يا أهل فلسطين ذهبت ريحكم * د.مازن حمدونه مر المجتمع الفلسطينيين بالعديد من الصعوبات والمنغصات ، والآلام ، والأزمات التي لازمت القضية الفلسطينية منذ الإمبراطورية العثمانية ،ودورها في نشر مآسي الفقر في فلسطين، ونهب ثروات المجتمع الفلسطيني في سبيل توسيع إمبراطوريتها ، واستهلاك الموارد والمقدرات المادية والبشرية في الإنفاق على الحروب والصراع مع الدول الامبريالية . ساد في ذلك العصر الفقر ، والفقر العنيف كل أرجاء الوطن ، خاصة انتشاره في أوساط الفلاحين الفقراء .و لم يهنئ بال المجتمع الفلسطيني حتى تمزقت الإمبراطورية العثمانية لتحل محلها إمبراطورية المستعمرات البريطانية والتي استحوذت على فلسطين كغنيمة حرب ، وثم قدمت بريطانيا العظمى في ذلك الوقت فلسطين كهبة للصهيونية ، متجاهلة أصحاب الأرض التاريخيين بوعود وهبات من لا يملك لمن لا يستحق ، هذا الدور جاء في ظل عصبة الأممالمتحدة ، حيث ترنحت قضية الشعب الفلسطيني ما بين مصالح الملوك ، وتحالفات الدول الاستعمارية في إطار عام من الجهل والهزيمة ، حل شعب بألوانه الغريبة وأطيافه العجيبة ، محل شعب متجذر الأنساب ، كل هذا تم تحت وابل وأزيز الرصاص وقصف الطائرات .إلا ان ما هو اخطر من كل هذا وذاك ، غوص الفلسطينيون في وحل الصراع والاقتتال الداخلي .مر الشعب الفلسطيني بنكبة 1948 مرورا بنكسة 1967 ، وأخيرا ربض تحت قصف تدمير الذات كلها تحت عبارات التحرير. فكلما هزت عروش احد الأباطرة ، او أمراء العرب هزة قال من اجل تحرير فلسطين ، والان الا يحق لمن هم من أهل فلسطين ان لا يحملوا ويرددوا نفس العبارات؟! . كان العمود الفقري للشعب الفلسطيني وشريان حياته تمسكه بذاكرة التاريخ ، وكان في كل مرة يخرج من تحت الركام متحديا الموت المفزوع منه أصلاً ، كي ينال الحياة ، فكل أقلام المردين بالحرية والديمقراطية ، وكل منظري القوميات والعروبات ، لم تستنهض لا الجيوش ولا شعب العروش .
وبقي اللاجئ الفلسطيني وكل أهل فلسطيني يئنون من وطأة الاحتلال ، وحالهم مبعثر ، ونفوسهم مكسورة ..استنهضهم الثأر لكرامتهم ... لتاريخهم .. لأصالتهم المجروحة في ظل التقريع العربي الذي طال مناهجهم .جل ما سعت إليه إسرائيل شطب الشعب الفلسطيني من حاضرة التاريخ ، الا انه لم يتمكن من شطب حاملي التاريخ ، عبروا عنه في كتاباتهم ، ثقافتهم ، تضحياتهم ...شهد المجتمع الفلسطيني تمسكاً بالمبادئ والقيم رغم الانتكاسات في مسيرة حياة أمه . فالحروب العسكرية لم تنل من قدرة المجتمع في محطات عديدة ، كل مرة يعلن ثورته وتمسكه بقيمه ومبادئه ،الا ان ما يؤرق المتخصصين في مجال علم النفس الاجتماعي ، هو تبدل القيم في المجتمع الفلسطيني تحت مفاهيم معتلة .
ففي عهد ما قبل قدوم السلطة وقبل الانتفاضة الأولى ، انتشرت قيم المادية ، وانتشرت الانحرافات الأخلاقية وأصبحت القيم التلازمية مع الاحتلال تنذر بناقوس خطر ، فخرج المجتمع عليها معلنا سحقها مهما كانت التضحيات ، وحسم معركته معها ، تلك القيم الوافدة المنحلة والمتحللة من أصولها ، وافدة من حوليات أناس ضربوا وغرسوا جذورهم السرطانية في تراب الوطن الجريح تحت سطوة الأمر الواقع ، وشهدنا ترويجا لها في ظل غياب الوعي الاجتماعي والثقافي ، كل هذا وكان أساتذتنا واكادميونا في خلوة مسهدة متقوقعة من وهن الخوف المرعب المتجذر في مكاسب الذات . كل هذه الثقافات الغازية بايجابياتها المادية وسلبياتها القيمية ،سقطت وانتحرت في لحظة الحسم الأول وفي أول مفاصل لها إمام القيم المعنوية الأصيلة في لحظات الحسم التاريخي .وفي إحدى مراحل المواجهة كانت نيران الغضب تلتهم واجهة الجنود الإسرائيليون ، في حين كانت النار تأكل وقود الصمود من ظهرانينا . لم تشهد التجربة الفلسطينية نجاحا كبيراً ،أو أكيدا في مسيرتها النضالية نتيجة عمق الأخطاء في ممارسة التجربة، وتغييب العمق المجتمعي ، والنخبوي والمهني في توجيه البوصلة في مسارها الصحيح .ودون مواربة انطلقت حركة حماس في بناء ذاتها مؤسساتيا على مستوى الوعي الجماهيري إلى ان كسبت مساحة عريضة من المجتمع الفلسطيني في ظل غياب التوجس لها من قبل الحركات الوطنية الأخرى ..وفي ظل حقبة التسطير في ظل قدوم السلطة الوطنية الفلسطينية ، رحلت عن تراب البؤس العربي الذي هي لم تصونه كما لم يصنها بالمثل .
وفي ظل غياب رسم سياسات البناء الحقيقي والجدي وعمومية لغة المصالح ، وهيمنة الواهمون على مراكز القرار ، هيمنت العشائرية وغيبت لغة المنطق ، ولغة إدارة المؤسسات ، وحل الفاسدون والجاهلون ضيوفا على مقراتهم ومكاتبهم ، وخاض كل باجتهاداته مفهوم الأمن الغائب ، وكثير ممن غيبوا ضمائرهم ، وفي حضرة أمراء الفساد عمت الصراعات ، وتمزقت المسيرة ، إلى ان استطاع كل المتربصين ان ينالوا من الأهداف العامة ليحولوها إلى أهدافهم الخاصة ، وكل جنا ما كان يسهر الليالي من اجله . فلا الانقلابيين غيروا نظريات الفساد ، ولا عاقبوا الفاسدين ، ولا هم تخلصوا من خطايا الكراهية والاستمراء . فاختلطت كل المفاهيم ، اختلطت الردة والزوان ، بحبات الثمر . وفي عصر أهل الرايات ، كثرت الفتاوى الحزبية ، والفتاوى التكفيرية ، ونحروا القيم على مذابح الوطن ، ونحروا المحرمات من الوريد إلى الوريد .. وكل لغات التنذير والتحذير لم تسعف واقع الحال.. رغم إنذارات الباحثين والناقدين الا أنهم مضوا في تمرير الأهداف الخاصة والحزبية في صناعة شلليات جديدة على غرار شلليات الأمس ، وكل بلون جديد وبمفاهيم جديدة تتوافق مع لغة المصالح الخاصة . أصبح التاريخ والشعب رهينة ودروعا بشرية في التفرد ، في مواجهة التحديات على حساب مقدرات الشعب ، وعلى حساب صمود الناس .كل مكونات خلايا الفكر الغريب الأطوار ، ومتعدد الأشكال يمثل ناقوس خطر ، سيؤتي على المجتمع تحصيل حاصل أسوة ببلاد كالعراق ، والباكستان ، ولبنان وان تعددت المسميات ، فمن حركات التنوير إلى التصليح إلى التغيير إلى ما يعلم الله ... ومرورا بجيش الإسلام وفتح الإسلام والقيادات العامة والخاصة ، والقاعدة وأخيرا استبشروا خيرا مواقع للتشيع على الانترنت في غزة ، ليس هذا من باب الاختلاف الاجتهادي قدر صناعة الاختلاف ، يذكرني بالدحرجة الأمنية للوصول إلى ما وصلنا إليه من أزمات . كلهم دعاة موعظة ، ويسبحون في ظلمات الظلم .. يهيمون في مساحات واسعة من المناورات الوهمية ، وثم يطبقون على أنفاس الشعب بعبارات التسكين والتخدير .تجدهم قريبون منك ، وهم بعيدون كل البعد عن آلامك..وكلما واجهت إحدى الفريقين فرقة ، حركوا له تحت ساتر الظلام فرقا أخرى للتلويح بها ، عبر محطات هم يريدونها . الأزمة الحقيقية في هذه النخب أنهم لا يقودون المجتمع إلى نصر أكيد قدر الهلاك المؤكد .تأخذهم العزة بالإثم ، فلا يتراجعون عن خطاياهم قبل فوات الأوان قدر تحريض العامة على فرقة تتعارض مصالحهم معها .ومتى التحموا بهم أصبحوا ينعتونهم بالإخوة . اخشي كل ما أخشاه ان ينقلب الهرم رأسا على عقب وان تستطيع الشرذمة ان تجر في ركابها الشغب برمته فسراً ، أو بعض الطواعية في ظل ضغوط الحياة للسير في ركابها ، أو يتحول الصراع للانتحار الجمعي من كلا الفرقاء ، كلا وبطريقته الخاصة . اخشي ان تغلب مفاهيم القدرية ويصبح الجميع مستسلما للنكبات . وفي النهاية تكون التجربة الفلسطينية رهينة قطبين لا ثالث لهما ، المادية بسلبياتها ، والقدرية بقباحتها .لا يجرؤ احد على نقدها أو الاعتراض عليها حفاظا على مفاصل أرجلهم ، أو الغياب القسري جراء عملية قيصرية بالخطف والتنكيل .. او البقاء متضورين جوعى نتيجة غياب لغة المنطق والحلال والحرام طالما تم تجاوز كل الخطوط الحمر وانتهكت كل خطوط المحرمات. ترى انهم خاضوا واحلوا الصراع بدل التنافس ، واستهووا القتل على النصيحة، والكلمة الطيبة . فلطالما مررنا بكل التجارب منذ تغليب لغة المصالح ، وأخلاقيات السوق ، والمنفعة الذاتية ، وخطوات الفرد تحولت إلى شخصية وغاب الإحساس بالخطر العام ، وضاعت روح الشهامة والمروءة ، وإذا شاهدنا شخصا يعذب أو يقتل أو يخطف ، وكان سريرة الفرد طالما بعيدا عنى فليذهبوا إلى الجحيم ، اعتقد أنكم جميعا ستذهبون حتما إلى الجحيم الأعظم . ولطالما حل عصر المداهنات والمهادنات ، وتبدلت المفاهيم ، وأصبحت الثقافة استعراض لغوي واستعراض للخطابات ... فارحلوا ايها المقامرون عنا جميعكم واتركوا مصير هذا الشعب ، وارفعوا أيديكم عن القضية فانتم لشعوبكم ولدينكم كنتم من العاصين والظالمين .