الجرائم في حق الشعوب يجب أن لا تسقط بالتقادم، كما أن أرواح الأبرياء الذين قتلوا بالمخالفة لكل المواثيق والعهود الدولية لابد ألا يغلفها النسيان، وتلقى في سلة مهملات ذاكرة العالم، لذا علي كل المنظمات الدولية "النزيهة" المعنية أن تقوم بمسئولياتها الأخلاقية في جعل هذه الأحداث حية على مسرح الأحداث، وأن توظف كل أدواتها وآلياتها في كشف مرتكبيها وفضحهم أمام ضمير الإنسانية، وألا تكتفي بتشكيل لجان وصياغة تقارير لا تلقى حتى حظها من المناقشة، كما حدث حيال تقرير القاضي الجنوب أفريقي "جولدستون"، الذي أدان الأفعال الإسرائيلية في حربها ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة قبل عدة شهور. هذا التقرير المحترم، الذي نجح في فضح الممارسات العنصرية الصهيونية واصفا إياها بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، مطالبا منظمة الأممالمتحدة بأجهزتها المتعددة بضرورة إحالة هذا الملف إلي المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في هذه المجزرة –مكتملة الأركان- حتى يتم إنزال العقاب بكل من ساهم فيها، إلا أن هذه المنظمة كعادتها مع الحقوق العربية، يبدو أنها أخذت النتائج التي انتهي إليها التقرير بغير اهتمام، وبالفعل قرر المجلس الدولي لحقوق الإنسان تأجيل نظر القضية، وذلك بحجج أقل ما يمكن أن توصف بالواهية غير المقنعة علي الإطلاق. وبالتالي، لم تجد منظمات حقوق الإنسان العربية والأجنبية والدولية غير الحكومية أمامها غير الإدانة والرفض القاطع لهذا الإجراء مطالبة بضرورة التكاتف للضغط علي الأممالمتحدة لإعادة النظر في هذا الأمر، بعدما كانت هذه المنظمات قد دخلت في تحالفات معا من أجل توثيق الجرائم الإسرائيلية، وملاحقة مرتكبيها واستنفاذ السبل القضائية والإعلامية في هذا الشأن، كما سعت للضغط على المجتمع الدولي من أجل تشكيل لجنة تقصي حقائق في المجازر، وبالفعل أثمرت هذه الجهود عن " لجنة جولدستون"، التي شكلها المجلس الدولي لحقوق الإنسان، وقد مثلت هذه الجهود في حينها تجسيدا رائعا لتعاطي المجتمع المدني العربي مع قضايا الأمة والمخاطر التي تتعرض لها. كما جسد هذا الموقف قدرة التنظيمات غير الحكومية العربية في التأثير على المستوى الدولي والتواصل الفعال مع الآليات الدولية لحماية حقوق الإنسان، إلا أن قرار تأجيل نظر القضية أبطل مفعول كل هذه الجهود، لذلك لابد أن تواصل هذه المنظمات -خاصة العربية منها- عملها من أجل إبقاء القضية حية في ضمير العالم والإصرار على مناقشة التقرير في الدورة القادمة للمجلس في شهر فبراير؛ تمهيدا لإحالته للجمعية العامة للأمم المتحدة. وكذلك يجب استغلال تعاطف المنظمات الدولية غير الحكومية وحكومات بعض الدول مع القضية في الضغط على الدول الكبرى التي تعرقل إحالة الملف إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، كما يجب على المنظمات غير الحكومية العربية، التي سوف تتاح لها فرصة المشاركة في اجتماعات الدورة القادمة للمجلس الدولي لحقوق الإنسان، والتي ستنعقد في الفترة من 8- 19 فبراير 2010، وكذلك تلك المنظمات التي تحظى بالصفة الاستشارية في المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة أن تتكاتف معا لطرح القضية بقوة في الدورة القادمة. وفي هذا السياق، تري مؤسسة "ماعت" للسلام والتنمية وحقوق الإنسان أن فشل المجلس الدولي لحقوق الإنسان في مناقشة تقرير جرائم الحرب في غزة، الذي أعدته اللجنة المٌشكلة برئاسة القاضي الدولي ريتشارد جولدستون، وتأجيله للدورة القادمة يمثل فشلا للمجلس الوليد قد يؤثر على مدى مصداقيته في المستقبل، منبهة علي أن المجلس الدولي لحقوق الإنسان ونظم العدالة الدولية أصبحتا في اختبار حقيقي وفاصل لمدى فاعليتهما ومدى كفائتهما في إعمال النصوص والصكوك الدولية، لتحقيق العدالة والحماية الدولية. وأكدت المنظمة -في بيانها الصادر بهذا الخصوص- أن هذا التهاون سوف يؤثر بالقطع على مدى فاعلية آلياته الدولية لحماية وتعزيز حقوق الإنسان، ومن ثم مدى الاحترام، الذي تتمتع به هذه الآليات من قبل الحكومات الوطنية، لافتا إلي أن هذا التأجيل غير المبرر بالمرة، لأن التقرير لم يركز على إدانة إسرائيل فقط باعتبارها المسئول المباشر عن كل هذه الأحداث، وباعتبارها تمثل أحد أعضاء المنظومة الأممية، وهو ما يفرض عليها التزامات محددة، بل إنه أدان حركة "حماس"، عندما ذكر التقرير أن الجيش الإسرائيلي هاجم المدنيين بشكل متعمد ومنتظم. وأشارت إلي أن التقرير اتهم أيضا المسلحين الفلسطينيين بارتكاب جرائم حرب بإطلاقهم صواريخ على المدنيين الإسرائيليين، وأن اللجنة المشكلة أعدت تقريرها بعد أن أجرت تحقيقا في 36 حادثة، وتحدثت إلى عشرات من الشهود الفلسطينيين والإسرائيليين في غزةوجنيف، علما بأن إسرائيل رفضت التعاون مع اللجنة ومنعتها من دخول إسرائيل. وأعلنت "ماعت" تضامنها مع كل المنظمات غير الحكومية الدولية والعربية، التي أدانت قرار تأجيل مناقشة التقرير، وانتقدت وقوف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة خلف هذا التأجيل المتعمد، حيث أن التأجيل في هذه الحالة يمثل تسويف لا مبرر له، موضحة أنه سوف يترتب علي هذا القرار السماح للمجرمين، الذين أدانهم التقرير، وطالب بتقديمهم إلى العدالة الدولية، ليخططوا للإفلات من العقاب، ويعدوا أوراقهم لهذا الغرض. وأدان بيان المنظمة بشدة عملية خلط الأوراق السياسية بالحقوقية، التي تمارس على المستوى الدولي، وجعل التسامح مع انتهاكات حقوق الإنسان ثمنا بخسا للحصول على مكاسب سياسية رخيصة، وعربونا لتحالفات وصداقات تتم على جثة الحق والعدل، متعجبا من فشل الدول العربية الست الأعضاء في المجلس الدولي لحقوق الإنسان في طرح الموضوع على مائدة الدورة المنعقدة حاليا في جنيف رغم مرور حوالي 6 أشهر على انتهاء هذا التقرير.