كان طبيعياً أن يترحَّم الجنوبيون على قائدهم وزعيمهم التاريخى «جون جارانج»، وأن يذهب خليفته سيلفا كير قرب قبره ليحيى كفاحه من أجل هذا اليوم، لكن هناك فى الشمال أيضاً من يترحَّم على «جون جارانج»، رأيتهم بنفسى فى شوارع الخرطوم وسمعتهم وتجادلت معهم، هم يُكذّبون سيلفا كير، فليس هذا هو اليوم الذى كافح من أجله «جارانج». يعرف الشماليون فى السودان، خصوصاً أولئك الذين يعتريهم حزن مكتوم على انفصال الجنوب، أنهم فقدوا هذا الجزء من وطنهم حين فقدوا «جون جارانج»، وأن اللحظة التى دُفن فيها الرجل على ربوة عالية تطل على مدينة جوبا فى خريف 2005 دُفن معه السودان الموحد. يعضُّ كثير من الشماليين اليوم أصابع الندم، يعتبرون أن «جارانج» كان فرصة مهدرة، أدمنوا إضاعتها عشرات السنوات، حتى ضاعت فى اللحظة التى عرفوا فيها قدره، وفهموا عبرها حقيقة مواقفه وقناعاته ونواياه، ضاعت وضاع خلفها السودان الواحد، السودان القارة، السودان المتنوع بألوانه وعقائده وثقافاته وأغانيه. كان «جارانج» زعيماً وحدوياً بكل ما تحمله تلك الكلمة من معنى، كان يغضب حين يوصف بأنه قائد حركة انفصالية، تدعو لفصل جنوب السودان عن شماله، ظل حتى رقد رقدته الأخيرة يُذكّر الجميع أنه قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان، كل السودان، ناضل الرجل عشرات السنوات ما بين معارك وقتال وتفاوض، من أجل سودان واحد يتسع للجميع، حمل على كتفيه أحلام قبيلته وشعبه فى الحياة الكريمة وفى مظلة الوطن العادل، كما حمل أحلام كثير من الشماليين فى وطن ديمقراطى، يحترم التنوع، ولا يمارس استعلاء ثقافياً أو إنسانياً أو تنموياً ضد الآخرين. إنهم يتذكرون الآن لحظة دخوله الخرطوم عقب توقيع اتفاق نيفاشا، لأول مرة منذ السبعينيات، والاستقبال الحاشد الذى انتظره من جماهير عريضة خرجت لترحب به وتحتفى بنهاية الحرب، وبقدوم قائد يعرفون أنه ما حارب إلا من أجل سودان موحد، بعضهم يتذكر كيف عقدوا العزم والنية على انتخابه رئيساً للجمهورية فى الانتخابات الأخيرة التى لم يسعفه قَدَرُه لخوضها، رغم أنه سعى لذلك واعتبر جلوسه على كرسى الرئاسة فى الخرطوم ليس مجرد مشروع شخصى، ولا انتصار لفصيل، بقدر ما هو إعلان لسودان جديد وموحد. لكن هناك بالفعل سوداناً جديداً، يبنيه البعض فى الجنوب منفرداً، ويسعى آخرون للاستفراد به فى الشمال أيضاً، جانب منهم تلاميذه وأبناؤه ورجاله، الذين زرع فيهم كل شىء إلا الولاء للسودان الواحد، والجانب الآخر شركاؤه الذين عقد معهم اتفاقاً يمنحهم الفرصة لإبقاء السودان موحداً فأهدروها، ربما أخفق الرجل فى زرع عقيدته الوطنية فى صدور خلفائه، وأخطأ فى اختيار شركائه، تأخر كثيراً فى السعى إلى الخرطوم، ولم يفعل إلا مع شركاء يرفعون شعار «لا وحدة على حساب الشريعة»، وكأن الحفاظ على الوطن والعدالة فى إدارته ليسا من الشريعة. أخطأ «جارانج» بتأخره، وأخطأ حكام السودان فيما قبل «الإنقاذ» فى التردد والخوف والعجز عن بناء الثقة، فإذا كان العسكرتاريا متصلبين، والإسلاميون متطرفين، فماذا فعل الديمقراطيون من أجل استيعاب «جارانج» والحفاظ على الوحدة؟ سقط السودان الواحد مع ذات الطائرة التى سقطت ب«جارانج»، ورقد إلى جواره تحت ثرى الجنوب، وقُضى الأمر منذ ذلك الحين..!