مع بزوغ أول خيوط الشمس، وقبل أن تكتمل حركة السوق في القنطرة شرق، تبدأ سيارات نصف النقل في التوافد على أطراف قرية البياضية. يجلس العمال في الخلفية، رجالًا ونساءً وأطفالًا، يحملون أكياسًا بلاستيكية ضخمة، وأصواتهم تختلط بحفيف أوراق القطن. يعرفون أن هذا اليوم لن يكون عاديًا، فهو موسم جني "الذهب الأبيض" الذي ينتظرونه كل عام بلهفة، مقابل 8 جنيهات للكيلو الواحد. في الحقول الممتدة على مد البصر، تبدو لوزات القطن المتفتحة وكأنها حبات ثلج بيضاء تتلألأ تحت الشمس. يبدأ العمال في فرد الأكياس، تتسابق الأيدي الصغيرة والكبيرة في ملئها، بينما تتعالى ضحكات النساء وهن يرددن الأغاني الشعبية القديمة التي رافقت أجيالًا من مزارعي القطن. يقول أحد الفلاحين: "موسم القطن ده موسم فرح، نستناه عشان نفرّح عيالنا، نجهز عروسة، نكمل بيت، نسد ديون، ونشتري ذهب. القطن هو باب الرزق اللي ربنا فاتحه للفلاح." تجلس أم محمد، سيدة خمسينية، على طرف الحقل، ترتدي جلبابًا وتضع قفازات صوفية تحمي يديها من الأشواك، وتقول:"أنا بزرع القطن بقالي 30 سنة، وعارفه قيمته زي ما أعرف عيالي. القطن مش محصول وبس، القطن حياة. منه جوزت بناتي وساعدت في تعليم أولادي. ورغم تعبه ومشقته، مابنقدرش نستغنى عنه، لأنه بيخلّي للبيت قيمة وبيدخل فرحة مش بتتوصف." أما أحمد سلامة، وهو مزارع يشارك مع زوجته وأولاده في الحصاد، فيقول:"القطن بيجمع العيلة كلها. بنزرعه من أول الشتلة لحد ما نقطفه بيدينا. ده موسم رزق، وكل واحد في البيت ليه دور: الستات والرجالة وحتى العيال الصغيرين. اليوم اللي نبيع فيه المحصول ده عيد عندنا، لأننا بنشوف تعب السنة كلها بيرجع لنا في صورة فلوس وخير." القطن لا يُعتبر مجرد محصول زراعي يُزرع ليُحصد، بل هو كنز متكامل تُستغل فيه كل جزئية. فتيلته الناعمة تدخل في صناعة الغزل والنسيج، لتخرج منها الأقمشة المصرية الفاخرة التي عُرفت عالميًا بجودتها ومتانتها، أما بذوره فيُستخرج منها زيت القطن الذي يستخدم في الصناعات الغذائية، ويُستفاد من الكُسبة الناتجة بعد عصر الزيت كعلف غني للحيوانات. وحتى مخلفات القطن الزراعية تُعاد تدويرها لتدخل في صناعات متعددة مثل الورق والمواد العازلة. والأهم أن الأرض بعد زراعة القطن تُصبح أكثر خصوبة، ما يجعل المحصول اللاحق أكثر جودة وإنتاجية، وهو ما يعكس القيمة الزراعية والاقتصادية للقطن ك "محصول مضاعف الخير" ويضيف محمد حسين، مسئول الزراعة بالقرية:"القطن من أهم المحاصيل الاستراتيجية اللي بتميز محافظة الإسماعيلية. السنة دي الجودة عالية جدًا، بفضل التقاوي المعتمدة والإرشاد الزراعي اللي بيوصل للمزارعين. والإنتاجية في الحقول الإرشادية أثبتت نجاح كبير، خصوصًا مع صنف (سوبر جيزة 94) اللي بيدي محصول عالي الجودة وبيعزز مكانة القطن المصري عالميًا." ويقول الدكتور سامي بدر، رئيس الفريق العلمي للحملة القومية للنهوض بمحصول القطن، إن تطبيق أسلوب "الجني المحسن" ساعد على الحفاظ على صفات التيلة وزيادة القدرة التنافسية للقطن المصري في الأسواق الخارجية. بينما أكد الدكتور محمد شطا، وكيل وزارة الزراعة بمحافظة الإسماعيلية، أن الحصاد بعد 150 يومًا فقط من الزراعة يُعد نجاحًا كبيرًا للتجارب الحقلية والإرشادية. وأشار إلى أن الموسم الحالي يبشر بإنتاج وفير، مع خطط مستقبلية لزيادة المساحات المزروعة في القنطرة شرق والقنطرة غرب والقصاصين والتل الكبير. أما اللواء طيار أ.ح أكرم محمد جلال، محافظ الإسماعيلية، فقد شدد على أن دعم المزارعين يظل أولوية، وأن الدولة تعمل على تقديم كل أشكال الدعم الفني واللوجستي لتعزيز مكانة الإسماعيلية كإحدى أهم المحافظات المنتجة للقطن. ومع اقتراب الغروب، تُكدس أجولة القطن على جانبي الحقول، تتناثر بقايا اللوزات في الهواء كأنها زينة بيضاء، وتعلو وجوه المزارعين ابتسامة رضا. ففي موسم القطن، لا يجني الفلاح محصولًا فقط، بل يجني فرحة ممتدة، وذكريات تكتبها الأيادي المتعبة، وحكايات لا تنقطع عن "الذهب الأبيض" الذي يظل رمزًا للعطاء والخصوبة في أرض الإسماعيلية، ودعامة أساسية للاقتصاد المصري بما يقدمه من صادرات هامة ويغذي صناعة الغزل والنسيج داخل مصر وخارجها.