الاستخدام السياسي للمعونات الأجنبية! صلاح الدين حافظ أعرف أنني دخلت بإرادتي جحر الأفاعي, حين بدأت قبل أسبوعين فتح ملف المعونات الأجنبية, خصوصا الأمريكية لمصر, بكل سلبياتها وإيجابياتها, والاستفادة المتبادلة بين المانح والمتلقي! فما كتبته وما سأكتبه في هذا المكان لم ولن يرضي المانحين للمعونة, ولا المتلقين لها, لا تستريح له الدوائر الرسمية, سواء في مصر أو في أمريكا, ولا تقبله بعض منظمات المجتمع المدني المصري, التي تمولها هذه المعونات, أمريكية كانت أو أوروبية, ولا يقبله الكونجرس الأمريكي الذي يوجه ويراقب ويعدل أوجه صرف المعونة, بما يحقق أهداف أمريكا ويحمي مصالحها, ولا الإعلام الأمريكي! وقد هطلت علي طوال الأيام الماضية رسائل واتصالات كثيرة, تعليقا أو احتجاجا علي المقالين السابقين, خصوصا مقال الأسبوع الماضي المعونة الأمريكية والتمييز بين المسلمين والمسيحيين, قسم من هذه الرسائل يعترض علي سياسة هيئة المعونة في التمييز بين المسلمين والمسيحيين, عند إنفاق المعونة داخل مصر, وربما من وراء ظهر حكومتها, باعتبار ذلك تدخلا من دولة أجنبية يثير شقاقا وصراعا بين أشقاء الوطن الواحد. بينما قسم آخر من الرسائل يري أن ما كتبناه وسجلنا حقائقه, يسيء إلي المسيحيين المصريين, ويحرض ضدهم ويوجه لهم اتهامات غير حقيقية بتلقي بعضهم المعونة الأمريكية بصفتهم الدينية!! وسنتجاوز عما ورد في بعض الرسائل الغاضبة المتعصبة بكل ألفاظها الهابطة, ولغتها المتشنجة, لنستمر في معالجة واحد من أهم الملفات الشائكة في الحياة المصرية المعاصرة, ألا وهو الاستخدام السياسي للمعونة الأمريكية, التي نري أن مصر استفادت منها قليلا, بينما استفادت أمريكا كثيرا. ونبدأ بإعادة تأكيد النقاط المحورية التالية: (1) الكل يعلم أن هناك مشكلات متكررة بين القاهرةوواشنطن بسبب المعونة الأمريكية, تتجدد في كل عام تقريبا, وتلتهب عادة بحملات التهديد بقطعها أو تخفيضها, من جانب سياسيين وبرلمانيين وإعلاميين أمريكيين, بحجة أن مصر لا تؤدي المهمة التي من أجلها تعطيها أمريكا المعونة السنوية, العسكرية منها وتبلغ1.2 مليار دولار, والاقتصادية التي انخفضت من800 مليون إلي نحو400 مليون هذا العام, بما يمثل أقل من1% فقط من إجمالي الناتج القومي المصري, كما قالت الدكتورة فايزة أبو النجا وزيرة التعاون الدولي. (2) نحن لم نتعمد إثارة مشكلة, لأن المشكلة قائمة, ولم نختلقها أو نتعمد أساسا التحريض ضد بعض أشقائنا المسيحيين, الذين تختصهم هيئة المعونة الأمريكية بجزء كبير من إنفاقها, تمييزا عن المسلمين, مما نعتبره تحريضا علي الفتنة ضد الوحدة الوطنية, وهذا هو الخط الأحمر القاني بالنسبة لنا. (3) من يتشكك فيما ذكرناه من حقائق حول هذا الإنفاق التمييزي من جانب المعونة الأمريكية نحيله إلي الوثائق الرسمية الأمريكية التي اعتمدنا عليها, ولدينا الوثيقتان الأصليتان, ويمكن الحصول عليهما بنصوصهما الرسمية المقدمة للكونجرس من خلال الإنترنت علي موقعAmericainArabic.com, الوثيقة الأولي هي نص تقرير أو شهادة قدمها للكونجرس جيمس كوندر نائب رئيس هيئة المعونة, والوثيقة الثانية نص تقرير مكتب خدمة بحوث الكونجرس عن أهداف وأساليب إنفاق المعونة في دول الشرق الأوسط وبينها مصر, وفي الوثيقتين حقائق وأرقام الإنفاق التمييزي علي بعض المسيحيين, مع التوجه لزيادة هذا الإنفاق في العام الجديد. (4) ومثلما ندين الآن هذا التمييز الطائفي في إنفاق المعونة الأمريكية سبق أن أدنا تدفق أموال وتبرعات من دول عربية وإسلامية لدعم جمعيات ومنظمات إسلامية مصرية فقط, سواء ما سمي توظيف الأموال الإسلامية خارج رقابة الدولة, أو ما تسرب من هذه الأموال لمنظمات وجماعات متشددة دينية مارست الإرهاب ضد المصريين مسلمين ومسيحيين! المهم أن تركيزنا الآن ينصب علي التنبيه والتحذير من استغلال الأموال الأجنبية, وفي مقدمتها المعونة الأمريكية, لدفع مصر إلي إشعال الصراع الطائفي والديني, علي النموذجين العراقي واللبناني, وها هو السوداني يدخل علي الخط, ونؤمن أن ما يجري علانية هو جزء من تنفيذ نظرية الفوضي الخلاقة الأمريكية, فهل المطلوب أن نصمت أمام هذه الكارثة القادمة بسرعة أم نحذر وننذر. ولعل سؤالنا الرئيسي كان ولايزال أين دور الرقابة الحكومية المصرية علي إنفاق المعونات الأجنبية؟ ولماذا تقبل اختراق المجتمع وصولا للتمييز الطائفي والديني؟ وما هي طبيعة الشروط أو الضغوط التي تشل قبضتها عن وقف هذا التمييز الخطير؟ وإذا كانت أمريكا تقدم هذه المعونة بشروطها لتحقيق مصالحها وأهدافها, فإلي أي مدي يتفق ذلك مع المصالح والأهداف الوطنية المصرية, فضلا عن القومية؟ وإلي أي مدي تمارس حكومتنا الاستخدام السياسي للمعونة مثلما تمارسه الحكومة الأمريكية؟ أي تأخذ قدر ما تعطي!! من باب التذكير وتأكيد الاستخدام السياسي للمعونة الأمريكية نقول: إن هذه المعونة لمصر بدأت فعليا بهبوط الداهية الأمريكي اليهودي هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية الأسبق أرض مصر, بعيد حرب أكتوبر1973 المجيدة, في محاولة لاحتواء آثارها, بمناوراته السياسية وإغراءاته المالية والاقتصادية. لكن المعونة السنوية تقررت بعد توقيع مصر وإسرائيل اتفاقية كامب ديفيد عام1978, ثم معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية عام1979, وجاءت المعونة لتكون ثمن السلام كما ذكرت الدوائر الأمريكية وقتها, ولتشجيع مصر الدولة العربية المركزية علي نشر الاستقرار وترويج السلام في المنطقة, ومحاربة النفوذ السوفيتي آنذاك, ومقاومة جموح الدول العربية المتشددة مثل سوريا والعراق وليبيا وغيرها. والحقيقة أن مصر الرسمية, في ظل الرئيس السادات, بدأت بعد حرب أكتوبر1973 تحولات سياسية واقتصادية استراتيجية, وجدت فيها السياسة الأمريكية توافقا مع أهدافها, مثل طرد النفوذ السوفيتي من مصر قبل حرب أكتوبر مباشرة, ثم القطيعة مع موسكو, ثم مفاجأة زيارة السادات للقدس بعد الحرب, وصولا لاتفاقيتي كامب ديفيد ومعاهدة السلام مع إسرائيل, وأخيرا بدء سياسة الانفتاح الاقتصادي, وكذلك الانفتاح السياسي النسبي بتشكيل الأحزاب عام1976. وقد كانت كلها توجهات سياسية عليا في مصر, بتغيير بوصلتها الرئيسية من التحالف مع موسكو والمعسكر الاشتراكي, إلي التوجه نحو واشنطن والتصالح مع المعسكر الأوروبي الأمريكي, وفيما بينهما التصالح مع إسرائيل, وكلها متغيرات وجدت فيها أمريكا الهدية المفاجئة علي حد وصف كيسنجر نفسه, فها هي مصر بكل ثقلها تأتينا بإرادتها, فيجب مكافأتها, مثلما يجب الاستفادة من دورها. وللمرة الألف تخطئ السياسة الأمريكية في حساب المواقف وفي تقدير أدوار دول مهمة مثل مصر, فقد تصورت أنها بالمعونة السنوية تستطيع توظيف مصر تماما في إطار استراتيجيتها الكونية, خصوصا في الشرق الأوسط, لكن مصر حاولت منذ الثمانينيات مع بدايات تولي الرئيس مبارك العودة إلي حالة من التوازن بين تحالفها الاستراتيجي مع أمريكا, وارتباطها الأكثر استراتيجية ببيئتها العربية, بين ما تريده منها واشنطن في العمل كشرطي يحفظ الأمن والاستقرار والمصالح الأمريكية الإسرائيلية, وما يريده الشعب والتاريخ والجغرافيا والانتماء, في الانحياز لحل الصراعات الرئيسية, خصوصا الصراع العربي الإسرائيلي ومسئوليتها عنه. وفيما بين التحالف الاستراتيجي مع أمريكا ومعوناتها وأهدافها, والانتماء العربي وحماية الأمن القومي والمصالح الوطنية المصرية الأصيلة, تتأرجح العلاقات بين القاهرةوواشنطن حتي الآن, اختلافا واتفاقا, ضغوطا وضغوطا مضادة, ومن بين أهم أسلحة الضغوط تأتي المعونة الأمريكية السنوية, والاستخدام السياسي لها, بينما أهم أسلحة مصر يكمن في الرفض الشعبي العارم للسياسة الأمريكية وانحيازاتها وضغوطها ومعوناتها المشروطة, وصولا للرفض الشعبي لبرامج الخصخصة والتحول الاقتصادي, وكذلك الضغط الأمريكي لإجراء إصلاحات ديمقراطية مستوردة, لمجرد أن هذه الضغوط تهب من الساحل الأمريكي, ضمن صفقة الاستخدام السياسي! لكن أمريكا لم تفهم حتي الآن سيكولوجية هذا الشعب الهادئ الهادر معا, الغامض المتمرد معا, فقط هي تريد توظيف إمكاناته وقدراته في حماية المصالح الأمريكية, من مسالمة إسرائيل, إلي تطويع الفلسطينيين, ومن مساندة أمريكا في حربها في العراق وأفغانستان والسودان, إلي دعمها فيما تسميه حرب الإرهاب, والتنسيق الأمني والمعلوماتي ضد ما تسميه التطرف الإسلامي, وصولا لمجابهة إيران. وبينما تريد أمريكا من مصر تلك المهام الجسيمة, فإنها تنخر بأدواتها وأموالها وعملائها في صميم المجتمع المصري لتقلبه رأسا علي عقب, وتؤلب فئاته وتكويناته علي بعضها, حتي تحقق علي الأرض نظرية الفوضي الخلاقة, التي تريد تدمير مجتمع من أقدم المجتمعات الإنسانية وأشدها وحدة وتماسكا, لكي يأتيها زاحفا علي بطنه!! الآن.. هل يكفي هذا في شرح وتفسير الاستخدام السياسي للمعونة الأمريكية لمصر, أم أن الأمر يستدعي المزيد!! خير الكلام: قال البحتري: إذا محاسني اللاتي أدل بها كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر! عن صحيفة الاهرام المصرية 15/8/2007