بعد معرفتى آخر أخبار الساعة حملت أمتعتي: امرأة فى آخر الطريق فقدت عقلها وهى الآن بين الحياة والموت ,ولدها الأكبر غادر البيت منذ عشرة شهور مخلفا زوجة سليطة اللسان. كل شيء كان ممددا على الطريق ومرتخيا :الناس, البيوت, كل شيء ,كانت أمتعتى عبارة عن (كيس تمر وخبز وأوديب ملكا وصورة تخطيطية لأخي) منذ متى وأنا خارج الزمن الحقيقى ؟لاادرى ,يزحزحنى الم أسفل المعدة ,أتنفس بصعوبة ,اشعر بى اقفز بعيدا عن الأرض . الجسر الوحيد الذى يوصلنى بالعالم ,هو قدرتى على التحكم بضروريات الحياة ,أكل وشرب عدا ذلك يندرج تحت لوح الخرافة ,وإلا من يصدق إن امرأة غير عاقلة تمسك بالحياة من آخر خيوطها والعالم باجمعه متوقف عن الحركة ,وأنا الوحيد الذى يتنفس, اعجز عن فعل شيء لها. حلم آخر يتحطم بين يدى ويتمزق مثل قطعة إسفنج ,حلم يلاحقنى منذ ثلاث ساعات ويفصلنى عن مهرجان الموت, إنها حكمة الدقائق التى يبثها الزمن عبر حركة الكائنات المندرجة تحت التسمية ذاتها ، كائنات خارج الزمن . كانت الفراغات التى تتصل بالطريق تحتل مساحات واسعة جدا ، تضرب على المشهد , قطاعات واسعة من البشر يمرون على إخوانهم الذين افترشوا الأرض موتا وقهرا . القلوب التى التبس عليها الأمر , والوجوه المغتسلة بمياه القلق توحدت لإيقاع المشهد . حقائق غير متكاملة لمعرفة الحضور البائس لامرأة غير عاقلة تبحث عن ولدها البكر الذى اختفى منذ عشرة شهور مخلفا امرأة سليطة اللسان وطفلين . دعنى أتنفس , أخرجى من هذه العتمة الباردة , أريد أن أتوحد مع هذه القاذورات التى خلفها التاريخ منذ أربعة عشر قرنا , دعنى أتنفس , اخطف ريشة من الحاضر , انثر نعومته وروعته وأتوج نفسى ملكا , استباحت طريقة مئات من المجتمعات البشرية التى استقرت هنا قبل مأساة المرأة بنصف عقل وهى تسأل الحجارة والشجر والجنود عن ولدها البكر الذى غاب منذ عشرة شهور لم تستطع الحضارة أن تمحونى من على سطح الأرض , لكن هشيمها لم يزل يلاحقنى ويرتقى السلالم باتجاهى . بوصلته دائما باتجاهى شاراتها مضطربة بألوان بنفسجية ناصعة ومتموجة لا احد غيرى يعرف ماذا يعنى الرقم 2.37 الذى يقراه البعض 2.27 وقد وجد منحوتا على كف امرأة قتلت يقال إنها كانت جميلة , تربى طفليها على الصمت . الرقم 2.37هو فى الحقيقة قصاصة ورق سقطت خارج الحلم . كنت مزدحما بالأحلام . كالشواطئ المليئة بالنخيل والجنود الهاربين . نخلات عملاقة تسقط ظلالها على صفحة الماء خلف السدة الترابية الممتدة بين قلعة صالح والنهر بعد ساعة تحديدا – فتحت ذاكرتى وأنا أتخطى منتصف السدة , أطأ صدرها وأرى الماء بأمواجه الداكنة مليئا بالوحشة , الوحشة ذاتها وأنا احى المرأة العاقلة التى تصرخ أمام الكون كله بأن ولدها البكر مازال حيا , رداء الليل يلفنى , يطاردنى بأحلامه , الحقيقة الوحيدة التى انفرد بها التاريخ ولم يمسها الزيف هى الحرب التى حلت على السدة الترابية وراح ضحيتها أخى وطفليه وزوجته الجميلة وأمى بعقل مضطرب . قصاصة من الحلم أيضا أو نافذة فتحت باتجاه الشرق . والبيوت الطينية تغوص فى منخفض اخضر , كل شيء ينحدر من السدة يتصل بالطريق عبر أقنية متداخلة , سقط أخى فى إحداها كما يقول الجنود . أخرجت اوديب ملكا وقرأت ( إن المعرفة من قبل تثقلنا بالأحزان العميقة فماذا تعلن من جديد ) أيهما يهيمن على الآخر , الزمن الحاضر الملفع بعباءة القتل والجوع أم الزمن الرقم المليء بالنبوءات ؟ حول جسدى يسخن التاريخ , يتحرك ببطء حول البساتين , أسفل الطريق أطلق صافرة ليتجمع الرهط البشرى . أبخر المكان الذى هبطت عليه ريح من الشام لم أكن تماما على السدة الترابية , ولم أكن واقفا أبدا تحت تأثير الواقع ,ربما كنت فى اتجاه سلبى لمهب الريح التى شطرت ذاكرتى . وعلى أشرطة الاقنية الخضراء ,كانت العيون ترقب الجسد المسجى بيديه الفزعتين وقد تلونتا بالتراب وحفرنا عليه الرقم2.37والذى يقراه المارة 2.27 كانت الأحلام ترسم صورة لزمن تفكك وأنا انزلق معه بمحاذاة السدة الترابية,كان للعيون فعل الذاكرة ,تتذكر الحوادث بدقة قصوى حتى إنى سمعت احد الناجين من الحرب التى قتلت أخى وهو يجادل فى المدى الذى وصلت إليه درجة اللون لقطعة من البلور استقرت فى قاع النهر. قبالة ذلك الحدث كانت المرأة السليطة اللسان تتكلم بحكمة , ولم يعد الوقت كافيا لردم الآثار التى خلفها الدهر على وجه المرأة بنصف عقل وهى تجد فى البحث عن ابنها الأول كانت الوجوه عامرة بالطمأنينة وأنا اسمع صوت سقوط الماء على جرف السدة وجريانه بمحاذاتها فى جداول اقل انخفاضا حيث تتجمع الأسماك الهاربة من أصوات الرصاص. تركت الحلم ينساب فى هدوء وسرت بمحاذاة النهر ملوحا بيدى للجنود الهاربين من الجحيم والمخلفين حدائق ونباتا وذكريات. لم يعد لمقتل أخى عند السدة وللحرب وجود أمام هول الرقم 2.37والذى ثبت أمام مفارز الإعدام المنتشرة على طول السدة الترابية. انك ترى باستمرار السيارات الروسية المحملة بالبحث دون عناية , بطانيات مدماة تغطيها ولم يعد لها وجود, يهبط الحلم عبر كنف العالم ,يصعد درجات الزمن بسلمه الذى لايرتقيه احد سواه. وكانت الريح تأتى من جهة الشام, فى تلك اللحظة كانت الشمس تغير موقفها وتطارد المرأة التى خلفت فى تقاوميها الابن الوحيد وهو يغادرها مخلفا زوجة بائسة وطفلين محاطين بالغرباء وعلى النعش الأسود للحقيقة حفر الرقم 2.37 والذى لم يعد يشكك فى قراءته احد..