عندما فرح العراقيون رنا خالد لم نكن يوما من هواة الرياضة عموما وكرة القدم خصوصا وربما هذا الأمر ينطبق على معظمنا فلماذا نشاهد كرة القدم وكيف نتابع أحداثها والألم يعتصر قلوبنا لكل البلايا والرزايا التي تطيح بأمتنا العربية؟
وما إدراكهم ما هية البلايا في حياتنا نحن العراقيين! ولكن يبدو أن مباراة نهائي كأس آسيا كانت درسا لم نعرفه في سياقات أحداث الشعوب المنكوبة، إنها بلا شك ليست حدثا رياضيا انها حدث إنساني بكل المقاييس.
لقد كان فوز المنتخب العراقي معجزة بكل المعاني، لأنك عندما تعيد الفرح إلى شعب منكوب مثل الشعب العراقي لابد أن ذلك معجزة بل إن هذا الشعب الذي يذبح يوميا والذي يعيش في الداخل مآسي الجوع والفقر المدقع والمرض والإبادة والتعذيب خرج ليرقص في شوارعه المليئة بالجثث والمفخخات والخراب.
أما العراقيون في الخارج فهم ليسوا بأحسن حالا، فالغربة تمزقهم والبطالة والخوف من العودة تقتلهم ونقص الأموال والأنفس يهدد حياتهم وفراق أحبائهم وأصدقائهم ومع ذلك خرجوا متناسين كل جراحهم يمزجون الدمعة بالفرحة، ليرقصوا رقصات الفرح التي تشبه رقصات من يبذل كل قوته وأقصى طاقته وكأنه يدرك انه ربما سينتظر طويلا قبل أن يرقص فرحا مرة أخرى.
أصدقاؤنا في بغداد فضوا مجالس عزائهم التي كانوا يقيمونها حزنا على فلذاتهم الذين قضوا في انفجار في وسط بغداد وحولوا الحزن إلى رقص وفرح ودعوات للمنتخب الوطني وأخرى تتضرع أن تمتد أوقات الفرح إلى بعض الوقت، لأن الغد ليس فيه فرح وليس فيه انتصار وليس فيه سوى الموت.
آخرون في بغداد ومدن العراق قرروا أن يسموا أطفالهم الجدد بأسماء ابرز لاعبي المنتخب الوطني وبالتالي لم تعد أسماؤنا سنية أو شيعية أو عربية أو كردية، أسماؤنا عراقية، عراقية فقط. كما لم تعد شوارعنا باكية وحزينة كما هي منذ سنوات بل مِلؤُها الفرحة، تلك الفرحة الصغيرة التي ضمدت جراحاتنا المؤلمة.
لقد عاد لنا ألقابنا التي اعتقدنا أنها ربما لن تعود يوماً، فصار لقبنا اسود الرافدين بعد أن مللنا من أسماء كالمهجرين والمبعدين والميليشيات والمؤتلفين والمتوافقين. على ذكر المؤتلفين والمتوافقين فلقد أدارت الجماهير بالفرحة ظهرها عن السياسيين العراقيين، وتجاهلت اخبارهم وأخبار سياستهم المخيبة للآمال فكان لسان حالهم انتم لستم عراقنا.
وعراقنا العظيم ليس حكومتكم أو ما تحكمون، فلم يبدر أي اهتمام بخبر انشقاق الحكومة العراقية حتى أن الناس تجاهلوا الموضوع وخرجوا يرقصون ويفرحون ويوزعون الحلوى فرحا بانجاز شباب عانوا إهمال الحكومة العراقية لهم فتركتهم دون أن تقدم لهم أدنى دعم مادي أو معنوي تركتهم حتى دون أن تحجز لهم بطاقات سفر لكي يصلوا إلى العاصمة الإندونيسية بصورة تليق باسم العراق،
بل تركتهم يبيتون في مطارات آسيا بحثا عن مكان في طائرة توصلهم في موعدهم المحدد إلى وجهتهم. بل حتى لم يكلف احد المسؤولين العراقيين نفسه فيأتي ليواكب المنتخب، ليشعروا أن هناك حكومة تحرص على سمعة العراق وعلى صورته في العالم. ثم تهافت السياسيون العراقيون بعد فوز المنتخب ليقدموا مزايداتهم،
فهذا يبارك وهذا أصبح كريما فصار يكرم المنتخب العراقي ماديا والآخر يدعو المنتخب إلى العودة إلى بغداد لكي يحتفل بفوزه وجملة من المزايدات الفارغة تليق بحكومة مثل التي تختبئ في مكان ما في بغداد.
عموما فرحة العراقيين هذه المرة لن يزايد عليها احد فهي من صنع العراقيين وهي بركة إلهية مثلها مثل قطرات الندى التي ترطب قلوبا جففتها الأحزان فصارت بورا من براعم السعادة والأمل. إنها أكاليل غار توجت رؤوس من ماتوا بلا ذنب سوى حب العراق. إنها فرحة جعلت أمهاتنا أخيراً بلا دموع الحزن وآباءنا أخيراً بلا حسرة الهزيمة وقلة الحيلة وشبابنا بلا خيبة الأمل.
ربما هذه الفرحة لن تكون طويلة فالقدر لا يزال يخبئ الهموم للعراقيين، وربما هذه الفرحة لن تكفينا لكي نمحو جراحنا وندفن ثاراتنا. ولكن لابد أن تعلمنا هذه الفرحة أننا جميعا عراقيون وان ما يفرقنا ليس سوى قلة، خوفنا وحزننا يجعلنا نراهم كثرة وقوة لا تنتهي. هذه الفرحة لابد أن تلهمنا أن المحتل لن يحمينا ويمنحنا الأمن، وأن السياسيين الذين نتبعهم ليسوا حلولنا ولا حتى الذين يزايدون باسم العقيدة والدين.
إن الذي نحتاجه هم سياسيون مثل لاعبي المنتخب الوطني، عراقيون أصيلون يجمعون بين الاحتراف والحبكة وبين المعنويات العالية التي يستمدونها من الجماهير التي تحبهم وتفديهم ما دام هدفهم فرح العراقيين وسعادتهم وإعلاء كلمتهم،
بل إننا نحتاج إلى قائد له روح مدرب المنتخب العراقي البرازيلي فييرا، ليس له منافع شخصية بل انه مخلص حتى النهاية لكي يصل بهذه القلة المستضعفة إلى بر الأمان. نحن بحاجة إلى مثل هذا القائد في كل مؤسساتنا التي ابتليت بالدخلاء والعملاء والفاسدين.
ولابد من القول إننا لم نتوقع أن السماء ستكون بهذا اللون الجميل وان عراقيتنا بهذا الشكل الرائع يوم أن فرح العراقيون بل لم أكن أتصور أن هناك شيئا في الحاضر أو في المستقبل يمكن أن يفرح العراقيين جميعا. وأتصور أنكم متفقون معنا أن العالم بكل أشكاله وألوانه لم يفرح لان المنتخب العراقي فاز بكاس آسيا بل لأنه رأى العراقيين فرحين مستبشرين.
حتى ان بعض أصدقائنا الأجانب قالوا إنهم عندما شاهدوا في الأخبار صور العراقيين، وهم يرقصون في الشوارع ظنوا أن الجيش الأميركي قد انسحب من العراق. فقد تعود العالم أن يسمع عن المآسي والفظائع في العراق، ولم يتعودوا على منظر الرقص والغناء في الشوارع والمقاهي.
وختاما نتوجه بالشكر الجزيل لتلك الكرة المستديرة التي جعلت العراقيين يفرحون وذكرتنا بالفرح وجعلت العراق يبدو جنة في عيون أهله واقرب من الشرايين في أجساد المبعدين عنه.
وشكراً للذين فرحوا معنا واحترموا أفراحنا، لأنهم جعلونا ندرك بأننا لسنا وحيدين في الألم والمعاناة، بل إن هناك من ينتظر فرحنا وعلى رأسهم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم.
يوم فرح العراقيين سكتت البنادق وذهبت أشباح الموت والخوف، وغطى العار المضاربين والمزايدين بأرواحنا، وانبلج ضوء خافت أنار لنا ظلاما يحاصرنا وهب نسيم خفيف على وجوهنا الحزينة، وصار لنا لون ورائحة عراقية خالصة، وضاعت للحظة المسافات الطويلة التي تشتتنا. وصرنا اسود الرافدين.. كل ذلك يوم أن فرح العراقيون. عن صحيفة البيان الاماراتية 4/8/2007