«فى لحظة إنسانية خالصة، وبصوتٍ مرتجف يفيض دفئاً، قرأ نجم هوليوود مقطعاً من قصيدة «فكّر بغيرك» للشاعر الفلسطينى الكبير محمود درويش، لم يكن مجرد أداء شعري، بل كان موقفاً أخلاقياً، وصرخة ضمير» . فى زمنٍ تتساقط فيه القيم كما تتساقط القذائف على رءوس الأبرياء، وتُحاصَر فيه الحقيقة وسط ضجيج التزييف، وغطرسة الآلة العسكرية، يطلّ علينا صوت إنسانى نادر، يصرخ بكلمات شاعرٍ فلسطيني، اختزل كل وجع العالم فى جملة واحدة: «فكّر بغيرك»، هذا الصوت لم يكن لمذيع، أو ناشط حقوقي، أو حتى سياسى غربى تجرأ على قول الحقيقة، بل كان صوت نجم هوليوود الشهير ريتشارد جير. فى لحظة إنسانية خالصة، وبصوتٍ مرتجف يفيض دفئاً، قرأ نجم هوليوود مقطعاً من قصيدة «فكّر بغيرك» للشاعر الفلسطينى الكبير محمود درويش، لم يكن مجرد أداء شعري، بل كان موقفاً أخلاقياً، وصرخة ضمير، تضامنًا معلنًا مع الشعب الفلسطيني، وأنتَ تعدّ فطورك، فكّر بغيرك، لا تنس قوت الحمام»، هكذا قرأها، وهكذا وصل صوته إلى الملايين الذين رأوا أنه ليس نجمًا سينمائيًا فقط، بل إنسان لا يملك سوى صوته، ووصفوه بأنه «بطل حقوقي»، و»فنان ملتزم»، و»ضمير ناطق» من قلب العالم الغربي. القصيدة التى اختارها ليست عابرة، بل واحدة من أكثر قصائد «درويش» اختزالاً لمعاناة الإنسان الفلسطيني، بل ومعاناة الإنسان عمومًا، حين يُقصى عن حقه فى الحياة، البيت، النوم، والكلام، جاء صوته يقول: «لا تنسوا من لا يملكون ماءً ولا طعاماً ولا مأوى، لا تنسوا من سُلبوا حتى حق الحزن وحق البكاء، لا تنسوا الشعب الفلسطيني، صوته جاء بمثابة إدانة أخلاقية لكل من التزم الصمت، أو دعم آلة القتل تحت ذريعة «حق الدفاع عن النفس»!! ففى زمن القتل الكلمة مقاومة.. وفى زمن الصمت الصوت موقف». شمعة فى عتمة الظلام يأتى هذا الموقف من نجمٍ أمريكي، فى وقت تئن فيه السياسة الأمريكية تحت ثقل الانحياز الأعمى لإسرائيل، وتبرير المجازر تحت عناوين خادعة، إنه موقف يبرهن أن الضمير لا جنسية له، وأن الحقّ يعرف طريقه حتى فى بلاد العم سام، وفى رأيى ما فعله «ريتشارد جير» أكبر من مجرد تضامن فني، إنما تمرد ناعم على الجبن السياسي، وتأكيد بأن الفن حين يتطهر من الانتهازية يصبح سلاحاً، وأن الكلمة حين تصدر عن قلب صادق، تكون أبلغ من كل البيانات الرسمية. قدّم درسًا فى الإنسانية، واستخدام الشهرة كمنبر وليس درعًا، وفى أن تكون «شمعة فى الظلام»، كما اختتم درويش قصيدته. ريتشارد جير التقى درويش «قبل سنوات طويلة، لكن يبدو أن هذا اللقاء لم يكن مجرد مناسبة عابرة، بل كان بذرة إنسانية نمت فى روحه، حتى جاءت اللحظة التى شعر فيها أن القصيدة أصبحت ضرورة، ونداءً لا يمكن تجاهله، فى ظلّ المجازر اليومية التى يشهدها قطاع غزة، لذا أقول إن هذا الموقف يجب ألا يُقرأ كمبادرة فردية، بل كإشارة إلى أن هناك أملاً فى أن ينهض الفن من سُباته، ويستعيد رسالته الأصلية، وهى الدفاع عن الإنسان، ولعلّ فى صوت ريتشارد جير، وهو يتلو قصيدة درويش، ما يحرّك أرواحًا أخرى لتتحدث، وتقاوم، وتفكّر فى غيرها. حين يصبح الأدب جسراً للعالم على ضفاف مساء ممتع، يتصافح فيه الفكر بالأدب، وتتلاقى العقول حول مائدة الحرف، كنتُ شاهدة على ندوةٍ لكتابٍ يضعنا وجهًا لوجه أمام أسئلتنا المعلّقة، كتاب لا يُقرأ بعين القارئ فقط، بل يُصغى إليه بقلبٍ يبحث عن ذاته فى الآخر، نصٌّ يرسم خارطة إنسانية للوعى بالذات والعالم، وبالهوية حين تواجه المرآة، لا لتتجمّل، بل لتتأمل ملامحها المبعثرة. فى حضرة كوكبة من الأساتذة والنقاد الأجلاء الذين لا يكتفون بقراءة النصوص، بل ينفذون إلى أعماقها، التقت الرؤى على منصة واحدة لمقاربة كتاب «الأدب المقارن» للناقدة والصديقة د. عزة أحمد هيكل، فلم تكن المناقشة مجرد وقوف عند مضامين الكتاب، بل كانت - فى تقديرى - احتفاءً بتجربة فكرية تزخر بالأمثلة الثرية، والتحليلات العميقة، والتأويلات الدقيقة لنصوص تتوزع بين الرواية والفلسفة والتاريخ. من تلك اللحظة بدأتُ أقرأ الكتاب، وأتلمّس آفاقه لا كمتلقٍّ عابر، بل كمن يخوض رحلة فكرية وجمالية تزدهر فيها التأويلات، وتتلاقى النصوص، وتتقاطع الأزمنة، سيمفونية فكرية تضيء الظلال، وتعيد ترتيب العلاقة بين الذات والآخر، نصٌّ لا يُلخّص، بل يُكتشف، ولا يُختزل، بل يُعاش، فالكاتبة لا تكتفى بالتحليل، بل «تعزف» على وتر الكلمات، وتتنقّل من نص إلى آخر كما ينتقل الضوء فى زوايا المرايا. حينما تتحوّل الرواية إلى سؤال لا تسلك الكاتبة هنا الدروب المألوفة، بل تحفر أنفاقًا سرّية داخل النصوص، تربط بها نجيب محفوظ بجوزيف كونراد، وتعيد تأويل «أولاد حارتنا» لا كمرافعة فقهية، بل كصرخة فنية تسأل: من يحكم الحارة؟ ومن يمتلك سردية الخلاص؟ تُقدم الكاتبة قراءتها للرواية من منظور فنى تأويلى يتجاوز ثنائية الأنبياء والرموز، فالرواية، فى نظرها، ليست «تجسيدًا» بل «تساؤلًا وجوديًا» عن المعرفة والسلطة والمقاومة فى وجه الجبّار. وتقارن هذا التأويل برؤية «كامو» للعبثية و»سارتر» للحرية، وتطرح تساؤلًا: هل «جبلاوي» هو «الإله» الغائب، أم هو»الضمير» الذى انقرض؟، هنا تتحوّل المقارنة من تفكيك للنص إلى تفكيك للوعي، وتُظهر كيف أن الأدب العربى يمكن قراءته بعدسة فلسفية عالمية دون أن يفقد خصوصيته. الحلم حين يتحوّل إلى سراب فى قراءة جغرافيا الحلم والخذلان، وعبر مقارنة شعرية بين «النداهة» ليوسف إدريس بوصفها حكاية أسطورية عن اغتراب الريف المصرى بين الحداثة والتقاليد، و»جاتسبى العظيم» لفيتزجيرالد كرمز للاغتراب الأمريكى فى حضارة الثراء الفارغ، كلا البطلين ينجرف وراء صورة خيالية، الأولى خلف نداءٍ أنثوى غامض يسكن الريف، والثانى خلف سيدة بورجوازية تمثل «الحلم الأمريكي»، فى كلا النصين، ينهار الحلم أمام الواقع، وتنهزم البراءة أمام غواية المدينة، الزمان والمكان عنصران أساسيان فى تشكيل الشخصيات ومصائرها، الزمن يخدع، والمكان يُخفى شرّه خلف الضوء، إنها مقارنة لا تعبر فقط عن أسلوبين، بل عن رؤيتين للعالم. «أنشودة سليمان» و»قنديل أم هاشم» كيف يتحوّل الفولكلور إلى طاقة سردية داخل الرواية، وكيف يُثبت الموروث الشعبى أنه ليس مجرد زينة تراثية، بل بنية عقلية وروحية توجه المعنى، يتجلّى ذلك فى رواية «أنشودة سليمان» لتونى موريسون، و»قنديل أم هاشم» ليحيى حقي، و»الطريق» لنجيب محفوظ. في»أنشودة سليمان»، تستلهم «موريسون» مأثورها الشعبى من التراث الإفريقى، أسطورة «الإفريقى الطائر» أو «الملك سليمان»، بينما يجسد «قنديل أم هاشم» صراع الطب الحديث مع الوجدان الشعبي، وفى «الطريق» يخوض البطل رحلة روحية للبحث عن أب يمثّل المعنى واليقين، رحلة تشبه مسعى أسطورة إيزيس وأوزوريس. «قلب الظلام» و«موسم الهجرة» تبلغ المقارنة أقصى توترها بين «قلب الظلام» جوزيف كونراد، و«موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، الأولى تكشف عن وجه المستعمر الأبيض الذى يستبيح ويستعبد الناس، والثانية تُظهر إفريقيًا يعود ليغزو الغرب، حاملًا ثقافته وأشباحه، ويعيد رسم العلاقة المعقدة بين الشرق والغرب، بين الضحية والجلاد، من منظور عربى ناقد، وفى محاولة حقيقية لسبر أغوار «الذات» و»الآخر»، تتوغل المؤلفة فى البنية النفسية للراوى فى كلا العملين، المقارنة هنا لا تقف عند مجرد مفارقة استعمارية، بل ترصد كيف يصير الآخر مرآة للذات فى لحظة تماس ثقافي، إذ يمر كل من الكاتبين، وبطليهما برحلة أخرى غير مرئية لاكتشاف الذات، كلا النصين رحلة مزدوجة، جسدية ونفسية، وتسير الرحلتان على التوازي، لاكتشاف الذات واللاوعي. «الحسين» و«توماس بيكيت» فى فصل بديع، تقرأ الكاتبة سيرة استشهاد «الحسين» رضى الله عنه، كرمزٍ ثورى ديني، وتقارنها بملحمة «جريمة قتل فى الكاتدرائية» للإنجليزى ت. س. إليوت، حيث يُقتل «توماس بيكيت» دفاعًا عن كرامة الكهنوت أمام سطوة الملك. المقارنة هنا لا تقوم على تشابه ديني، بل على التقاء فى القيم الكبرى، كلا الرجلين يموتان من أجل قضية أخلاقية، كلاهما يخوض صراعًا وجوديًا بين السلطة والضمير، وكلاهما يُستدعى من التاريخ ليخوض معركة الحاضر. فى هذا التوازى لا تحاول اختزال الفروق العقائدية، بل تسعى إلى كشف نقطة الالتقاء الإنسانية، حيث يصبح الاستشهاد رمزًا للمقاومة والكرامة الأخلاقية، الرؤية هنا ليست دينية أو مذهبية، بل تتقاطع التضحيات فى مختلف الثقافات، عند نقطة النبل الإنسانى فى جوهرها، وتُظهر أن المواقف العظيمة فى التاريخ، كثيرًا ما تتشابه رغم تباعد الجغرافيا. خرجت من تلك الأمسية، وأنا أكثر اقتناعًا بأن «الأدب المقارن» ليس مجرد تقاطع نصوص، بل تقاطع أرواح، وتجربة إنسانية عبر الزمان والمكان لفهم الذات والعالم من أكثر من موقع.