قبل أن تسافر وزيرة الخارجية الأميركية هيلارى كلينتون الى إسلام آباد، حرصت على اختيار ثيابها بألوان تحاكى ألوان علم باكستان. وتوقعت أن تُقابل بادرتها بالثناء والإطراء، ولكنها فوجئت على المطار باستقبال فاتر ومصافحات باردة. وقبل أن تكتشف السبب، بلغها أن «طالبان» اعترضت على الزيارة من طريق تفجير مروّع فى مدينة بيشاور أودى بحياة مئة باكستاني. وأخبرها وزير الداخلية أن العنف الذى تمارسه «طالبان» ليس أكثر من رسائل تهديد بغرض فك التعاون مع الولاياتالمتحدة. وحذرها من نتائج الغارات التى يقوم بها سلاح الجو الأميركى لأنها تقتل من المدنيين الأبرياء أكثر بكثير مما تقتل من محاربى «طالبان» أو «القاعدة». وقد تبنى المبعوث الخاص الى آسيا ريتشارد هولبروك، موقف الحكومة الباكستانية لأن الكونغرس يتعاطى مع مطالب هذه الدولة الحليفة باستخفاف وجحود. وقال لها إن مبعث الاستياء يتمحور حول الأهمية الاستراتيجية التى توليها إدارة الرئيس أوباما لأفغانستان فى حين تتطلع الى باكستان كدولة تابعة. مصدر التحول فى هذه الأزمة ينسبه العسكريون الى قرار الرئيس أوباما، وإصراره على إقالة قائد القوات الأميركية فى أفغانستان الجنرال ديفيد ماكيرنان. وبرر عمله يومها بأن إدارته تنظر بعيون جديدة الى مشكلة الاستقرار فى جنوب آسيا. وشدد أوباما على أن المهمة فى أفغانستان لن تنجح إذا اقتصرت على تكديس جنود إضافيين. فالسوفيات حاولوا ذلك فى الماضى ولم ينجحوا، وكذلك الأمر بالنسبة الى البريطانيين. ووصف نجاح العمل العسكرى بأنه مرتبط بالجهد الأوسع لتعزيز الاستقرار فى المنطقة، والسماح بإجراء انتخابات تؤمن الأجواء الملائمة لقيام حكومة منتخبة ديموقراطياً تُعتبر أكثر شرعية من البديل الطالباني. وأجمعت التعليقات على امتداح قرار الرئيس الأميركي، لأنه يسعى الى القضاء على «طالبان» وعلى العقلية المتحجرة التى يستغلها أسامة بن لادن لتنفيذ مآربه، وتوقع أوباما من الرئيس حامد كارزاى العثور على مخبأ بن لادن فى مغاور تورا بورا أو على حدود إقليم وزيرستان. عندها يكون قد انتقم لثلاثة آلاف ضحية كان الأميركيون ينتظرون من جورج بوش، بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، تنفيذها. وكما خابت آمال بوش فى حربى أفغانستان والعراق، هكذا منى خَلَفه أوباما بالانتكاسات العسكرية المتواصلة فى أفغانستانوباكستان. وظهرت الانتخابات التى اعتمد الرئيس الأميركى على نتائجها، كمسرحية مُكررة بين حامد كارزاى وعبدالله عبدالله. كما أثبتت أيضاً أن نفوذ كارزاى لا يتعدى الثكنة التى تحميه فى داخل أسوارها فرقة أجنبية. حتى شقيقه، عميل الاستخبارات الأميركية، بقى هو عنوان الفساد الذى أقسم كارزاى على استئصاله. فى الآونة الأخيرة بدأت الحكومة البريطانية تعانى من غضب الشارع بسبب ازدياد عدد الضحايا العسكريين فى أفغانستان. وحذر رئيس الوزراء براون من مخاطر الانسحاب وترك البلاد بيد «الإرهابيين»، الأمر الذى يعرض بريطانيا والدول الأوروبية وجنوب شرقى آسيا، للفوضى. وأيده فى هذا الرأى وزير خارجيته ديفيد ميليباند الذى اعتبر أن حرب أفغانستان تمثل حالات من الإرباك والتورط ل «طالبان» و «القاعدة» بحيث منعتهما من تنفيذ عمليات ضد الغرب. ولكن التحفظات الأميركية والبريطانية لم تمنع الرئيس أوباما من مراجعة مطالب القادة الميدانيين حول إرسال تعزيزات لا تقل عن 25 ألف جندي. علماً بأن رئيس اللجنة الخارجية فى الكونغرس جون كيري، تمنى تأجيل قرار البت بهذه المسألة الحساسة الى ما بعد كانون الثانى (يناير) المقبل. وقد أيده فى قرار التأجيل الرئيس أوباما لاقتناعه بأن الوضع الأمنى فى أفغانستان يحتاج الى سياسة خارجية هادئة لا الى سياسة متهورة ومرتجلة. ومع قرار التأجيل ظهرت خلافات فى الرأى بين نائب الرئيس جو بايدن والجنرال ستانلى ماكريستال، القائد الأعلى للقوات الأميركية فى أفغانستان. ففى حين يطالب بايدن بضرورة نشر القوات الإضافية فى المناطق الجبلية والأرياف من أجل حماية العائلات الفقيرة، يرى الجنرال ماكريستال أن تحرير كابول وقندهار من نفوذ «طالبان» يجب أن يكون فى مقدم الأهداف الأمنية. يجمع المراقبون فى واشنطن على القول إن كثرة المستشارين حول أوباما ستفسد «طبخاته السياسية». وربما يتمتع مستشار الأمن القومى فى عهد كارتر زبيغنيو بريجنسكى بمركز مميز لا يجاريه فيه أحد. وهو الذى أشار عليه ب «سياسة بناء الجسور» فى الحقل الخارجي، ونصحه باعتماد استراتيجية الريادة والقيادة بدلاً من استراتيجية التسلط والهيمنة التى مارسها سلفه جورج بوش. ولكن الحزب الجمهورى لا يرى فى هذه الاستراتيجية الغامضة سوى التنازل عن دور اضطلعت به الولاياتالمتحدة عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية وإطلاق مشروع مارشال. لذلك يرى ديك تشينى بأن فكرة احتواء إيران وإزالة مشروع الدرع المضادة للصواريخ على حدود روسيا، ووقف التدخل فى شؤون القوقاز... هذه كلها خطوات سلبية ستقود حتماً الى تحجيم الولاياتالمتحدة. وهو يرى أن الأخطاء التى ارتكبها بريجنسكى فى عهد كارتر لا يجوز أن ترشحه للقيام بدور جديد. وعزا تشينى الانتصار الذى حققه الجمهوريون فى الانتخابات الأخيرة، بأنه حصيلة خيبات الأمل من إدارة أوباما، على الصعيدين الداخلى والخارجي. مؤيدو أوباما فى الصحافة العالمية أعربوا عن قلقهم من نتائج فشل خطواته فى ميدان النزاع الفلسطينى – الإسرائيلي. وذكرت افتتاحية «واشنطن بوست» ان الأخطاء التى ارتكبها لم تكن أكثر من أخطاء فى الحساب، وأنه فى المستقبل عازم على تصحيحها. فى حين كتب المعلق جوناثان فريدلاند فى صحيفة «الغارديان» البريطانية يقول إن أوباما فقد مكانته فى الشرق الأوسط، حيث للمكانة قدر كبير من الأهمية. ولكن المراجعات التى أجراها أوباما بالنسبة الى المشتغلين بقضية الشرق الأوسط، لم تظهر له المسؤول عن تلك الأخطاء: هل هو جورج ميتشل أم دنيس روس... هل هو رام عمانوئيل أم هيلارى كلينتون؟ وزيرة الخارجية كلينتون دشنت مبادرة أوباما فى أيار (مايو) الماضي، معلنة أن الرئيس يطالب إسرائيل بضرورة وقف الاستيطان. وحددت الطلب بالقول إن التوقف لن يكون جزئياً، وإنما يشمل كل البؤر الاستيطانية التى تدخل تحت عنوان «النمو السكانى الطبيعي». ثم جاء دور الرئيس أوباما ليدعم موقف كلينتون ويؤكد أن الولاياتالمتحدة لا تقبل بشرعية المستوطنات، لا فى الضفة الغربية فقط، وإنما فى القدسالشرقية. وكان من الطبيعى أن يستقوى الجنرال جيم جونز، مستشار الأمن القومى لدى الإدارة الجديدة بموقف الرئيس ويعلن أنه يتطلع الى قيام دولة إسرائيلية آمنة فى جوار دولة فلسطينية قابلة للحياة والنمو. وكان ذلك فى المؤتمر الذى عقد فى واشنطن تحت شعار: «تأييداً لإسرائيل... وللسلام». وقد أغضب خطاب جونز اللوبى الإسرائيلى لأنه صادر عن شخصية رسمية أولاً، ولأنه انتقد سياسة الاحتلال منذ سنة 1967. وعليه تقرر ممارسة ضغوط سياسية وإعلامية من أجل إخراجه من البيت الأبيض. وسط أجواء الاستنفار السياسى الذى دشنه الرئيس أوباما ضد نتانياهو، وافقت الحكومة الإسرائيلية على تجميد الاستيطان لمدة ستة أشهر. ووصلت المناقشات الى حل وسط والقبول بتجميد الاستيطان لمدة سنة، شرط موافقة السلطة الفلسطينية. وفجأة، تبدل موقف نتانياهو الذى أبلغ جورج ميتشل أنه يستثنى من التجميد القدس بجزأيها الغربى والشرقي. ويبدو أن هذا التغيير حدث بسبب ضغوط الكونغرس على الرئيس، وتهديد الغالبية بأنها ستعارض تمرير برنامجه الصحي. أثناء زيارتها الأخيرة للمنطقة حاولت الوزيرة كلينتون أن تبيع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، أوهاماً من النوع الذى عرضته عليه. ومع أن نتانياهو لم يقبل بمبدأ الشروط المسبقة فى موضوع المستوطنات، إلا أن كلينتون وصفت موقفه بأنه «أمر غير مسبوق فى الديبلوماسية». ولكن التحايل على تغليف مبادرة السلام بعبارات الإطراء لنتانياهو لم يقنع أبو مازن والوفد المفاوض، لذلك جرى تذكير كلينتون بشروط «خريطة الطريق» التى أعلنت قبل ست سنوات من مجلس الأمن. وينص الشرطان المسبقان على وقف العنف من جانب الفلسطينيين مقابل تجميد البناء فى المستوطنات. واعترف عباس أن الفلسطينيين نفذوا الشرط المطلوب منهم، ولكن نتانياهو لم ينفذ وعده بتأييد قيام دولتين لشعبين. وفى المغرب ومصر، سمعت هيلارى كلينتون انتقاداً قاسياً تناول انحياز بلادها السافر لإسرائيل. ذلك أنها الدولة الوحيدة التى تعاملها إسرائيل كدولة تابعة، فى حين تستعمل مع الدول الأخرى أسلوب القصاص. ففى أفغانستان أسقطت النظام ولا تزال تحارب «طالبان». وفى العراق مارست الاحتلال بعدما طردت صدام حسين من الكويت سنة 1991. وهى حالياً تهدد إيران وكوريا الشمالية بعقوبات اقتصادية وسياسية. وعلى رغم تكرار التجاوزات الإسرائيلية، فإن دولة اليهود ما زالت تحصد المساعدات الضخمة والمعونات العسكرية المحرمة حتى على الحلف الأطلسي. وهى متهمة بجرائم حرب كتلك التى حدثت فى غزة ولبنان، ومعفية من عقاب القتل والاغتيال واضطهاد الفلسطينيين. ومع هذا كله فهى تشعر بأن «الفيتو» الأميركى التلقائى سينقذها من كل تنديد وعقوبة. صحيح أن كلينتون تراجعت عن موقفها وعادت لتكرر أن الولاياتالمتحدة لا تعترف بشرعية المستوطنات... ولكن الصحيح أيضاً أن مشروع السلام الذى حدد أوباما فترة تنفيذه بسنتين، لن يبصر النور. وبما أن السياسة لا تحتمل الفراغ، فإن واشنطن تدرس إمكان إجراء مفاوضات غير مباشرة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، خوفاً من انطلاق انتفاضة ثالثة تقضى على الأمل بأى حل. كما تقضى بالتالى على مستقبل أبو مازن وصحبه ممن راهنوا على الولاياتالمتحدة، وتفتح الباب واسعاً لحركة «حماس» المتحمسة لاستمالة الناقمين فى الضفة الغربية. بقى الحديث عن مناسبة انقضاء سنة كاملة على عهد باراك أوباما. والمؤسف أن الصحف الأميركية لم تجد له هذا الأسبوع أى إنجاز يستحق جائزة نوبل، سوى نجاحه فى زواجه من ميشال. ولكنها حذرت من إرسال أربعين ألف جندى إضافى الى أفغانستان، لأن حرب الاستنزاف أسقطت الاتحاد السوفياتى فور انسحابه من تلك البلاد، تماماً مثلما أسقط الكونغرس نفوذ سيد البيت الأبيض عقب الهزيمة فى فيتنام. والطريف أن الحزب الجمهورى بدأ منذ اليوم يتهيأ لدخول البيت الأبيض بعد ثلاث سنوات.