من "الركن البعيد الهادي" بدأت حكايتي معها. كنت طفلة، لا أستوعب خلطة المشاعر في أغنيتها، لكني رقصت على أنغام "لالي لي لالي"، وكان صوتها يحدثني بلغة القلب قبل العقل. 2- كبرت وكبرت معي أنغام. غنّت لي وأنا بتغيّر، وأنا بتألم، وأنا باكتشف إن الحياة مش دايمًا سهلة. عرفت الحب على ملامح أغنية "شنطة سفر"، سافرت معها واكتشفت أن الحنين قد يكون أجمل ما فينا وأقسى ما فينا في ذات اللحظة. 3- أنغام كانت دائمًا معي. غنّت "ودوني عند أمي"، فبكيت... وغنّت "ابني حبيبي"، فاستشعرت معنى الحنان... وغنّت لابنتي "تعالي نستخبى"، فعشت معنى الاحتواء، وللحظة أدركت أني كبرت ثم وُلدت من جديد. عشت مع أنغام حيوات مختلفة: الحب، والوجع، والفقد، والضعف، والخيانة، والصبر، والفراق. حتى لما الفرح غاب، قالت "عن فرح غايب". أتذكرها جيدًا حين جمعت بين النقيضين، وقفت شامخة وهي تبكي وتربّت بيدها على قلبها في أول حفل لها بعد وفاة شقيقتها غنوة. فأي صدق هذا الذي أبكانا. أنغام لم تكن أبدًا مجرد صوت في خلفية المشهد، لكنها كانت شريكة رحلة، شاركتني أنا وجيلي في كل مراحل حياتنا: طفولتنا، شبابنا، خيباتنا، وأحلامنا المؤجلة. 4- بقيت أنا هناك متمسكة، مستمتعة بالركن البعيد الهادي، لكن أنغام الفنانة الذكية لم تنعزل، تحرّكت وأخذتني معها قسرًا وبكامل رغبتي. فتحت قلبها لجيل جديد، جيل مختلف له لغته ومزاجه وصوته الخاص به. فغنّت مع ويجز أغنيته "البخت"، ليشهد المسرح حالة نادرة، لقاء بين صوت عمره ما كبر، وصوت لسه بيكبر. جمهور أنغام صفق، وجمهور ويجز سمعها لأول مرة باندهاش، جميعهم فهموا أن الصوت الحلو لا يكبر، الصوت الحلو بيكبّر اللي حواليه. أنغام اختارت أن تكون جسرًا وليس جدارًا، وبقيت صوتًا يسمع الجمهور والجمهور يسمعه. 5- "من يغني بإحساس، لا يمكن أن يكون شريرًا. من لا يعرف كيف ينشد لا يعرف كيف يحب." هذا استنتاج فلسفي مستوحى من أعمال فريدريك نيتشه، وتحديدًا من كتابه "هكذا تكلم زرادشت"، ويقصد به أن القدرة على الحب الحقيقي تتطلب القدرة على التعبير عن المشاعر والأفكار بطريقة خلاقة وإبداعية، تمامًا كما يفعل المنشد في إنشاده. وأنا أجزم أن من غنّى بقلبه، لا يعرف كيف يؤذي، فالموسيقى لا تسكن قلبًا قاسيًا، والقلوب التي تُغني لا تُؤذي، فالغناء الصادق لا يخرج من قلبٍ قاسٍ. أنغام التي طالما منحتنا صوتًا يحمل من الحنان ما يفوق الكلام، ليست كما يصوّرها البعض بقسوة أو جحود. هي صوتٌ مرهف، عاشت تُعبّر عن مشاعرنا حين خذلتنا الكلمات، وباحت عمّا يؤلمنا دون أن نطلب. أن تحكم على إنسانة بكل هذا الرقي الفني بأنها جاحدة، هو جحود في حد ذاته. فالفنان الذي يجعلنا نبكي، ونتصالح مع ضعفنا، ونحتمي في صوته، لا يمكن أن يكون إلا إنسانًا شديد الرقة... مهما بدا غير ذلك. 6- أن تولد ابنةً لفنان، فذلك في الظاهر نعمة... لكن في حياة أنغام، كانت النوتة الأولى تحمل معها ندبة مبكرة. فوالدها، الموسيقار محمد علي سليمان، هو من قدّمها للجمهور، آمن بموهبتها، وصنع لها أول طريق. لكن حين بدأت تختار خطواتها الفنية بنفسها، اختلفا، وتحوّل الحلم المشترك إلى صمت طويل. لم تكن أنغام جاحدة، بل فقط امرأة اختارت أن تكون حرة، اختارت أن تكون هي جيش أمها الوحيد حين خذلها أبيها. ورغم ذلك، ورغم أشياء أخرى لا مجال لذكرها، حين سُئلت عن والدها مرارًا، كانت تختار كلماتها بدقة، لم تُنكر فضله أبدًا ولم تُنزله من مكانته كفنان كبير أو كأب كان يومًا أول من صدق فيها، وأول من قال إنها "صوت مصر". وما لم يُقل، كان حاضرًا في نبرة صوتها، في نظرات الامتنان المتأخرة، وفي الوجع الذي تُخلّفه الخصومة حين تكون بين أب وابنته. 7- كلما تعلقت بشيء جميل فقدته. الخسارات التي عاشت فيها أنغام، لم تكن على خشبة المسرح، بل في حياتها الخاصة... لكنها اختارت أن تجعل من وجعها لحنًا، لا شكوى، ومن حزنها صوتًا، لا عتابًا. ربما كانت أول أكبر صدمة في حياتها وفاة عمها الفنان عماد عبد الحليم، الذي توفي في أوج شهرته وهو في منتصف العقد الثالث بسبب الإدمان، وظلت تحمل مرارة فقده طوال حياتها، وسارت بها في صمت. حتى فُجعت بوفاة أختها غنوة، التي رغم ما عُرف من خلافات بينهما، لم تُخفِ أنغام مدى ألمها وتأثرها الكبير بفقدها، وكانت تبكيها وتحتضن ابنها "ياسين" كأنه جزء منها. فصار قلبها بيتًا لطفلٍ فقد أمه، دون ضجيج أو ادعاء. هذه أبدًا ليست صفات امرأة قاسية... بل امرأة أرهقتها الحياة كثيرًا، لكنها قررت أن تداوي الآخرين بصوتها. لأول مرة دموع أنغام على الهواء قبل أن تسافر أنغام لألمانيا لإجراء جراحتها الدقيقة، أطلت علينا بصوتها من خلال الإعلامية لميس الحديدي، لكن هذه المرة تبكي ولا تغني. لم تكن أنغام تدافع عن نفسها بقدر ما كانت تحاول أن تتنفس وسط موجة مؤلمة ومتجددة من الظلم. كانت في سرير المرض محجوزة في المستشفى لإجراء الفحوصات الطبية، بينما كانت المكائد تُدبّر لها، والألسنة تنهش في سمعتها وسيرتها، ويكيلون لها الاتهامات ويدفعون باسمها في أمور لا علاقة لها بها. لم تصرخ، لكنها بكت وقالت بنبرة مكسورة: "مش قادرة أتكلم، ومش قادرة أسكت، ومش قادرة أتحمل... ليه كل ده؟" كانت الكلمات أقرب لصرخة مكتومة خرجت من قلب إنسانة اعتادت الصمت حتى في أقسى الأزمات. حينها شعرت بالتقصير، وأننا جميعًا مسؤولون عمّا وصلت إليه، لأننا تركنا الساحة للكلاب تنهش فيها بلا رحمة. لم تكن مسيرتها ناعمة، ولا رحلتها خالية من الخسارات... أنغام سقطت كثيرًا، لكنها كانت تسقط بصمت، وتنهض بصوت. لم تردّ الإساءة بإساءة، ولا اختبأت خلف المظلومية. غنّت للحب رغم الخذلان، وغنّت للفرح وهي تُخفي وجعها، وغنّت للحياة بينما تتلقى خساراتها كأنها دروسًا في الإحساس. لم تكن يومًا نجمة عادية، بل امرأة عاشت بين الضوء والظل، بين المايكروفون والسكوت، بين الصبر والدمع. أظن أن أنغام الآن لا تحتاج لمن يدافع عنها، يكفي أن نسمعها، لأنها كانت، وتبقى حالة لن تتكرر، حالة خاصة جدًا جدًا. اليوم، وهي تمر بظرف صحي صعب، ومرض لعين، نحن معها بكل الحب، نرسل لها رسائل الأمل والدعاء، ونقول لها: أنتِ لستِ مهزومة، فلا تستسلمي، فموهبتك وإرادتك أقوى من أي ألم. أنتِ تعرفين قيمتك في قلوبنا، ونحن بانتظارك لتعودي كما عهدناك، صوتًا يملأ حياتنا حياة. يا أنغام، أنتِ اللي دخلتي قلوبنا من غير ما تدقي، اللي كل كلمة منك كانت بلسم أو دمعة أو حضن. أنتِ "أبو قلب أبيض"، حتى لو كنتِ بتغنيها عن حد تاني. أبو قلب أبيض ببراءته يلعب فقلوبنا براحته، إزاي يتعب؟ دا سلامته نتعب نفسنا على راحته. أبو قلب أبيض يا جماله يعمل في الناس ما بداله، لو يوم قلبه ها يتوجع نتوجع إحنا بداله. إحنا اللي عرفنا براءتك من صوتك، وشفنا تعبك من نظرتك، وسمعنا وجعك من تنهيدتك.