أزمة غزة: أهمية يقظة الوعي داخل حركة فتح بلال الحسن يختلف الفلسطينيون فيما بينهم ويصلون إلى مرحلة الاقتتال والانقسام السياسي والجغرافي، بينما يواصل الاحتلال الإسرائيلي ضربهم يوميا بالتساوي، ولا يميز بين فريق وفريق. وتنهال مقولات عربية وفلسطينية تصور هول ما يجري. ولكن نادرا ما يبادر أحد ليسأل عن السبب الأساسي لهذا الذي يجري. هل هو سوء في النوايا؟ هل هو سوء في الأفراد؟ هل هو المكر والخداع والانقلاب والإمارة والقاعدة كما يقول الكثيرون؟ إن الشعوب كثيرا ما تتعرض لحادث من هذا النوع، وكثيرا ما تشهد الثورات بخاصة حالات اختلاف ومواجهة واقتتال. حدث ذلك في ثورة فيتنام التي شهدت عمليات تصفية واسعة لكل من هو ضد الثورة المسلحة . وحدث ذلك في ثورة الجزائر التي شهدت اقتتالا دمويا داخليا لا تزال آثاره متواصلة حتى الآن. وحدث ذلك في ثورة جنوب اليمن المحتل (اليمن الديمقراطية) في الصراع الذي نشب بين الجبهة القومية وجبهة التحرير. ولكن لا أحد يتحدث الآن عن ذلك إلا كجزء من التاريخ، بينما يتم التركيز على أن هذه الثورات قد وصلت إلى هدفها الأساسي بالتحرير والاستقلال. وشيء شبيه بهذا هو ما يجري الآن في الساحة الفلسطينية، خلاف واقتتال دموي، لا يمكن لأحد أن يقره مصلحيا أو ضميريا، ولكنه أمر قائم. ولا بد أن تكون له أسبابه، وهو ما يجب أن نبحث عنه، متجاوزين الاكتفاء بوصف أو استنكار ما يجري فقط. لقد كانت خلافات الثورات تجري دائما حول تحديد الهدف المركزي، وحول تحديد أسلوب الوصول إلى الهدف، وكانت الأمور تستقيم حين يتم الوصول إلى توافق حول هذين الأمرين. ما يجري في الساحة الفلسطينية الآن لا يخرج عن هذا الإطار الكبير والهام. وهو ما يجب أن تتركز عليه الأنظار، وأن يكون موضوع البحث كمدخل لحل الخلاف والوصول إلى حالة التوافق. ومن يعرف تاريخ الثورة الفلسطينية، يعرف أن الخلافات كانت قائمة فيها بشكل دائم، ولكن تلك الخلافات كانت تبقى دائما تحت سقف الانفجار بسبب التوافق القائم حول الهدف والأسلوب. حدث ذلك داخل حركة فتح، وحدث داخل الجبهة الشعبية، وحدث داخل الفصائل الأخرى، وحدث حتى داخل منظمة التحرير (جبهة الرفض)، وها هو يحدث من جديد داخل ما يسمى (الحكم الذاتي الفلسطيني) بين حركتي فتح وحماس. إنه الحراك الشعبي الطبيعي، ولكن شرط أن يبقى داخل إطار التوافق حول الهدف والأسلوب، وهذا هو بالذات ما يجب أن تركز عليه الأنظار. لقد كان هناك مشروع وطني فلسطيني حاز على توافق سياسي. كان عنوان هذا المشروع هو الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة فوق الأراضي التي تم احتلالها عام 1967. واستمر التوافق حول هذا المشروع حتى العام 1993 الذي شهد توقيع اتفاق اوسلو، وعندها نشأ خلاف وانقسام. البعض رأى أنه الطريق إلى تحقيق الهدف، والبعض رأى أنه طريق الانحراف عن الهدف. وكان يجوز في ذلك العام وفي الأعوام التي تلته أن يخضع هذا الأمر إلى النقاش والتحليل، ولكن الأمر حسم حين اتضحت ملامح الوضع على الأرض، وبخاصة بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد 2000، وبعد وضع سياسة حكومة آرييل شارون موضع التطبيق. تبين في ظل هذه التطورات أن المشروع الوطني الفلسطيني قد فشل. وهناك آراء كثيرة حول أسباب هذا الفشل، ولكن السبب الأساسي في رأيي يعود إلى سياسة إسرائيل، ويعود إلى نظرة إسرائيل لاتفاق اوسلو وغاياته، ومن دون أن ننسى دعم الولاياتالمتحدة الأميركية لسياسة إسرائيل هذه تحت شعار «مقاومة الإرهاب». كان أنصار اتفاق اوسلو يرون أنه المدخل لبناء الشخصية الوطنية الفلسطينية التي تضع حدا لتمدد المشروع الصهيوني وإيقاف زحفه، وكان الإسرائيليون يرفضون أول ما يرفضون بناء هذه الشخصية الوطنية الفلسطينية، ويعملون ويناورون ويفاوضون من أجل منع هذا الهدف من التحقق. وكانت ثغرات اتفاق اوسلو تتيح لهم تحقيق هدفهم الخاص، بينما تمنع على الفلسطينيين تحقيق ما يصبون إليه. وبالتحديد نقول إن إسرائيل وضعت لنفسها ثلاثة أهداف، تلتقي كلها حول القضاء على الحركة الوطنية الفلسطينية، وهذه الأهداف هي: القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية، والقضاء على السلطة الفلسطينية النامية إلى جانبها، ثم القضاء أخيرا على حركة فتح التي شكلت الحزب السياسي الحاكم للسلطة الفلسطينية. اعتبرت إسرائيل أن مجرد قبول منظمة التحرير الفلسطينية بتوقيع الاتفاق معها، والاعتراف رسميا بها، وقبول تأجيل البحث بقضايا الحدود والقدس والاستيطان والمياه واللاجئين، والإقدام على إلغاء الميثاق الوطني الفلسطيني، والاستعداد للعمل في إطار الحكم الذاتي داخل قبضة الاحتلال والسيادة الإسرائيلية، هو إنهاء فعلي لمنظمة التحرير الفلسطينية. وحين فشلت مفاوضات كامب ديفيد 2000 مع ايهود باراك، واندلعت بعد ذلك الانتفاضة الفلسطينية الثانية، فهمت إسرائيل أن هدفها لم يتحقق كاملا بعد، فبادرت تحت قيادة آرييل شارون إلى تنفيذ الهدف الثاني (والذي يضمن تحقيق الهدف الأول أيضا)، وهو ضرب السلطة الفلسطينية الناشئة وتدمير أجهزتها، بدءا من إعادة احتلال الضفة الغربية، إلى حصار عرفات والقضاء عليه، وانتهاء بتدمير أجهزة السلطة ماديا، ولم تستثن من ذلك حتى مباني الوزارات واستوديوهات الإذاعة والتلفزيون. وحين تم لها ذلك تفرغت لتحقيق الهدف الثالث وهو القضاء على حركة فتح وامتداداتها المناضلة (كتائب الأقصى). وكان في ظن إسرائيل أنه حين يتحقق هذا الهدف الثالث يكون قد تم القضاء نهائيا على الحركة الوطنية الفلسطينية، ويتولد على الأرض الشرط الموضوعي لاستيلاد قيادة فلسطينية جديدة تقبل الأمر الواقع، وتقبل بالتحديد أن تدير كيانا فلسطينيا يخضع كليا للسيطرة الاستراتيجية الإسرائيلية في موضوعي الأمن والاقتصاد. وهنا برزت وبقوة، توجهات نزع الصلاحيات المالية والأمنية من يد الرئيس الراحل ياسر عرفات. وبرزت وبقوة دعوات تيار داخل جيل الشباب (كتلة محمد دحلان) ضد قيادة حركة فتح، ووصفها بالقيادة المترهلة التي شاخت ويجب استبدالها بقيادة شابة جديدة. وبرزت وبقوة على يد هذه الكتلة شعارات الصراع بين الداخل والخارج، وهدفها الحقيقي التركيز على حل يعالج المصالح اليومية لأهل الداخل فقط، ويتنازل عن معالجة القضية الفلسطينية ككل، ويتنازل بالتحديد عن موضوع حق العودة. وتم دعم هذا التيار بقوة، من خلال الولاياتالمتحدة الأميركية، ومن خلال إسرائيل، كما أصبح معروفا الآن. هنا .... تدخل التاريخ وحدث ما لم يكن في الحسبان. نجحت حركة حماس في الانتخابات الفلسطينية، وأصبحت هي القوة الأبرز في المشهد السياسي الفلسطيني. وهي حركة تعمل من خارج اتفاق اوسلو ومضامينه وتداعياته. وقوبل نجاحها بالغضب، وبالاستنفار العالمي، وبالحصار، وبالمقاطعة السياسية. توقف تنفيذ المخطط الأميركي الإسرائيلي بفعل أمر قاهر، ولا بد من معالجته أولا ، قبل العودة إلى موضوع المعركة الرئيسي. وليس صحيحا أن القوى الفلسطينية والعربية وقفت عاجزة أو سلبية تجاه هذا الوضع. فقد كانت هناك لقاءات حوار برعاية مصر، أنتجت ما عرف باسم «تفاهمات القاهرة». وكان هناك جدل فلسطيني داخلي أنتج موقفا سياسيا موحدا حول ما عرف باسم «وثيقة الأسرى». وكان هناك أخيرا الموقف الأبرز الذي رعته السعودية وحمل اسم «اتفاق مكة» الذي بلور مفهوم الشراكة السياسية. وتشكل هذه الوثائق الثلاث قاعدة مناسبة لقيام حوار فلسطيني داخلي يتصدى للقضية المركزية التي تجب كل خلاف، وهي قضية الاتفاق على الهدف والأسلوب. وما عرقل وضع هذه الاتفاقات الثلاثة موضع التطبيق، هو أن الكتلة المتعاطفة مع الرؤية الأميركية الإسرائيلية (كتلة دحلان) كانت تواصل التواجد والعمل في كل مرحلة من المراحل، وتنامت بسبب ذلك التوترات حتى وصلت إلى مرحلة المواجهة والحسم في غزة..... وكان ما كان. ولكن الأمل بالوصول إلى مرحلة جديدة من الحوار يستدعي موقفا جديدا من حركة فتح، يبتعد ولو قليلا عن منهج الغضب الذي يحرك الرئاسة الفلسطينية ويدفعها إلى إنشاء سلطة المراسيم الرئاسية، ويصل بها إلى حد التفكير بإلغاء المجلس التشريعي واعتبار سلطة الرئيس بديلا له. الأمل بالوصول إلى مرحلة جديدة من الحوار يستدعي يقظة داخل حركة فتح، تعود فيه هذه الحركة ذات التاريخ الوطني إلى أداء دورها الفاعل في الحراك السياسي والنضالي الفلسطيني، إذ لا يجوز لحركة فتح أن تبقى أسيرة رد الفعل على ما حدث في غزة، ووصفه بالحركة الانقلابية، ثم كفى الله المؤمنين شر القتال، ففتح مطالبة بأن تجتمع قياداتها أولا، وأن تبحث في الموضوع الفلسطيني الأساسي، في المشروع الوطني كهدف، وفي أسلوب العمل لوضعه موضع التنفيذ. وقد بدأنا نسمع أصواتا من داخل حركة فتح تطرح ذلك وتطالب به. لقد سمعنا صوتا من الصف الأول عبر عنه هاني الحسن عضو اللحنة المركزية، وهو يحذر من تيار خطة الجنرال الأميركي دايتون داخل الحركة ويدعو إلى مواجهتها. وسمعنا صوتا من الصف الثاني عبر عنه نزار عمار عضو المجلس الثوري (وهو رجل أساسي في الأمن الفلسطيني تاريخيا)، يطالب فتح بالتحرك على صعيد رسم سياسة مستقبلية واضحة في قضايا الأمن والتنظيم والاقتصاد. وسمعنا صوتا نابعا من كوادر الحركة عبر عنه صالح الشقباوي وهو من كوادر فتح الشابة في الجزائر، يطالب محمد غنيم (ابو ماهر) المسؤول الأول في حركة فتح عن التعبئة والتنظيم، بأن يتحرك، ليتحرك معه الفتحاويون لإعادة حركة فتح إلى موقعها القيادي المقرر. إنها أصوات تختلف في المواقع والتحليل، ولكنها تضع يدها على جوهر المسألة. وقد آن الأوان لأن تسمع حركة فتح أصوات قياداتها وكوادرها، لكي يمكن فتح الباب باتجاه الحوار، وباتجاه الخروج من حالة الغضب. عن صحيفة الشرق الاوسط 15 / 7 / 2007