أربعون عاماً على النكسة محمد حسين اليوسفي سمى العرب ضياع فلسطين وقيام دولة يهودية هي إسرائيل على جزء من أراضيها في العام 1948 بالنكبة. والمسمى ذو دلالة عميقة، فقيام دولة يهودية في محيط عربي إسلامي وتشريد شعبه وتحويلهم إلى لاجئين كان إيذاناً بمرحلة طويلة من الصراع الذي ابتدأ منذئذ ولم ينته إلى يومنا هذا. وهو صراع قد كلف العرب والمنطقة بشكل عام الكثير من طاقاتهما البشرية والمادية ومن استقرارهما السياسي. إن العام 1948 كان نكبة على العرب أنظمة وجماهير على حد سواء. أما بالنسبة للأنظمة فقد مثلت هزيمة الجيوش العربية هزيمة للقيادات العربية الرسمية، وبالتالي فتحت تلك الهزيمة الباب لسلسلة من الانقلابات العسكرية في بلدان عربية رئيسية مثل سوريا ومصر والعراق وغيرها. في حين ظلت الأنظمة التقليدية التي استمرت في البقاء، لمدة طويلة تحت ضغط تداعيات تلك النكبة، لعل أبسطها أن الدفاع عن الحق الفلسطيني والموقف من إسرائيل أصبحا منذئذٍ سلاحاً بيد المعارضة تشهره في وجهها. أما بالنسبة للجماهير العربية فإنها دفعت ثمناً باهظاً في سلسلة من حروب لا يبدو إنها انتهت بعد. وتحمل الشعب الفلسطيني وما زال وزر أكبر تلك التضحيات وما زالت قوافل شهدائه تتواصل. وانتقلنا قبل أربعة عقود، أي في الخامس من يونيو من العام 1967 من النكبة إلى النكسة، فسميت هزيمة الدول العربية وتمدد إسرائيل ثلاثة أضعاف مساحتها واحتلالها لمرتفعات الجولان والضفة الغربية وقطاع غزة وكل شبه جزيرة سيناء، سمي ذلك بالنكسة. وهو مصطلح أخف وطأة في معناه على النفس، وإن كان الحدث الذي يشير إليه أكثر مرارة لو تمعن فيه المرء ملياً. فالنكبة قد حلت بالعرب وسوادهم الأعظم يرزحون تحت الاحتلال، أما النكسة فقد جاءت في الوقت الذي كان علم الاستقلال يرفرف على معظم البلاد العربية، والنكبة قد حدثت في زمن كانت فيه البلاد العربية فقيرة وإمكانياتها محدودة، في حين كانت النكسة في زمن الرخاء الاقتصادي، فالكثير من الدول العربية كانت قد استفادت من الثروة النفطية، وكانت قناة السويس بيد أهلها. أما الأخطر من هذا وذاك فهو تغير نفسية الإنسان العربي ونظرته إلى إسرائيل بعد الحدثين الجللين، ففي حين كان الإنسان العربي بعد النكبة يعتقد اعتقاداً جازماً بأن « إسرائيل كيان زائل» ويصدق دعاوى أحمد سعيد مذيع إذاعة صوت العرب المشهور فإنه بات بعد النكسة يعتقد أن إسرائيل واقع يجب التعامل معه. ولعل قبول عبد الناصر مبادرة وليم روجرز، وزير خارجية الولاياتالمتحدة الأميركية، بعد مدة قصيرة من النكسة (يوليو 1970) لدليل على ذلك. ومع الأيام، أصبحت العودة إلى حدود الرابع من يونيو الحد الأعلى الذي تقدمه الأنظمة العربية، بل لعل ذلك هو أيضاً مطمح آمال الغالبية الساحقة من الجماهير العربية وبخاصة جماهير الشعب الفلسطيني. بيد أن النكسة لم تكن دون جوانب إيجابية!! فإذا كانت النكبة قد حولت الشعب الفلسطيني إما إلى شعب لاجئ أو شعب يرزح تحت الاحتلال ويقبل بالجنسية الإسرائيلية، وشعب ينتظر الفرج من قدوم الجيوش العربية المحررة، فإن هذا الشعب بعد النكسة قد تحول إلى شعب مقاتل، يطالب هو ذاته بحقه. وقد تطور نضاله من الخارج إلى الداخل، ثم حينما سدت الأبواب جميعاً بوجهه، تحول نضاله وأصبح ينطلق من الداخل، مما أعطاه تعاطفاً عالمياً أكبر، فالمقاومة حق مشروع لجميع الشعوب المغلوبة على أمرها والرازحة تحت الاحتلال. ولم تكن النكسة قد غيرت وجهة نظر العرب إلى عدوتهم إسرائيل، بل لقد تغيرت نظرة العالم إليها أيضاً. فنظرة الشفقة التي كان يبديها العالم بالذات في الجزء الغربي منه إلى الإسرائيليين بوصفهم شعباً عانى من اضطهاد تاريخي ويريد أن يعيش بأمان في وسط محيط عربي معادٍ يريد أن «يرميه في البحر»، تغيرت تلك النظرة بعد النكسة، إلى النظر إلى إسرائيل بوصفها قوة غاشمة تحتل أراضي غيرها وتستعبد شعباً آخر وتضطهده. ومنذ اليوم الأول عرف العالم تداعيات تلك النكسة الحقيقية، لذا لم يكن مستغرباً أن يصرح وزير خارجية الولاياتالمتحدة دين راسك، بعد أربعة أيام من انتهاء الحرب من أنه «إذا احتفظت إسرائيل بالضفة الغربية، فإن الفلسطينيين سيمضون بقية القرن في محاولة استعادتها». (البي بي سي 4/6/ 2007). وبالفعل فقد انقضى القرن العشرون ودخل القرن الحادي والعشرون وما زال نضال الشعب الفلسطيني مستمراً. أما أخطر نتائج النكسة قاطبة من منظور تاريخي بعيد فقد كانت نظرة الإسرائيلي إلى ذاته وإلى كيانه الغاصب. تنقل جريدة النيويورك تايمز(9/6) حكاية المواطنة الإسرائيلية ديبوراه هاريس (وهي وكيلة لدار نشر أدبية ناجحة ) التي كانت في العام 1967 بالصف السادس بمدينة سكرانتون بولاية بنسلفانيا الأميركية. والتي أخذت بالنصر الذي أحرزه الإسرائيليون على العرب. تقول: «قررت أن أكون جزءاً من هذا الشعب».. وبالفعل فقد هاجرت إلى إسرائيل. أما شعورها الآن وقد جعلت إسرائيل مسكناً لها لهذه المدة الطويلة، فتقول بصراحة وهي صراحة جديرة بالتأمل العميق. تقول ديبوراه بمناسبة مرور أربعة عقود على الخامس من يونيو: «لأول مرة بعد هذه المدة الطويلة سمحت لنفسي في التفكير بأن إسرائيل ربما تكون ظاهرة عابرة».!! إن المسائل التي قسمت الشارع الإسرائيلي منذ اليوم الأول للنكسة هي ذاتها المثارة حالياً بعد أربعين عاماً، كما يقول الصحافي الأميركي رابيتوفش، الذي غطى تلك الحرب. فمسألة ما يجب عمله بالأراضي المحتلة، هل يتم الاحتفاظ بها أم إرجاعها إلى أصحابها الشرعيين ما زال الجدل قائماً حولها. ( السي ان ان 7/6) ولا يشعر كثير من الإسرائيليين بأن النصر الذي حققوه في الخامس من يونيو قد جلب لهم السلام، أو هو نصر حقيقي جعلهم يعيشون باطمئنان وسكينة. فالناشط الإسرائيلي في مجال مكافحة بناء الجدار الفاصل شاؤول أرييلي، وهو ضابط سابق خدم الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، يرى بأنه لا بد من إقامة دولة فلسطينية إلى جانب الدولة العبرية. وهو ينطلق في دعواه من الحتمية الديمغرافية التي تبين أن بقاء الفلسطينيين تحت الاحتلال يجعلهم يمثلون الأكثرية العددية، وما تنطوي عليه هذه الحقيقة من تداعيات سياسية في المستقبل. وهو يرى أن الفلسطينيين سيقيمون دولتهم إن عاجلاً أم عاجلاً، وحينما يتحقق ذلك، يقول أرييلي لمجلة دير شبيغل الألمانية ( 1/6) «فإننا نكون حقاً قد انتصرنا في حرب العام 1967». البيان الاماراتية 14/6/2007