآسيوية الثلاث: اليابان والصين والهند، ناهيك عن التعاون الروسي البارز مع هذه القوى الآسيوية، ومع دول الاتحاد الأوروبي في الوقت عينه.
3- تمرّد دول أمريكا اللاتينية على الإملاءات الأمريكية، والاتجاه نحو نهج استقلالي نسبي في الأمن والاقتصاد والسياسة، بحيث لم تعد منظمة الدول الأمريكية المؤسسة في العام 1949 فضاء رحباً للإدارة الأمريكية.
4- فشل الحرب على الإرهاب التي أعلنها الرئيس جورج بوش بعيد أحداث 11 سبتمبر/ايلول ،2001 مع تفشي ظاهرة الإرهاب على غير صعيد، وفي غير منطقة من العالم. وقد ثبت بالدليل المادي والسياسي ان مكافحة الإرهاب لا تتم بالسلاح الحربي بقدر ما تتحقق بالتنمية والثقافة والعودة الى قواعد الشرعية الدولية، وها هي حرب أفغانستان تثبت هذا الفشل.
5- التخبط الأمريكي في وحول العراق وأفغانستان، بحيث لم تتمكن الإدارة الأمريكية من حسم ما وعدت بتحقيقه في المجال الأمني، هذا على رغم التفوق الأمريكي في مجال التسلح، والمساندة العسكرية الأطلسية في أفغانستان، والبريطانية في العراق
6- بقاء قضية فلسطين من دون تسوية عادلة، ما يعني بقاء ازدواجية المعايير الدولية تجاه أخطر قضية تهدد السلم والأمن الدوليين. وعلى رغم الوعود الأمريكية المتكررة بقيام دولة فلسطينية مستقلة، فإن الواقع على الأرض يخالف هذه الوعود بحيث يتأكد سنة بعد سنة أن التسوية العادلة لا تتحقق بمعزل من القوى الدولية الفاعلة - الأوروبية والآسيوية، وها هي اللجنة الرباعية الدولية تعود لتأخذ دورها بصرف النظر عن النتائج المتوقعة.
7- إصرار الرئيس الروسي بوتين على المشاركة بالخيارات الدولية الرئيسية، وإعلانه بأن الاستقطاب الأحادي غير مقبول دوليا، ولا يوجد مركز ثقل واحد في عالم اليوم، بل ويشير الى الولاياتالمتحدة التي تتجاوز حدودها الدولية في كل الاتجاهات، وعليه فإن الرئيس الروسي يدعو الى إعادة هيكلة الأمن الدولي من جديد.
الى ذلك، يمكن ملاحظة الدور الروسي المتعاظم في الشرق الأوسط والعالم، من خلال مفاوضات الدول الست حول الملف النووي الكوري، وكيف جرت تسويته بمبادرة روسية وصينية.
وكذلك في ملف الصراع الفلسطيني - “الاسرائيلي”، لا بل الصراع العربي -”الاسرائيلي” حيث يعاد إحياء دور اللجنة الرباعية الدولية إلى جانب أدوار إقليمية في الشرق الأوسط. كما أن الملف النووي الإيراني يحظى برعاية روسية مؤثرة داخل الأممالمتحدة وخارجها. لقد استطاع الرئيس الروسي في برنامج اقتصادي وعسكري وسياسي مواجهة التركة الثقيلة لانهيار الاتحاد السوفييتي، فجرى تسديد الدين الخارجي، وإعادة تحريك العجلة الاقتصادية والتجارية العالمية، وتحديث الأنظمة الدفاعية الصاروخية بالتزامن مع توسع حلف شمال الأطلسي نحو أوروبا الشرقية، مع الإبقاء على الروابط الأمنية مع كومنولث الدول المستقلة حديثاً، والتي كانت حتى الأمس القريب جزءاً من المظلة السوفييتية، على رغم إشكاليات جمهورية جورجيا.
لماذا يتضح التباعد الأمريكي - الروسي في هذه المرحلة؟ لأن الانتخابات الرئاسية في كلا البلدين قادمة في العام ،2008 والتحضيرات الاستخباراتية والسياسية والإعلامية آخذة بالظهور، فالإدارة الأمريكية تريد تشجيع وصول رئيس جديد إلى الكرملين قابل للتكيف مع النموذج الليبرالي الأمريكي، فيما يصر بوتين على نهج مستقل، وعلى إعادة الاعتبار للدور الروسي عالمياً. قد لا يريد الرئيس الروسي إعادة أجواء الحرب الباردة من جديد، علماً بأن الظروف العالمية لا تشجع عليها، بيد أنه يرفض بإصرار هيمنة القطب الواحد، ونظام القوة العظمى الواحدة.
على ذلك، قد يزداد التباعد الروسي الأمريكي في الوقت المتبقي. ولا يبدو المجتمع الأمريكي مشجعاً للرئيس الأمريكي جورج بوش، وثمة إشارات علمية عدة في هذا المضمار، بينها استطلاع للرأي العام أجرته هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في 25 بلداً حول السياسة الأمريكية في العراق والشرق الأوسط، وذلك خلال شهر شباط/فبراير من العام الحالي، كشف عن شعور خمسين في المائة من سكان هذه البلدان بالدور السلبي الذي تلعبه الولاياتالمتحدة في العالم، وأن 68 في المائة من المشاركين في الاستطلاع مالوا إلى الاعتقاد بأن الوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط يحرّض على تأجيج الصراع وتوسيع نطاقه، هذا بينما أعرب أكثر من ثمانين في المائة من البريطانيين عن عدم رضاهم عن أفعال الولاياتالمتحدة وسياستها في الحرب على العراق.
هذه إشارات متكررة إلى التخبط الأمريكي في العراق، والشرق الأوسط. وعلى رغم توصيات لجنة بيكر هاملتون وما فيها من جدية، فإن إدارة بوش ماضية في خطة معينة لاستعادة الأمن في العراق. هذا نوع من التمني، ودليل على مزيد من التخبط فيما يصرّ الديمقراطيون على الانسحاب من بلاد الرافدين.. وهو بدوره يساعد بطريقة أو بأخرى على ظهور تعددية قطبية ولو بعد حين.