في زمنٍ تُصنع فيه الحقيقة بقرارٍ سياسي لا بعدسةٍ نزيهة، يتحول الإعلام الغربي إلى مرآةٍ مشروخة تعكس ما يريد صُنّاع القرار أن يُرى، لا ما يجري فعلًا. ويمكنك يا عزيزي القارئ أن تلاحظ بسهولة كيف تُصاغ الروايات من وراء الكاميرات التي تدّعي الحياد، وكيف تُرسم ملامح الضحية والجلاد وفق مصالح القوى الكبرى. ولأن الصورة صارت سلاحًا يفوق الرصاص، لم يعد الصراع الفلسطيني مع الاحتلال فقط، بل مع عدسةٍ تُعيد تشكيل وعي العالم كل يوم... وهذا ما أحب أن أهمس لك به يا صديقي وأنت تقرأ. منذ اندلاع آخر موجات العدوان على غزة، بدا المشهد الإعلامي الغربي وكأنه يعيد كتابة التاريخ بمنطق القوة لا العدل. تُختزل المأساة في خبرٍ عابر، وأنت تعرف هذا جيدًا يا صديقي، بينما تُقدَّم الرواية الإسرائيلية بوجهٍ إنساني، وتُشيطن المقاومة ويُحاصر الصوت الفلسطيني بين قنواتٍ تحكمها لغة المصالح. الصحافة التي طالما تغنّت بحرية التعبير، فقدت في لحظة الاختبار بوصلتها الأخلاقية، فصارت تُدافع عن الاحتلال بحجج «الدفاع عن النفس»، وتُبرر القصف وكأنه فعلٌ طبيعي في زمن «الضرورة الأمنية». وهنا يا عزيزي يبدأ السؤال الحقيقي: من يحكي الحقيقة فعلًا؟ لكن خلف هذه الصورة المضللة، تنمو مقاومةٌ من نوعٍ آخر. لم تعد الحقيقة حكرًا على المؤسسات الإعلامية الكبرى، بل خرجت من عباءتها لتسكن هواتف الشباب الفلسطيني الذين يواجهون العالم بكاميرا صغيرة وإرادةٍ صلبة. من قلب الدمار، تُبثّ الصور الحية التي تهزم بروباجندا المليارات، وتُعيد للضمير الإنساني ذاكرته. وهنا يا صديقي تحديدًا تكمن المفارقة: أن تكون الحقيقة ضعيفة الإمكانيات لكنها أقوى من الكذب المنظّم. ومع تصاعد وعي الجمهور الغربي، بدأت بعض الأصوات في كسر جدار الصمت. صحفيون فقدوا وظائفهم لأنهم رفضوا الانصياع للرواية الرسمية، وأكاديميون تحدّوا خطاب مؤسساتهم دفاعًا عن الإنسان لا الهوية. هذه التحوّلات الصغيرة قد لا تُغير موازين السياسة الآن، لكنها يا عزيزي تعيد بناء وعيٍ جمعي أكثر نقدًا وشكًّا في «قداسة الإعلام» الغربي الذي طالما احتكر الحقيقة. وفي المقابل، برز الدور العربي في تشكيل روايةٍ موازية أكثر عقلانية وإنسانية. فالإعلام المصري والعربي بدأ يعيد قراءة المشهد بلغةٍ تُدرك حساسية التوازن بين الموقف الإنساني والمسؤولية السياسية. وبينما تُمارس العواصم الكبرى انتقائية في بثّ الحقيقة، تسعى القاهرة لأن تكون صوتًا للعقل في زمن الغضب، توازن بين الواجب القومي والواقعية السياسية، وتُبقي القضية الفلسطينية حاضرة في وجدان الأمة دون انزلاقٍ نحو الفوضى أو المزايدة. وأقول لك يا صديقي إن هذا الدور ليس تكميليًا، بل جوهري. الإعلام اليوم لم يعد مجرد وسيط بين الخبر والجمهور، بل طرفًا في الصراع نفسه. من يملك المنصة يملك التأثير، ومن يملك التأثير يصوغ الوعي. ولهذا، فإن معركة الوعي لا تقل خطرًا عن معركة السلاح؛ لأن الهزيمة تبدأ حين تُهزم الحقيقة. وفي زمنٍ تُملى فيه العناوين من وراء البحار، يبقى الصوت العربي الحر يا عزيزي هو خط الدفاع الأخير عن إنسانية القضية، وعن حقّ الشعوب في أن ترى العالم كما هو، لا كما يُراد لها أن تراه.