د. عبدالحميد الأنصاري بالأمس القريب، كان يزأر كالأسد من فوق منبر الجامع الأحمر، ويتحدي شرعية الدولة، ويعلن الجهاد ضد الحكومة الباكستانية، ويتوعد بإطلاق عشرة آلاف انتحاري من الطلاب والطالبات في المدارس القرآنية الملحقة بالجامع، وعندما بدأت المواجهات العسكرية وحوصر، حاول الفرار متخفياً في نقاب امرأة، تاركاً طلابه وأخاه لمصيرهم المحتوم. إنه مولانا عبدالعزيز الذي نجح في تحويل الجامع الأحمر إلي مركز للتطرف وقلعة حصينة تخرج منها حملات الأمر بالمعروف وترك المنكر للإغارة علي محلات الموسيقي والفيديو وخطف النساء بحجة أنهن منحرفات يريد تتويبهن! لقد أصبح زعيماً تحت إمرته عشرة آلاف طالب وطالبة، دربهم علي السلاح استعداداً للجهاد ضد الحكومة العلمانية التي لا تطبق الشريعة حسب مفهومه الضيق. وكان قد صرح للصحف أنه يحب طالبان وأصدر فتاوي ضد وزيرة السياحة وضد الجيش الباكستاني وأقام محكمة للشريعة وداراً للإفتاء خارج إطار سلطة الدولة. فماذا كانت النتيجة؟! كانت مأساوية، نجا مولانا عبدالعزيز بهروبه ولكن طلابه المتحصنين وأخاه، رفضوا الاستسلام وفضلوا الموت، فكان الاقتحام وكانت الحصيلة المئات من القتلي والجرحي علي مدار حصار الأيام الثمانية. القضية - الآن- ليست محصورة في تطرف طلاب المسجد الأحمر وطالبات مدرسة حفصة- القضية أكبر وأعظم، فهناك المئات من الألوف من المدارس الدينية علي امتداد الساحة الإسلامية والعربية التي تلقن طلابها تعليماً دينياً متطرفاً- علي سبيل المثال، بنجلادش وحدها توجد بها 64 ألف مدرسة دينية تعمل وفقاً للتوجهات المتطرفة- والاسئلة المطروحة علي خلفية هذا الحدث المأساوي عديدة: 1- لماذا تحولت المساجد إلي مراكز للتطرف؟ 2- لماذا أصبحت المدارس الدينية مدارس لتخريج الانتحاريين والانتحاريات؟ 3- لماذا أصبحت الجماعات الدينية تتحدي شرعية الدولة وما أهدافها؟ 4- لماذا أصبحت الحلقة الباكستانية وراء كل مخطط ارهابي إما في التمويل أو التجنيد أو التخطيط؟ 5- ما هي الدروس المستفادة من هذه المأساة؟ بالنسبة للسؤالين الأولين، يلاحظ المراقبون والمحللون أن العديد من المساجد والمدارس سواء في الساحة الإسلامية أو العربية أو حتي في أوروبا واستراليا تحولت علي يد جماعات ورموز الإسلام السياسي وجماعات التطرف ومشايخ التحريض إلي مراكز لتصدير الفكر المتشدد والمعادي للمجتمع والدولة والحضارة. لقد تم انتهاك قدسية المساجد وهي منابر للهداية والارشاد بفعل التسييس الديني فأصبحت بيوت الله ميادين للدعاية الحزبية والترويج لطروحات أيدلوجية متشددة وأصبحت المظاهرات تخرج من المساجد وتحول دور العبادة إلي ساحات للمهاترات السياسية والصراعات الأيدلوجية. وأتصور أن المسؤولية الرئيسية تقع علي الدولة التي سمحت وتساهلت وتحالفت بل ودعمت تلك الجماعات الظلامية من أجل كسب سياسي زائف، بحجة أنهم يسيطرون علي الشارع السياسي. وبالنسبة للسؤال الثالث: كيف تحولت الجماعات الدينية إلي تحدي شرعية السلطة؟ وما أهدافها؟ أولاً: تلك الجماعات لا تعترف بشرعية السلطة القائمة لأنها لا تطبق الشريعة حسب مفهومها متمثلة في وجوب اطلاق اللحي وفرض النقاب والجلد والرجم ومحاربة جميع مظاهر الحضارة المعاصرة. وثانياً: المناهج الدينية لتلك المدارس، ماضوية، ذات محتوي تعصبي، وبعيدة عن علوم العصر ومعارفه الإنسانية، وتلقن طلابها مفاهيم مغلوطة عن الجهاد ، الأمر بالمعروف ، الولاء والبراء ، الحاكمية . وتختار من الآراء الفقهية أشدها تخلفاً ضد المرأة والأقليات الدينية، ولا تدعم روح الانتماء والولاء في نفسية الطالب للوطن بل معاداته وكراهية الدولة باعتبارها علمانية تنفذ إملاءات الكفار- الغرب وأمريكا- ضد المسلمين، ومن ثم يسهل اقناع طلابها بالجهاد ضد الدولة لدرجة الانتحار. أما بالنسبة للسؤال الرابع فالمعروف أن المدارس الدينية في باكستان تخرج منها معظم المتطرفين الذين أصبحوا قادة للجماعات الدينية، بدءاً بطالبان ومروراً بالجماعات الدينية المحتشدة في الساحة الباكستانية وانتهاء بالانتحاريين الذين نفذوا عملياتهم في لندن وأخيراً وليس آخراً طلاب وطالبات المسجد الأحمر. أما أهداف تلك الجماعات الدينية علي اختلاف تسمياتها وتعدد قادتها فهي هدف واحد، استعادة الخلافة الإسلامية، وتطبيق الشريعة وفق نموذج طالبان . ولذلك كان مشرف محقاً في دعوته الشعب لمواجهة الفكر الظلامي. الآن ما هي الدروس المستفادة؟ في تصوري أن هناك الكثير من الدروس المستفادة من مأساة المسجد الأحمر، منها: 1) إن سياسات التحالف مع الجماعات الدينية، فاشلة، وكل الحكومات التي هادنت أو تغاضت عن سلوكيات تلك الجماعات وسيطرتها علي المؤسسات المجتمعية، لأهداف سياسية، تسببت في كوارث لشعوبها واهتزت مصداقيتها لدي المجتمع الدولي، وكانت العاقبة أن انقلبت تلك الجماعات علي الشرعية، والأمثلة عديدة. كما أن جهود لجان الوساطة والمصالحة وسياسات العفو كلها باءت بالفشل، لأن العنف جزء أساسي وأصيل في عقيدة وثقافة تلك الجماعات. ولعلنا نتذكر قصة الراعي الذي ربي جرو ذئب وأرضعه من شاته، فلما شب وبرزت أنيابه هجم عليها وأكلها، فقال قصيدته المشهورة: بقرت شويهتي وفجعت قلبي وأنت لشاتنا ولد ربيب إذاكان الطباع طباع سوء فلا أدب يفيد ولا أديب 2) إن التعليم الديني المنغلق هو المسؤول الأول عن تفاقم ظاهرة العنف التي تسود العالم والمنطقة وهو المفرخ الأساسي للانتحاريين الجدد. ولذلك فإن تفكيك بنية الخطاب الديني وضبط منابره وتطوير التعليم الديني ومحاسبة مشايخ التحريض، خطوات أولية ضرورية لتحصين الوطن وحماية المجتمع وتدعيم الشرعية والتصالح مع العالم، وينبغي إدراج- خطر التطرف- في المناهج واقرار تشريعات تجرم فتاوي مشايخ التحريض. 3) إن التعصب الديني الذي يكرسه التعليم المنغلق، لهو العدو الأخطر علي المسلمين يهدد بتمزيق المجتمعات الإسلامية إلي دويلات دينية ظلامية كما ينذر بتدمير شرعية الدول العربية المعاصرة. 4) إن التجارب المعاصرة لسلوكيات تلك الجماعات للوصول للسلطة، تثبت عدم إيمانها بالأسلوب الديمقراطي كما تثبت أنها لو وصلت بالديمقراطية فإنها لن تترك السلطة أبداً ومهما كان الثمن لأنها تعتبرها منحة إلهية مطلقة.