أيام قلائل ويحتفل المصريون بكافة طوائفهم باستثناء الفلول ونزلاء طره وذويهم بمرور الذكرى الأولى لثورة الخامس والعشرين من يناير ، والتي سيذكر التاريخ أنها قامت من أجل إسقاط نظام مبارك السياسي وفناء الحزب الوطني المنحل فقط ، ولابد أن نكون صادقين مع أنفسنا حينما نقر هذه الحقيقة المكرورة ، فحينما انطلقت الشرارة الأولى للثورة الشعبية المجيدة كانت المطالب تحمل حرية وعدالة ومساواة ، و يمكن إضافة إسقاط النظام السياسي القائم وقتها لأنه خيب آمال ومظان الملايين من المصريين . ومن وقت قيام الثورة ومصر تشهد ثورات مصغرة أو ما سمي بالميني ثورة من خلال المليونيات التي شهدتها الميادين الغاضبة في مصر ، ولعل كثرة هذه المليونات لأن الثورة حينما قامت قفز على أكتافها العديد من الممثلين غير الشرعيين لها ، ولكل ممثل جهة ووجهة وطريق ، فتعددت المطالب وتباينت واختلفت الرؤى ، بل ونجح بعضهم في إقناع بسطاء هذا الشعب بأن قضيته الشخصية شديدة الخصوصية هي قضية الثورة بل قضية مصر كلها . ولم يخطئ ابني الصغير حينما علق على مشاهد محاكمة الرئيس مبارك المخلوع حصرياً بفعل الثورة حينما قال : إذا كانت الثورة جاءت للقضاء على هذا الرئيس فلماذا يظهر مجدداً على شاشات التليفزيون ولماذا يستقل طائرة فاخرة إذن ؟ . صدق الصبي وخاب المتظاهرون ليل نهار لأنهم لم يتفقوا على مبادئ حاكمة لثورتهم كما ظهر عليهم الدكتور علي السلمي بمبادئ حاكمة للدستور في العام الماضي . وتسير الأيام بسرعة البرق ونحو باتجاه يوم الخامس والعشرين من يناير ، وقد اختزلنا ثورتنا التي قدر الله لها النجاح بفضله وبإخلاص جموع هذا الشعب العظيم في محاربة الشرطة المصرية التي استمرأت الانفلات الأمني وأصبحت بطلة لفيلم الأيدي الناعمة طوال شهور مضت ، بينما ذهب آخرون يعلنون سخطهم المطلق على رجال الشرطة الذين لا أظن أنهم كانوا موجودين من الأساس بدليل حالات البلطجة المستدامة بطول وعرض مصر المحروسة .ولكن معهم الحق فما نشاهده من بعض رجال الشرطة يؤكد أن هؤلاء يحتاجون لسنوات طويلة من أجل معالجتهم نفسياً لكي يتعاملون من بشر أكرمهم الله وأحسن تقويمهم ، باستثناء الفترة الحالية التي يقودها الوزير الجاد محمد إبراهيم والتي يحاول جاهداً عودة الأمن والاستقرار إلى الشارع . وقديما كنت أقرأ في تاريخ الثورات أن الثورة أية ثورة هي ليست مجرت تبدلات ، إنما تكون عادة نتيجة لوصول الطغاة إلى الحكم عن طريق البسطاء والفقراء والمهمشين ، لذا تقوم الثورة وعادة ما تكون أحد أسبابها الرئيسة هي توصيف جديد للعلاقة بين الشعب ونظام الحكم وبخاصة توزيع الثروات في البلاد . أما ما شاهدنا جميعاً بعد ربيع الثورة المصرية السلمية هو حركة دائرية مستمرة قوامها الرفض والاعتراض المستدام ، رفض بقاء المجلس العسكري ،ورفض المحاكم العسكرية للمدنيين ، ورفض وجود حكومة الإنقاذ ، ورفض الانتظار المبالغ في محاكمة مبارك ورموز النظام القديم ، ورفض الانتظار أمام طوابير الانتخابات ، ورفض تعادل الزمالك في مباريات كرة القدم بسبب سياسات اتحاد الكرة المناصرة للنادي الأهلي ، ورفض غرامات المرور المتأخرة بل ورفض وجود شرطي المرور بالشارع أصلاً، وهكذا أصبحنا بلداً يحترف الفوضى غير الخلاقة . وليس بغريب أن تعيش مصر 365 يوم من الثورة المستمرة ، لأن مصطلح الثورة في الأساس هو مصطلح فلكي استعمله عالم الفلك كوبرينيكوس مؤسس علم الفلك الحديث وكان التعبير في استعماله العلمي وكان مدلول التعبير لديه بمعنى ( الذي لا يقاوم ) ، وقصد به بعد انتقال المفهوم من عالم الفلك إلى مضمار السياسة النهاية الحتمية والمحدودة لنظام قديم وخلق عالم جديد . ولكن ما استقرأناه من خلال عام كامل على ثورة بيضاء هو أنها ثورة تأكل أبناءها تدريجياً ، معتصمون ومتظاهرون استقروا بالميدان لتنفيذ مطالب الثورة ، بينما هرولت جماعة الإخوان المسلمون والتيارات الدينية نحو صناديق الاقتراع لتحقيق حلم قديم بات مؤجلاً لعقود طويلة بفضل حكم العسكر . وأصحاب مطالب فئوية لا علاقة لها بإسقاط نظام سياسي بائد راحت تفترش الطرق والميادين الثائرة التي رفضت أن تبوح بأسرارها فقررت أن تثير ضجة لتحصل على ما تريد كما قال من قبل مالكوم إكس . مضى عام كامل على ثورة شعب ظل مهموماً بصياغة سيناريوهات لوضعه الراهن دون أن يلتفت لاستشراف مستقبله ، فتحدث عن أزمة دستور قائم ولم يصغ دستوره الجديد ، تحدث عن فساد حاكمه القابع في محبسه الطبي ولم يستقر على مرشح محتمل لرئاسته في المستقبل ، اشترط أن يقوم رئيس الحكومة بأداء اليمين بالميدان التاريخي ولم يشارك هذه الحكومة آمالها أو تطلعاتها . ولابد لنا ونحن نشرف على مرور عام كامل على ذكرى وذكريات الثورة الجميلة أن نراجع ما حققته الثورة من مطالب ، وأن نحدد مجتمعين معالم الطريق للمرحلة المقبلة بدلاً من أن يسير كل من في طريقه ، فلقد أصبحت بحق أؤمن بأن الذي بنى مصر كان في الأصل صانعاً للحلويات ، ففيها كل المذاهب ، وشتى المشارب ، وصنوف التيارات التي ضج بها العقل والمشهد السياسي أيضاً . والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل .