الأزمات في الشرق الأوسط ليست أزمات طارئة, يمكن محاصرتها, أو احتواؤها في زمن قصير, وإنما هي مشكلات مزمنة تضرب بجذورها في التاريخ السياسي والاجتماعي والتركيبة الإثنية والدينية, التي نتجت عن قرون من موجات الاستقرار والهجرات والتفاعلات في هذه المنطقة من العالم. ومنذ أن نشأت الدولة القومية علي أنقاض إمبراطوريات قامت ثم زالت, ومشكلات المنطقة تعبر عن نفسها بشئ من القوة والحدة في بعض الأحيان, وربما كان قدر هذا الجيل, من الحكام والمحكومين في هذه المنطقة, أن يعاني تداعيات تلك المشكلات, وأن يتحمل مسئولية وضع حد لها, أو علي الأقل التخفيف من تأثيراتها المدمرة علي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية, فهذه المشكلات الماثلة في كل مكان علي سطح الحياة في الشرق الأوسط, ليست من صنع هذا الجيل من الحكام والشعوب, ولكنهم مطالبون بوضع نهاية لها, من فلسطين إلي العراق إلي أزمات التطرف والإرهاب, وبروز التيارات الدينية المخيفة. ومثلما تستمد تلك المشكلات جذورها وأسبابها من روافد متعددة, فإن جهود مواجهتها لابد أن تتعدد وتتضافر وتتكامل أيضا. وفي ظل المواجهة الجماعية المطلوبة لمشكلات الشرق الأوسط, فإن المنطق السياسي يفرض وجود قوة قادرة علي تنسيق الجهود وتعزيز التكامل الحقيقي بينها حتي تصبح الحلول ممكنة.
ولأسباب كثيرة ومحتمة تحملت مصر تلك المسئولية منذ زمن ليس بالقريب, وقد أخفقت حينا, ونجحت أحيانا, ولكنها في كل الظروف لم يكن أمامها من اختيار سوي تحمل مسئوليتها التاريخية في قيادة جهود العمل العربي لمواجهة أزمات المنطقة. وخلال ما يزيد علي أربعة عقود اندلعت في المنطقة أزمات وحروب محدودة, ولم يكن مستوي العمل العربي المشترك قادرا علي الحيلولة دون وقوعها, بسبب أطراف خارجية وأخري إقليمية ولكن مصر استطاعت خلال تلك العقود أن تمنع المنطقة بأسرها من أن تنجرف نحو حرب مدمرة وفوضي شاملة, تزيد أزماتها تعقيدا. وبرغم صيحات الغضب التي صاحبت كل أزمة طارئة, أو تحركات عسكرية لاتتجاوز بتأثيراتها مناطق القتال فيها, فإن الجميع بات يدرك بعد كل أزمة من تلك الأزمات حصافة القوي التي حافظت علي المصالح العربية العليا, وحالت دون أن يصبح الواقع العربي كله ضحية لأزمة طارئة ومحدودة يمكن احتواؤها وتحجيم نتائجها. وخلال تلك العقود أيضا واجهت مصر, في مساعيها لحماية المصالح العربية العليا, الكثير من الانتقادات والاتهامات, ولكنها استطاعت, بالإصرار علي النظر بعيدا والعمل الدءوب, أن تضع المنطقة عند الحد الأدني من الخطر, الذي حفظ لها كثيرا من الأمن والاستقرار. والحقيقة هي أن الرئيس حسني مبارك قد تحمل الكثير من الجهد في مساعي الحفاظ علي مصالح المنطقة, وتحمل الكثير أيضا من الانتقادات, التي وجهها أصحاب المصالح الراغبين في فوضي جديدة تكتسحها, وربما كان الرئيس, طوال السنين الماضية, يراهن علي نمو الوعي بالأخطار والقدرة علي الفصل بين الأخطار الصغيرة والأخري المدمرة طرق مبارك كل باب في الشرق والغرب, يمكن أن يجد وراءه جهدا يدعم الأمن العربي, ويبعد أخطار الفوضي, التي تربصت بالمنطقة بأسرها زمنا ليس بالقصير, ولم تكن زياراته الخارجية, طوال السنين الماضية, تبحث في شئون مصر وحدها, وفتح مجالات تدعم اقتصادها, ومستوي معيشة أبنائها, برغم أهميتها, ولكنها كانت أيضا فرصا للبحث عن الاستقرار والأمن في المنطقة, الذي يؤثر أيضا في أمن مصر واستقرارها. بالأمس القريب كانت للرئيس جولة في فرنسا وتركيا, ثم تبعتها جولة عربية في منطقة الخليج, حيث تتزايد احتمالات الخطر المتربص بأمن الخليج ومصر معا. وقد جاءت هذه الزيارة عقب لقاء الرئيس مبارك مع رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي, ومع رئيس مجلس الشوري الإيراني علي لاريجاني.. هذه المحادثات الرئاسية المتلاحقة تعكس حقيقة لاسبيل إلي إنكارها, وهي أن مصر ورئيسها حسني مبارك يمثلان قوة الدفع الرئيسية نحو احتواء مشكلات المنطقة. فالعلاقات المصرية الإيرانية, المقطوعة منذ نحو ثلاثين عاما, لم تمنع مصر, في إطار رؤاها بعيدة المدي, من أن تعارض أي تحرك عسكري أمريكي أو إسرائيلي ضد إيران, يدفع بالمنطقة نحو فوضي, عملت مصر طويلا من أجل تجنبها, ولم تمنع مصر من أن تعلن مرارا حق إيران في توظيف الطاقة النووية في أغراض سلمية تنموية, ولم تستجب مصر للسخافات الإيرانية في بعض الأزمات الطارئة, ولم تبن استراتيجية تحركها علي أساس الانفعال بما أقدمت عليه إيران كثيرا من قبل, وكذلك لم تمنع سنوات القطيعة الدبلوماسية إيران من أن تلجأ إلي مصر, وإلي الرئيس مبارك في إطار مساعيها لإيجاد حلول لأزمتها الراهنة مع الغرب, بعيدا عن المواجهات العسكرية, خاصة أن تلك الأخطار العسكرية تهدد الأمن الإيراني في الداخل. ولايعنينا هنا إن كانت إيران قد أقرت بقوة مصر وحكمتها وقدرتها علي التأثير حين لجأت إليها, ولكن الذي يعنينا هو أن تدرك إيران أن لدي مصر رؤية ثابتة لم تتغير بشأن أمن المنطقة ومصالح شعوبها, وأنها لن تراهن علي المصالح العليا بأي شكل من الأشكال, وأن التحالفات, التي يتحدثون عنها في المنطقة, هي تحالفات من أجل تلك المصالح, وأنها مفتوحة لكل دولة تعمل من أجل تلك الأهداف. ولاداعي لأن نذكر أن إيران اليوم مهددة بعقوبات عسكرية واقتصادية خارجية, بل إن كثيرين يرون إن إيران مهددة بحرب أهلية, فالوضع الداخلي في إيران غير مستقر, وقد انكشفت وتعرت إيران داخليا عقب جنازة منتظري, وظهر أن الفريقين الحاكمين يتربصان ببعضهما إلي حد كبير ينذر بخطر, أو شبح حرب أهلية ضخمة, بالإضافة إلي المخاطر الخارجية, وقد أثبتت السياسات الإيرانية فشلها في التدخل في شئون الغير, وانكشفت مخططاتها عربيا في اليمن والعراق ولبنان بل في سوريا, كما تنكشف ألاعيبها المستمرة في فلسطين. ولا أدعي أن الجميع بات يدرك حقيقة أسس التحركات المصرية, ولا أدعي أن الجميع يسعدهم نجاح تلك التحركات في احتواء الأزمات, وقطع الطريق علي أهدافهم, ولكن ذلك الحشد من المغردين خارج السرب, يتضاءل عددا وتأثيرا بحكم النتائج التي تتحقق يوما بعد يوم. فالعلاقات المصرية السعودية التي تحقق في كل يوم إنجازا لمصلحة الشعبين والمنطقة من حولهما تتعرض للمز والغمز من بعض الأقلام, هذا اللمز يستدعي من التاريخ أحداثا عكرت صفو علاقات البلدين في ظروف لاسبيل إلي عودتها. وهناك آخرون تسبقهم أمنياتهم بأن تشهد العلاقات المصرية السعودية تدهورا في المستقبل, حين يأتي إلي سدة الحكم في البلدين جيل آخر, يفتقر إلي حكمة القيادة الراهنة في مصر والسعودية, بل إن السخف وصل بالبعض إلي البحث عما يتصور أنه يسيء إلي علاقات البلدين بذكر مشكلات أفراد, أثارت في حينها بعض الكتابات الصحفية علي الجانبين.. ويبدو أن النمو المطرد في العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية بين مصر والسعودية, حكومة وشعبا, تثير حقد البعض إلي حد لم يكن لأحد أن يتصوره, ففي العالم العربي, فيما يبدو, الكثير من الثعالب الصغيرة, التي تسعي إلي إثارة مشكلات لن تثور بين الكبار. وعلي صعيد العلاقات الثنائية بين مصر وكل من السعودية والإمارات والكويت, دفعت زيارة الرئيس مبارك العلاقات الاقتصادية خطوات إلي الأمام, بما يحقق مصالح الأطراف المعنية. وزيارات الرئيس إلي الدول الثلاث تحقق تقاربا هائلا من حقيقة واقعة, وهي أن التكامل بين القدرات الاقتصادية أصبح مفتاحا رئيسيا من مفاتيح التنمية لدي الجميع. وما تحقق بين مصر وكل من السعودية والإمارات والكويت في مجالات التعاون الاقتصادي يضع نموذجا لما ينبغي أن تكون عليه الحال في العالم العربي بصفة عامة, وليس لأحد منا أن ينكر أن مستويات الحكمة المتوافرة في قيادات هذه الدول تدفع الجميع صوب الإدراك الواعي لحقيقة التكامل الاقتصادي العربي, وهو ما يضمن استمرار التعاون في الأجيال المقبلة. ولعلنا نشير إلي حكمة العمل السياسي في مصر عندما نربط بين التحول المصري علي الصعيد العالمي والأوروبي في رحلة فرنسا الأخيرة, والتحرك الإقليمي مع تركيا, ثم ما أعقبه من زيارة لدول الخليج.. فالعلاقات الخارجية المصرية, وما يكونه الرئيس مبارك من علاقات وثيقة مع زعماء العالم, وزعماء منطقتنا, يصب في حماية المصالح العربية كلها, ويفعل دورها علي الصعيد العالمي, ويساعد علي حماية المنطقة من التدهور, أو الانزلاق, بفعل سياسات التطرف والإرهاب, إلي إيجاد مزيد من الصراعات والحروب, بما يؤثر علي أوضاعها الداخلية.. وسيذكر التاريخ لرئيس مصر أنه رجل الشرق الأوسط الأقوي القادر علي التحرك مع الجميع لتجنيب المنطقة الوقوع في الحروب أو التدهور السياسي. ولعل عناوين رحلاته الأخيرة, ولقاءاته المتعاقبة مع مراكز وصناع الأحداث, تكشف وتظهر هذا الدور, وهذه المكانة التي لم تتحقق لمصر في أي مرحلة أخري في تاريخها, ويجب علي المنصفين والقادرين علي رصد الأحداث والتطورات أن يرصدوها, ويقيموها بنتائجها, وتأثيرها وحجمها السياسي الصحيح, وأيضا تأثيرها علي الوضع الداخلي لمصر, اقتصاديا, واجتماعيا.