الجرأة إلى حد الصفاقة، التى اتسمت بها تصريحات الأفعي الأميركية، آن باترسون، وحذرت فيها المؤسسة العسكرية، من التدخل في السياسة، ولو لتصحيح الأوضاع الراهنة في البلاد، وهي التصريحات - بالمناسبة - التى لم يخرج حتي اللحظة، تصريح أو بيان عسكري واحد يدينها أو يشجبها أو حتى يستنكرها، في حين نفت الأفعي أنها قالتها، ولكن بعد أن أوصلت رسالتها. هذه التصريحات جاءت في هذا الوقت تحديدا، لكي تعبر عن قدر من الغضب الذي يعتمل في صدور متخذي القرار في واشنطن، تجاه المؤسسة العسكرية المصرية، كنتيجة – فيم يبدو – لرفض الأخيرة، الغوص في وحل الأزمة السورية، ناهيك عن اتحاذ موقف المؤيد لتدخل عسكري غربي مرتقب، وفق تمهيد نيراني دبلوماسي ودولي لوضع الديكتاتور السوري "بشار الأسد"، موضع المتهم بارتكاب جرائم حرب، مستخدما أسلحة غير تقليدية (كيمائية) ضد شعبه، وكأن ذبح مئات الألوف من المدنيين السوريين علي مدي عامين مضيا، حتى بدون اللجوء للأسلحة التقليدية، لم يكن يدخل في نطاق جرائم الحرب. ولكن الواضح أن استغلال الكيان الصهيو أميريكي للأزمة السورية، والتلاعب بمسارها حتى يصبح متسقا في النهاية ومصالح الكيان المعادي لكل دول المنطقة، عدا "إسرائيل" كان يحتاج لبعض الوقت حتى تنضج التفاحة بحيث يصبح سقوطها من علي قمة الشجرة قريبا بما يكفي لقطافها بدرجة أكبر من السهولة. الغضب الأميركي إذن يأتي من منطلق رفض الجيش المصري "التعاون" مع واشنطن في تنفيذ مخططاتها، مع أن الجيش ذاته، وفق الرؤية الأميركية، قد شارك كمقدمة لعملية احتلال العراق، بدءا بمعركة تحرير الكويت، في تسعينات القرن الماضي، فلماذا رضي الجيش ب"فتح" العراق للأمريكيين ويرفض الآن "فتح" سورية معهم؟ (أيضا وفق الرؤية الأميركية). وربما قد بدت أمارات الغضب واضحة في "استدعاء" أمريكا لرموز القوي السلفية لزيارة البيت الأبيض، وسط تمهيد سياسي كثيف، عبر تسريبات من أروقة صنع القرار الأميركي، مفادها أن عمر "الإخوان المسلمون" في سدة الحكم ربما يكون قصيرا بما يستدعي من واشنطن السعي لتوثيق عري التواصل مع القوي السياسية البديلة، حال سقوط نظام الحكم الراهن، وهو ما يعد مبرر أمريكا للجوء للسلفيين، الأكثر كثافة علي مستوي الشارع ولكنهم الأضعف تنظيما بكل تأكيد، مقارنة بالجماعة، وبالطبع بالمقارنة مع المؤسسة العسكرية، فيم بقيت هذه الأخيرة بمعزل عن المائدة التي لا يجلس حول كعكتها سوي أصحاب الحظوة في الرضا السامي الأميركي. من هنا بدا الغضب جليا، وبالتالي كان العقاب، متمثلا في محاولة استبعاد المؤسسة العسكرية من ترتيبات ما بعد حكم الإخوان، مع تفضيل ولو مجرد التحاور مع "السلفيين"، ثم التصريحات المتعجرفة التى لاكَهَا لسان العاهرة الأميركية الساكنة في سفارتها علي نيل مصر، وكأنها تؤدي ذات المهمة القذرة التى كان يقوم بها سفير العدو الصهيوني علي الجانب الآخر من النيل، قبل أن يتم حرق سفارته وطرده ذليلا من أرض مصر، عادة فرعونية أصيلة ولا فخر، وإسقاط علم العار الرامز لأسطورة دولة "الفُرات للنيل"، في يوم التاسع من سبتمبر من العام 2011. من ناحية أخري، لا يسعنا سوي التسليم بأن المؤسسة العسكرية ترزح تحت نير تراث من الاتفاقات التى تنتقص من استقلالية قراراتها وتبتسر حرية حركتها، سواء بأعباء المعاهدة التي تكبل جيش مصر عن توفير حماية حقيقية لشبه جزيرة سيناء، أو باستحقاقات المساعدات التى تستخدمها أمريكا (لتذليل العقبات) و(فتح الأبواب) أمام اعتبارها قوة فاعلة علي الساحة السياسية داخل مصر ومن ثمَّ في المنطقة بأسرها، استنادا لقاعدة جيوبوليتكية قديمة، مفادها أن السيطرة علي الشرق الأوسط يستحيل أن يتم دون السيطرة علي القاهرة. وبحسب ما سبق وذكره الفريق حسام خير الله، - أحد كبار المسئولين السابقين بجهاز المخابرات المصرية، فإن العلاقات العسكرية المصرية – الأميركية، بدأت صياغتها فعليا علي هذا النهج المؤسف، بتوقيع مذكرة التفاهم الشهيرة عام 1975، بين كل من واشنطن وتل أبيب، وتقضي بضمان التفوق العسكري الصهيوني في كل الأزمان والأحوال، علي أن تبقي مصر وكل القوي العربية الأخري – مجتمعة – في المرتبة الثانية والأخيرة. وبالمقابل، رضيت مصر بنتائج هذه المذكرة، علي أساس أن لم يكن هناك بديل آخر، في ظل قطع الطريق مع الطرف الآخر من المعادلة الدولية وقتها، وهو الاتحاد السوفييتي وتسليم أمريكا أوراق اللعبة بالكامل (عدا 1 %) مراعاةً للدقة في الحساب. ثم ووفقا للتفاهمات التى أُجبرت عليها المؤسسة العسكرية المصرية، فقد أصبحت مخازن السلاح الأميريكي – من الدرجة الثانية وربما الثالثة – هي المورد الوحيد للجيش المصري، وتوقفت تماما كل مشاريع التطوير الحقيقية لصناعة السلاح المصري، إلا من هوامش ضئيلة، لا تتعدي تطوير كفاءة طائرة تدريب أو نوعيات بعينها من المدرعات. ولا ننسَ هنا أن المؤامرة الأميريكية علي العسكرية المصرية قد بدأت منذ عقود سبقت ذلك، وبالتحديد، عندما تم إصدار القرار 242، والذي لم يقض فقط بانسحاب "إسرائيل" إلى ما حدود ما قبل كارثة يونيو 1967، ولكن أيضا وبشكل سري (علي طريقة المَلازم السرية لكامب ديفيد) بأن تتوقف مصر عن تطوير أول طائرة وطنية بالتعاون مع التكنولوجيا الهندية، ومن قبل عمليات الاغتيال المتتالية التى تعرض لها علماء الصواريخ الألمان، الذي كان الزعيم الراحل "جمال عبد الناصر" يحاول، عن طريقهم بناء صناعة عسكرية مصرية خالصة، دونما الحاجة (للتسول) من الشرق أو الغرب. أما وبشأن أساليب التخلص من التبعية العسكرية المصرية للكيان الصهيو أميركي، ومخازن سلاحه الردئ فممكن رغم شبه استحالته حاليا، ولكن ليس هذا وقت أو مكان تناولها. من هنا، لا أجد مبررا حقا لأن يظل شعب مصر إما مظلوما مقهورا من نظام مبارك وجواسيسه، وإما مُعاقبا من جيشه ......... أولا علي جهله - أي الشعب – الذي صوتت غالبية ناخبيه لصالح مرشح الجماعة التى بدورها، لا تري مصر إلا كولاية "إخوانية". وثانيا علي جريمة لم يتركبها هذا الشعب، وتتمثل في صفقة تسليم البلد، مقابل الخروج الآمن لطنطاوي وعنان وبدين والملا وشاهين والرويني، حمايةً لهم من الحساب العسير الذي يستحقونه علي وأد أنبل ثورة في تاريخ مصر، وعلي دماء الثوار التى أزهقت أرواحهم وتزهق حتى الآن ويتم التنكيل بهم، ومن قبل كشف عذرية نسائهن في معتقلات العسكر ثم سجون الإخوان، فداءَ لمصر وليس دفاعا عن المناصب أو نهشا لكراسي البرلمان أو الرئاسة، كما فعل الآخرون. ليس من المعقول إذن، أن تتعامل المؤسسة العسكرية مع الشعب وثواره، بمنطق "حسنة وانا سيدك"، أو بتسريب مقولة أننا "تحت أمر شعب مصر : إذا نزل في الشوارع وسالت دماء أبنائه برصاص ميليشيات الإرهاب المتأسلم"، وصولا إلى حد جرائم الحرب التى تبرر نزول الجيش، مع أنهم بتسريباتهم تلك نبهوا الميليشيات ذاتها، فتوقفت عمليات القنص وبدأت مرحلة جديدة من القمع الأمني الممنهج ضد كل من يحاول تحريك الشارع. كما أنهم في المؤسسة العسكرية وأجهزة مخابراتها، يعلمون جيدا أن هذا الشعب لم ينزل فعليا إلا في آخر أيام الثورة، ولم يكن سينزل أصلا لولا أن حدثت موقعة الجمل، بغض النظر عمن كان المسئول عنها، سواءً كان المخلوع بغبائه وجشعه للبقاء في السلطة، أم بتدبير الجماعة و"إخوانها" ممن كانوا مندسين وسط الثوار، مستغلين نقائهم الثوري وهم – أي شباب الإخوان" - مفجري هتافات "يسقط يسقط حكم العسكر". بل إنهم، أي "العسكريون"، يؤمنون تماما أن هذا الشعب، كان علي استعداد (مثير للشفقة) أن يبقي النظام البائد، بكل فساده وسرطانه وجواسيسه الماسون، وذلك علي أن فقط يرحل مبارك، ويبقي الحزب الوطني جاثما علي صدور المصريين ثلاثين عاما أخري..! إن مصر – مجددا أقولها – لا تستحق كل هذا الامتهان من جيشها، بعد أن تم سَوْم شعبها صنوف العذاب والمهانة عقودا بعيدة. وإنه إذا كان خلاص مصر في مقدور رجل ما أو كيان ما ثم رفض أو تأخر، أو حتي خاف من قوة ما علي وجه الأرض مهما كان عظمها، مفضلا أن تأتي الخطوة الأولي ممن هم لا حول لهم ولا قوة، فإنه بذلك يبيع شرفه ويفرط في شرف مصر نفسها. علي الجميع إذن أن يبادر ويجاهد ويناضل من أجل الدفاع عن مصر وشرفها، دون أن ينتظر ضوءا أخضر ما أو مبادرة من جهة بعينها. علي من يري أن مصر وشرفها مهددان أن يتقدم الآن وفورا....... وإلا فليصمت إلى الأبد.