حال السوشيال ميديا، و"إكس" خصوصًا، كأنه إعلان حرب وشيك بين مصر والسعودية. هجوم وسباب وانتقاص مفتوح من الآخر، وتعظيم مرضي في النفس. بكل الأحوال، تبدو أزمة فيديو الحرم المكي وتعامل الشرطي مع الرجل والمرأة مجرد كاشف عرضي لأزمة أكبر، وإلا فكيف تحول الموقف من واقعة بين ثلاثة أشخاص إلى معركة وطنية مفتوحة؟ لا أحد رأى الفيديو وأزمته بعين المنصف، لذا ربما من المهم إعادة قراءة ما يتبدى من حقائق في المشهد: 1- في بداية الفيديو، جذب الشرطي السعودي معتمرة آسيوية من يدها، ودفعها بقوة قائلًا: "امشي يا حاجة، يلا، اتحركي". 2- يبدو أن الفيديو تعرض لقطع بسيط، وانتقل لمشهد ثانٍ مرتبط بالأول. معتمر يبدو من لهجته أنه مصري، يدفعه الشرطي، ليقول المعتمر: "إيدك ما تتمد... دع الحرمة، يلا.. إيدك ما تتمد، بالذوق والأدب". يرد الشرطي: "امشي، يلا"، ويدفعه، ليخاطب الرجل زوجته: "صوري فيديو، صوري الشرطي وهو بيعمل كده". يأمره الشرطي: "اقف هنا"، ليرد: "ما قربتك، أنا معك". يستمر نفس النمط، وينتهي الفيديو دون توضيح ماذا حدث. 3- في الفيديو، لا يبدو أن المعتمر المصري في مكان لا يجب الوقوف فيه بأي حال؛ في محيطه معتمرون يقفون في نفس المنطقة، ولا يبدو أن الهدف كان تحريكه من مكانه. 4- زوجة المعتمر المصري كانت ترتدي جلبابًا أسود، لذا ليست هي بأي حال المعتمرة التي ظهرت في بداية الفيديو. انتهى الفيديو لتبدأ معارك كبرى: سعوديون يدافعون عن تصرف رجل الأمن ويسوقونه باعتباره منطقيًا وطبيعيًا — وهو ليس الحال في الحرمين بأي حال — ويحولون القضية إلى قضية قومية للدفاع عن الأمن السعودي والكرامة السعودية، ويهاجمون المصريين باعتبارهم "غوغاء وفوضويين". يتمادى البعض ويطالب بترحيل المصريين ومنعهم من بيت الله، ويصعد آخرون متهمين جهة مصرية بالوقوف وراء الأزمة! على الطرف الآخر، مصريون يرفعونها قضية كرامة وطنية، ويعتبرون ما حدث استهدافًا ممنهجًا لهم كجنسية! يمد البعض الخط ويطرح طروحات غير مقبولة بالمرة عن تدويل الحج والعمرة وغيره. تتصاعد الأزمة على مواقع التواصل، وبتحليل بسيط ستتفاجأ أن الحسابات المشعلة للاحتقان من الجانبين أغلبها حسابات لجان فجّة؛ "ترعاوي" سعودي لا يتوقف عن مهاجمة مصر في أي أمر، وينصب نفسه متحدثًا وكاشفًا لبواطن الأمور بطريقة "كشف تغزل شارون في قدم كونداليزا رايس في اجتماع سري مغلق"، وآخر يحمل علم مصر ولا يتوقف عن مهاجمة السعودية والسعوديين، ويدخل شيخ معروف بموالاته للإخوان على الخط، وينفخ في كير الفتنة بفتوى "تحريم الاعتداء على المعتمرين". وبعيدًا عن نافخي كير الفتنة، ماذا يمكن أن نقرأ — بعين تحاول الإنصاف — من الفيديو؟ 1- لا نعرف ماذا حدث بين الشرطي والسيدة التي تبدو آسيوية في بداية الفيديو، لكنه أخطأ في جذبها من يدها ثم دفعها للنهوض. 2- لا يمكن الجزم بسبب المشادة بين الشرطي والمعتمر المصري، إلا أن كلمة المعتمر في بداية المشادة وهو يقول "دع الحرمة" مؤشر محتمل على ارتباط المشادة بالمشهد السابق للمرأة الآسيوية. 3- أخطأ الشرطي في دفع المعتمر بشكل متواصل، وتحول الموقف إلى مشاحنة ثنائية، وكان عليه بكل الأحوال ألا يصل بالأمور إلى هذا الوضع. 4- أخطأ المعتمر بإصراره على الندية مع رجل الأمن، وكان الأولى به التحرك واللجوء إلى إدارة الحرم للتحقيق في الأمر. 5- طلب المعتمر من زوجته التصوير لا يمكن تأويله بأي حال على أنه سوء نية، فهذا تصرف طبيعي في عصر الموبايل، قبل حتى عصر السوشيال ميديا، ومحاولة توثيق لما حدث. 6- أخطأ مصوّر الفيديو بنشره على مواقع التواصل، لما قد يثيره من لغط بين الرأي العام، وكان الأولى به تسليمه لأجهزة التحقيق لإثبات ما حدث وإنصاف من له حق من الطرفين. 7- بداية الفيديو من مشهد ما حدث مع المعتمرة الآسيوية، ترجّح أن يكون للواقعة امتداد مؤثر مسبق، شيء ما حدث استدعى ذلك، وهو ما يعني أن الواقعة لها بدايات وتفاصيل لا يعرفها أحد، لذا لا يحق لأي شخص استباق جهات التحقيق والإدلاء برأيه في الواقعة، ناهيك عن النفخ في كير الفتنة. بكل الأحوال، أمسك الأمن السعودي بشعرة معاوية، وتحرك بفاعلية — في اللحظة — لمنع البلبلة في ضوء معلومات الواقعة القليلة، بإعلانه أن "القوات الخاصة لأمن الحج والعمرة باشرت - في حينه - ضبط شخص ظهر في محتوى مرئي مخالفًا للتعليمات والتنظيمات المتبعة في المسجد الحرام، وجارٍ استكمال الإجراءات النظامية حياله". وهي صيغة تحمل الكثير: فلا إدانة لطرف، ولا تحديد لهوية، في انتظار التحقيق في الواقعة وكشف ملابساتها. لذا، على الجميع أن ينتظر إعلان نتيجة التحقيق، وأن يثق أنه ليس من مصلحة أحد حماية المخطئ. وعلى الجميع أن يستوعب عدة دروس من هذا الموقف، حتى لا يسقط في مستنقع الفتنة والشيفونية، أبرزها: 1- أسوأ ما يمكن أن يفعله أي محب لوطنه، الدفاع بالمطلق عن أخطاء فردية، ومحاولة تجميلها بحجة أن إنكارها في صالح الوطن. 2- سحب واقعة فردية وتضخيمها لتبدو معركة وطنية، سواء كان موضعك فيها الهجوم أو الدفاع، خطأ كبير وتقزيم للوطن. 3- الدفاع عن أخطاء فردية لها امتدادات خارجية، وتصعيد الاستقطاب وشيطنة هذا الشعب أو ذاك، ليس في مصلحة أي وطن، فحينها لا تقف المعركة المتوهمة على الداخل. 4- أيا كان المخطئ في واقعة فيديو الحرم المكي، فهو يمثل نفسه ونفسه فقط، ولا يعيب شعبه أو الجهة التي يمثلها.