كانت الظروف في غالب الأحيان تجعلني أتقاسم الأزمات مع شكري، فيتحمل كل منا هموم الآخر فيحصل التفاهم لحل تلك الأزمات ونحن على أحسن ما نكون من الانبساط.... مرة كنا في جلسة حميمية نستمتع بفضاء سطح مقهى موح نتفرج على منظر الميناء الجميل حيث البواخر تحوم فوقها أسراب من الطيور في جو يسوده الهدوء التام... كان شكري قد دعاني لهذه الجلسة خصيصا ليقدم لي أوراق الخبز الحافي لإبداء رأيي فيها ومدى صلاحيتها للنشر حتى يجعل منها كتابا لسيرته الذاتية.. فتعمدت أن أجعله متفائلا على أنها قابلة للتصحيح والتغيير لتصير كتابا... انبسط شكري ملاحظا تغير أحوالي في هذا اليوم، تبدو على ملامحي علامات الحيرة والقلق... فألح علي في السؤال عن سبب ما ينتابني من حزن، فأخبرته بأنني أعيش أزمة مادية خانقة لأجد نفسي مضطرا للقيام بحركة تجارية خاصة توفر لي ما أوضب به حياتي اليومية... فأعرب لي عن أسفه العميق عن عدم قدرته على مساعدتي... إلا أنه فجأة أخذ بيدي يجذبني لمصاحبته بعدما ظهرت على محياه ابتسامة تنم عن تفاؤله بإمكانية مساعدتي طالبا مني أن أصحبه للمكان الذي يمكن أن تتحقق فيه هذه الرغبة، مصرا أن لا يبوح بالمكان المقصود حتى يبقى هذا السر مفاجأة. قطعنا مسافة طويلة داخل المدينة مرورا بالسوق الداخلي وصولا إلى القنصلية الأمريكية حيث توجد بجانبها عمارة الربيع التي يقيم بها الكاتب الأمريكي بول بولز... استغربت لجرأة شكري إلا أنه جذبني ممسكا بيدي، مؤكدا أن بولز هذا هو من سيحل هذه الأزمة. صعدنا درج العمارة إلى غاية الطابق الرابع، اتجه شكري مباشرة للشقة رقم 20 حيث يوجد بولز... طرق شكري الباب مرارا دون أن يرد أحد، ثم صاح مناديا على المرابط وهو شاب أمي تغلب عليه طبيعة البيئة الجبلية اختاره بولز صديقا دائما يقضي له حاجاته الخاصة، يطلعه على جميع أسراره... بولز تستهويه اللهجة الجبلية ويروقه الاستمتاع ببعض السهرات الراقصة لفتيان من أصل جبلي تقذف بهم الهجرة إلى طنجة التي تحتضن كل من هب ودب... يظهر أن المرابط هذا غير موجود لأنه لم يرد على نداء شكري المتكرر. فجأة، أطل بولز بعين واحدة من ثقب وراء الباب، فلما رأى شكري فتح الباب على التو... هكذا هو يحب العزلة، دائم الصمت ولا يجالس إلا من يوافق مزاجه الغريب الأطوار، طبعا وسلوكا... عند دخولنا، تبين لنا أننا قطعنا عليه أفكاره إذ أنه كان منهمكا في الكتابة على الطاولة التي عاد إليها وقد وضعت فوقها العديد من الأوراق المبعثرة هنا وهناك ومجموعة من الأقلام وضعت في كوب خشبي قديم... اعتذر شكري عن الإزعاج... بولز هذا تربطني به علاقة المجالسة في مقهى الرقاصة الشعبية التي كان يتردد عليها مرارا ليلتقي ببعض المستشرقين الغربيين للتباحث حول المواضيع المتعلقة بالحياة الاجتماعية لأهالي المدينة العتيقة في ذلك العصر، يجعلون منها مقالات ومؤلفات يتفننون في صياغتها لتصبح مثيرة للتشويق ينشرونها خارج المغرب... بادر شكري لإخبار بولز بالمقصود من الزيارة كوني جئت راغبا في قرض مبلغ أجعل منه رأسمالا لتجارة من نوع خاص، وكعادة بولز دفعه فضوله ليسألني عن نوع التجارة التي أنوي ممارستها وقدر المبلغ المطلوب... فأخبرته بأنني استقيت الفكرة من بعض الشبان اليهود لاحظت حركاتهم بين الأحياء، كل واحد يحمل بيده حقيبة بداخلها نماذج من بعض السلع المختارة يتجولون بها بين متاجر أحياء المدينة وهي عبارة عن ساعات يدوية وأخرى تستعمل للجيب ومعجون وفرشاة للأسنان وآلات كهربائية للحلاقة وأنواع مختلفة من قنينات صغيرة لمختلف العطور ذات الروائح الزكية... هذا النوع من السلع مغر للبيع السريع وأرباحه تقدر بضعف الثمن... لذلك فإن رأس المال المطلوب لا يحتاج إلى أكثر من ألف بسيطة... ابتسم بولز مبديا إعجابه بذكائي، مضيفا أنه كان يرى بعض التجار الشبان يحترفون هذا النوع من التجارة المتجولة منذ أن كان طفلا في سن المراهقة بمسقط رأسه بمدينة نيويوركالأمريكية لذلك فهو يستحسن الفكرة إلا أنه بادرني بما لم يكن في الحسبان حيث قال : ليكن في علمك يا ولدي أنني لا أدفع إلا لمن يرد لي المقابل... فسألته : أي مقابل تعني ؟ أسأله وأنا في أشد ما يكون من القلق والتوتر والغضب... فأجابني : صديقك شكري يعلم... فبادرته بالقول وبلهجة مشوبة بالغضب : إذا كان شكري يدفع لك المقابل حينما تقدم له المساعدات فإن الشيء الوحيد الذي أكرهه هو السلوك الشاذ... هنا قام آتيا عندي حيث استوى في جلوسه بجانبي ليفهمني أنني أسأت الفهم، موضحا أن المقابل الذي يقصده هو تزويده بحكايات عن عادات وطقوس وتقاليد الطبقات الشعبية من السكان ليجعل منها مقالات للنشر... هنا تغيرت أحوالي بعدما شعرت بالذنب معتذرا له عما صدر مني، فوجدت الفرصة مواتية لأطلب من شكري أن يقدم أوراق الخبز الحافي التي عرضها علي لأبدي رأيي فيها مؤكدا أن بولز هو من سيقوم بعملية التصحيح والتغيير ليجعل منها كتابا بلغته حينها يمكن ترجمته للعربية فتتحقق الأمنية... بإخراج السيرة الذاتية لشكري إلى الفضاء الأدبي دخولا للتاريخ من بابه الواسع... ابتهج كل من شكري وبولز لهذه الفكرة... هنا تسلم بولز الأوراق من شكري فتسلمت أنا بدوري مبلغ الألف بسيطة التي كانت لبنة لتجارة رابحة بامتياز ساعدتني على إتمام دراستي إلى غاية التحاقي بسلك التعليم كموظف وهكذا ضربت عصفورين بحجر... مرت هذه الوقائع دون أن أتوقع أنه سيأتي اليوم الذي سيحضر فيه بولز ليقدم لشكري كتاب الخبز الحافي مؤلفا بالإنجليزية ... ومباشرة قام شكري بتحويل هذا الكتاب للكاتب المغربي الطاهر بنجلون فيصبح الكتاب مؤلفا بالعربية... وبعد اطلاعي عليه وجدت أنه قد أضيف إليه الكثير من الأحداث تعد من قبيل الخيال... وقد أصبت بالذهول حينما أحدث الخبز الحافي فيما بعد ضجة كبرى في الأدب العالمي ومترجما لعشرات اللغات... !! ومن هنا تبدأ العداوة الكبرى بين شكري وبولز الذي ظل يعاتبه عن احتكاره لمردودية الترجمة للعديد من اللغات ليحتفظ شكري بالشهرة وفتات المكافآت البسيطة لبعض الترجمات المحدودة.. فأدركت أنا شخصيا أن جل أحداث الخبز الحافي غير حقيقية. لقد وظفت تلك الأوراق لمضامين حكايات منسوجة تجمع بين سيرة شكري الصعلوك المتشرد وحكايات صعاليك آخرين من خيال بولز، فتأكدت وأنا أقرأ الخبز الحافي أن الكتابة ارتبطت في ذهن القراء بفضح المستور من أجل الإثارة حتى ينال الكتاب الإعجاب بجرأة الكاتب الأمي وجعل تلك الكتابة كفن روائي يحكي السيرة الذاتية لشكري وكما أرادها بول بولز... كل ذلك في غياب الضوابط التي يجب أن تفرض على الكتابة والتي يجب أن تحترم القارئ المهتم بالكتابة الأدبية الوطنية.. ناهيك عن الأسلوب الفاضح تجعلك وأنت تتمعن في مضمونها فكأنك تشاهد أفلاما للخلاعة بتعدد ذكر الأعضاء التناسلية والدعارة والشذوذ حيث الكاتب لا يرى إلا عالم التعفنات الجنسية بفقرات بشعة وحقيرة تنم عن عهد الانبطاح كل هذا مغلف بمظهر الكاتب الجريء المتحدي لعصره... ومما يجدر التركيز عليه هو سن شكري بتعلمه القراءة والكتابة وهو في سن العشرين... لكن الحقيقة غير ذلك طبقا للواقع الذي عايشته والذي يفرضه المنطق إذ أن تاريخ ازدياد الفرد ما قبل الاستقلال لم يكن مضبوطا إلا عند بعض العائلات ذات المستوى المعرفي وفي مذكراتها الخاصة لأن في عهد الاستعمار لم يكن هناك دفتر للحالة المدنية، فكيف يمكن ضبط سن شكري إذا كان هو نفسه لا يعرف تاريخ ازدياده خصوصا وأنه من عائلة جاهلة في تلك الفترة، والده من بادية الريف منغلق بالمرة... وأعود للكاتب الأمريكي بول بولز الذي وحده يعرف هذه الحقائق، وأذكر هنا أنني كنت وفي جلسة خاصة، وكنت قد عاتبته على قلب الحقائق في أوراق شكري للخبز الحافي فأجابني بأن الكتابة الأدبية في ذلك العصر تقتضي ذلك وأن هذا النوع من الكتابة يعتبر تحديا في الأدب المعاصر لذلك كان لزاما أن أجعل السيرة الذاتية لشكري على الطريقة التي تتطابق مع سيرة غيره من الصعاليك في قالب رومانسي يغري بالإثارة... ثم انطلق يحكي لي عن حياته منذ أن هاجر مدينة نيويوركالأمريكية مسقط رأسه وهو في سن العشرين قاصدا طنجة التي يعشقها لأصالتها وشعبية أهلها الطيبين بعد أن ربط علاقة صداقة بالعديد من كبار الكتاب الغربيين معظمهم من المستشرقين الإنجليز يكتبون عن الحكايات الاجتماعية للطبقات الشعبية من السكان وخاصة البدو الوافدين من المناطق المجاورة ذات الطرافة والإثارة والتشويق... كان بولز متزوجا بامرأة أحبها لتطابق طبعها مع طبيعته، فتألم ألما شديدا لوفاتها لتبقى طنجة أنيسته الوحيدة... كان في منتهى الذكاء يتقن اللغات الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والإيطالية ولغات أخرى... وكم عاتبت شكري على نعته بأسوأ الصفات في العديد من اللقاءات والتظاهرات... وقد ودع بولز الحياة على فراشه المتواضع وهو في سن التاسعة والثمانين قضى منها ما يقارب تسع وستين سنة في طنجة التي ترك فيها ذكريات ستظل ترددها الأجيال مع مرور الحقب والأزمان... !! ** منقول من جريدة "الاحداث المغربية" 23 يونيو 2007 م