في عصر يجمع بين الثورتين المعرفية العلمية والاتصالية الإعلامية, الثورة الأولي التي جعلت العلم وتطبيقاته بكل تخصصاته هو المصدر الأكبر للثروة والأساس الأكبر للتنمية, والثورة الثانية التي وإن كانت قد حطمت جدران الفصل بين الناس من كل الأجناس والقوميات والثقافات والاعمار وبين كل من المعلومات والأفكار واساليب التفكير والتعبير, فإنها بوصفها ثورة في وسائل التعبير وفي القدرة علي نشر وتوصيل كل ما يمكن ويطلب التعبير عنه قد أدت إلي وضوح غير مسبوق للاختلافات الجذرية بين الثقافات والرؤي.. ولتصادم المصالح الخاصة بكل منها, وفي مجتمع كمجتمعنا المصري( وبقية مجتمعاتنا العربية) يسعي إلي التنمية المادية والبشرية وإلي الإصلاح السياسي والاجتماعي, وفي ضوء حقيقة الارتباط بين المعرفة والإعلام والتفاعل بينهما في عملية صنع الوعي وتوجيه الإرادة العامة وتحديد أهداف الفعل الاجتماعي لكل من الأفراد والدولة والمجتمع بمؤسساته... في هذا العصر وفي مثل تلك المجتمعات يصبح من الأمور ذات الدلالة الخاصة وبالغة الأهمية ان ينعقد في أسبوعين متتاليين وفي مكان واحد مشغول بالبحث المنهجي الجاد حول قضايا كل من التنمية والإصلاح هو مكتبة الإسكندرية مؤتمران: الأول لمناقشة استراتيجية لتطوير التعليم قبل الجامعي في مصر طرحها الدكتور يسري الجمل وزير التعليم علي مجموعة متنوعة التخصصات والرؤي من المثقفين المصريين, والثاني لمناقشة قضايا الإعلام والديمقراطية والمسئولية المجتمعية في العالم العربي علي اتساعه, إضافة لمناقشة استطلاعية في اجتماعين منفصلين دعا اليهما الدكتور إسماعيل سراج الدين مدير المكتبة والمفكر الموسوعي صاحب الرؤية الواقعية والمستقبلية في وقت واحد, الرؤية المدعمة بمعرفة شاملة ومتجددة معا حول كل من البحث العلمي ووضع العلم في خدمة التنمية في مصر, وإعادة نشر وترجمة مختارات من التراث العلمي والفكري الإسلامي الحديث مما انتجه العقل العربي المتجدد في مراحل محاولات التنوير خلال القرنين الأخيرين. *** العلاقة بين الموضوعات الأربعة: التعليم قبل الجامعي من الابتدائي حتي نهاية المرحلة الثانوية بفروعها, والإعلام في علاقته بالتطور الديمقراطي الدستوري ومسئوليته المجتمعية لحماية هذا التطور ولحماية تماسك مجتمعاتنا ودولنا الوطنية ولتأكيد خصوصيتنا الثقافية وانفتاحنا المتوازن علي ثقافات العالم وعلي المعرفة المتجددة في وقت واحد, ثم البحث العلمي وبناء قدرات العلم والتكنولوجيا لخدمة التقدم المؤدية لدعم التنمية وزيادة وتيرتها ثم انعاش ذاكرتنا القومية وتزويد ذاكرات الآخرين بإعادة نشر وترجمة ما انتجته العقول العربية المتفتحة والأصيلة من فكر تنويري... العلاقة بين هذه الموضوعات الأربعة أوضح من ان تحتاج إلي الشرح حتي ان التداخل فيما بينها بدا أوضح ما يكون منذ الكلمات الأولي لإسماعيل سراج الدين في افتتاح مؤتمر مناقشة استراتيجية التعليم ما قبل الجامعي الجديدة التي اشارت إلي العلاقة المباشرة بين هذا التعليم بفروعه وبين إعداد التلميذ في طفولته ليكون هو المواطن عالم المستقبل: الباحث العلمي أو القائم بالتطبيق الصحيح والمناسب لمجتمعه لما ينتجه العالم من معرفة في أي مجال أو القائم بنشر ذلك العلم وبالدعوة إلي مناقشته وتطويره. واتضحت العلاقة الوثيقة بين الموضوعات الأربعة أيضا في كلمات يسري الجمل وزير التعليم الافتتاحية من خلال اشاراته المؤكدة لان الاستراتيجية الجديدة تطمح إلي تغيير الطابع التلقيني للتعليم المصري تغييرا لابد ان يسلك عدة سبل متفاعلة من التركيز علي الرياضيات والمنطق( علوم العقل عند اسلافنا العظام) وعلي اللغة بوصفها اداة التفكير والادراك معا, وأداة التعبير الصحيح عن المعاني قبل المعلومات وعلي الانشطة المرتبطة بعملية التعلم الذاتي بما يعني الطموح إلي تحويل الطالب من تلميذ يحشو دماغه بما يلقيه عليه مدرس إلي متعلم يساعده المدرس علي جمع المعرفة المطلوبة وعلي فهمها. فهل يحتاج كل ذلك إلي شرح العلاقة بين قدرة التعليم علي انتاج المواطن القادر علي التفكير والتمييز والعمل المنضبط الدقيق وبين مسئولية الإعلام عن دعم هذا المواطن ومجتمعه ومنظومات القيم التي يعتمد عليها تماسك المجتمع من خلال وعلي أساس وعي المواطن وقدرته المتطورة علي الاختيار وعلي التمييز العقلاني بين الزائف و بين الأصيل الحقيقي, بين الاثارة و بين التوعية, أي بين ما هو إعلام حقيقي وفعال في خدمته هو بوصفه مواطنا مشاركا في بناء وحماية مجتمع( وطن) بعينه, وبين ما هو تهييج أو تحريض لخدمة مصالح واهواء لمن لايعلمهم إلا الله ومن اراد لهم سبحانه العلم. لن يسمح المقام هنا إلا ببعض الملاحظات العامة التي لاتغني عن التفاصيل رغم تعلقها بالأسس البعيدة للموضوعات الأربعة: من المهم ان نلاحظ مثلا ان استراتيجية التعليم قبل الجامعي تستند إلي معلومات وتحليلات جمعت معظمها وانتجتها مراكز البحث المصرية القومية المختلفة خلال العقدين الأخيرين وان ما يقابله مما جاء من مصادر أجنبية( دولية غالبا) إنما يدعم ما انتجته العقول المصرية اساسا, ومن المهم أيضا ان نلاحظ الموضوعية الظاهرة في صياغة الاستراتيجية واللغة العلمية المحايدة والبعيدة عن الشعارات والكلمات الطنانة الكبيرة التي أصبحت تثير الشكوك في كل من المعلومات والنوايا... ولكن من المهم ان نلاحظ ان الاستراتيجية الجديدة توضح ان نحو82% من ميزانية التعليم تذهب إلي الأجور والمرتبات وما في حكمهما والباقي يخصص لكل ما يبقي من العملية التعليمية بما في ذلك المباني والصيانة وان التفكير في زيادة قدرات هذا الباقي انصرف إلي البحث في خفض ما ينفق علي الكتب, بينما يمكن البحث في خفض ما ننفقه علي مباني المدارس في بعض مراحل التعليم الأولي و لنتذكر تجارب بلاد مثل الهند تعتمد علي مدارس تحت الشجرة وفي الاحواش وعلي مدرسين جوالين ولنتذكر النتائج الجيدة جدا لهذه التجارب; غير أن نسبة ميزانية التعليم إلي الميزانية العامة أو إلي الدخل القومي وهو نحو7% لاتعتبر كافية بأي معيار لما تتطلبه عمليات التنمية المادية والبشرية; ففي دول مجاورة عربية وأخري غير مجاورة ولاعربية تزيد هذه النسبة علي25% وتتزايد, وتكاد الاستراتيجية تتجاهل ضرورة تطوير التعليم الأزهري والتعليم في المؤسسات ذات الطابع الديني بشكل عام, فرغم أن وثائق الاستراتيجية تذكر ان التعليم الأزهري يستوعب4% فقط من مجموع المنتسبين للتعليم قبل الجامعي فإننا يجب ان نتذكر التأثير العميق والواسع الذي يمارسه خريجو هذا التعليم بل ويمارسه المنتسبون اليه قبل التخرج وحتي بدون التخرج وأرجو أن نتمكن من الكلام علي الموضوعات الثلاثة الأخري في المرات القادمة بمشيئة الله. ** منشور بجريدة "الاهرام" المصرية بتاريخ 16 مارس 2008