الرئيس السيسي: سيناء بقعة غالية من أرض مصر المقدسة    سعر الدولار يواصل النزول أمام الجنيه اليوم 25-4-2024    أسعار الخضروات اليوم الخميس25-4-2024 في قنا    هل التوقيت الصيفي يجلب فوائد ملموسة لمصر؟    بث مباشر.. كلمة الرئيس السيسي بمناسبة الذكرى ال 42 لتحرير سيناء    الأوقاف الإسلامية: 700 مستوطن اقتحموا المسجد الأقصى منذ ساعات الصباح    ترتيب هدافي دوري روشن السعودي قبل مباريات اليوم الخميس 25- 4- 2024    حالة الطقس اليوم الخميس25-4-2024 في محافظة قنا    نشرة مرور "الفجر ".. سيولة بمحاور القاهرة والجيزة    قيادي في حماس: إذا قامت دولة فلسطين مستقلة سيتم حل كتائب القسام    خبير في الشؤون الأمريكية: واشنطن غاضبة من تأييد طلاب الجامعات للقضية الفلسطينية    لأول مرة .. أمريكا تعلن عن إرسالها صواريخ بعيدة المدى لأوكرانيا    وزير النقل يشهد توقيع عقد تنفيذ البنية الفوقية لمحطة الحاويات «تحيا مصر 1» بميناء دمياط    تفاصيل اجتماع أمين صندوق الزمالك مع جوميز قبل السفر إلى غانا    قطع المياه عن سكان هذه المناطق بالقاهرة لمدة 6 ساعات.. اعرف المواعيد    احتجاجات طلابية في مدارس وجامعات أمريكا تندد بالعدوان الإسرائيلي على غزة    بسبب ماس كهربائي.. نشوب حريق بحوش في سوهاج    انتداب المعمل الجنائي لمعاينة حريق مصنع بالوراق    شاب يُنهي حياته شنقًا على جذع نخلة بسوهاج    معلق بالسقف.. دفن جثة عامل عثر عليه مشنوقا داخل شقته بأوسيم    كيفية الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الافتاء توضحها    6 كلمات توقفك عن المعصية فورا .. علي جمعة يوضحها    حكم الحج بدون تصريح بعد أن تخلف من العمرة.. أمين الفتوى يجيب    وزير الصحة يهنئ الرئيس السيسي بالذكرى ال42 لتحرير سيناء    «الاتحاد الدولي للمستشفيات» يستقبل رئيس هيئة الرعاية الصحية في زيارة لأكبر مستشفيات سويسرا.. صور    علماء بريطانيون: أكثر من نصف سكان العالم قد يكونون عرضة لخطر الإصابة بالأمراض التي ينقلها البعوض    إزالة 7 حالات بناء مخالف على أرض زراعية بمدينة أرمنت في الأقصر    «الجمهورية»: الرئيس السيسي عبر بسيناء عبورا جديدا    عائشة بن أحمد تتالق في أحدث ظهور عبر إنستجرام    إعلام فلسطيني: شهيد في غارة لجيش الاحتلال غرب رفح الفلسطينية    «الأهرام»: سيناء تستعد لتصبح واحدة من أكبر قلاع التنمية في مصر    هل ترك جنش مودرن فيوتشر غضبًا من قرار استبعاده؟.. هيثم عرابي يوضح    الشرطة الأمريكية تعتقل عددًا من الطلاب المؤيدين لفلسطين بجامعة كاليفورنيا.. فيديو    أحمد جمال سعيد حديث السوشيال ميديا بعد انفصاله عن سارة قمر    الأكثر مشاهدة على WATCH IT    مستشار سابق بالخارجية الأمريكية: لا يوجد ضوء أخضر أمريكي بشأن اجتياح رفح    بسبب روسيا والصين.. الأمم المتحدة تفشل في منع سباق التسلح النووي    ميدو يطالب بالتصدي لتزوير أعمار لاعبي قطاع الناشئين    بالصور.. نجوم الفن يشاركون في تكريم «القومي للمسرح» للراحل أشرف عبد الغفور    الفندق عاوز يقولكم حاجة.. أبرز لقطات الحلقة الثانية من مسلسل البيت بيتي الجزء الثاني    الاحتفال بأعياد تحرير سيناء.. نهضة في قطاع التعليم بجنوب سيناء    لتفانيه في العمل.. تكريم مأمور مركز سمالوط بالمنيا    أول تعليق من رئيس نادي المنصورة بعد الصعود لدوري المحترفين    فرج عامر يكشف كواليس «قرصة ودن» لاعبي سموحة قبل مباراة البلدية    هل يجوز قضاء صلاة الفجر مع الظهر؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    رئيس «الطب النفسي» بجامعة الإسكندرية: المريض يضع شروطا قبل بدء العلاج    بعد نوى البلح.. توجهات أمريكية لإنتاج القهوة من بذور الجوافة    عماد النحاس يكشف توقعه لمباراة الأهلي ومازيمبي    دعاء في جوف الليل: اللهم أخرجنا من الظلمات إلى النور واهدنا سواء السبيل    تيك توك تتعهد بالطعن في قانون أمريكي يُهدد بحظرها    مش بيصرف عليه ورفض يعالجه.. محامي طليقة مطرب مهرجانات شهير يكشف مفاجأة    اسكواش - ثلاثي مصري جديد إلى نصف نهائي الجونة الدولية    توجيهات الرئيس.. محافظ شمال سيناء: أولوية الإقامة في رفح الجديدة لأهالي المدينة    تجربة بكين .. تعبئة السوق بالسيارات الكهربائية الرخيصة وإنهاء الاستيراد    فريد زهران: نسعى لوضع الكتاب المصري في مكانة أفضل بكثير |فيديو    حظك اليوم برج الميزان الخميس 25-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    غادة البدوي: تحرير سيناء يمثل نموذجًا حقيقيًا للشجاعة والتضحية والتفاني في سبيل الوطن    من أرض الفيروز.. رسالة وزير العمل بمناسبة ذكرى تحرير سيناء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جنازة جديدة لعماد حمدي..رواية..وحيد الطويلة
نشر في الأهالي يوم 25 - 09 - 2021


الجزء الخامس
16
"ستُقتَل يا ناجح، ستُقتَل"، يسمعها "ناجح" كأن أحدهم يهمس بها بداخله.
إذا كنت تعتقد أن الموت قادر على إيقاف الحياة فأنت واهم، الموت غدار بلا قلب، يلسع ويختفي، ينشل الحياة، يسرق السر ويهرب مذعوراً، إنه مثل مسجل خطر بلا قلب، لا يكتفي بغنيمة، يضع سكيناً في ظهرها حتى يكتم صراخها.
الذين يمنعون الضحايا من الصراخ هم المجرمون الحقيقيون، والذين يستمتعون بصراخهم هم أحقر المجرمين.
وناجح جالس في قلب السرادق، لم يصرخ مرة واحدة في حياته إلا لحظة ولادته، لم يصرخ إلا تهليلاً أو استغراباً من عَمْلة قام بها واحد من صبيانه، لم تخطر على باله ولا جاءت في خياله، يتمنى الآن لو يستطيع أن يصرخ صرخة كبيرة تصل لآخر حياته.
زاغ من الموت ألف مرة، حياته كلها مشرعة على الموت، يعيش ويمشي فوق أرض رجراجة لا تستقر.
أتى كل من أتى، إلا واحداً ينتظره هو بالتحديد، يلمح خيالات تمرق من باب السرادق، يكاد يشم رائحتها، ينتفض من مقعده بوجه ممصوص أكلته صفرة الغياب، فيرمي الجمع ما بأيديهم ويتطلعون في اتجاه بصره، شباب بملابس السجن يندفعون من الباب، يمشون خلف بعضهم البعض كأنهم جاءوا بمشيتهم من السجن، قطعوا السرادق برؤوس ثابتة، لم يتلفتوا، ولا هزوا رموشهم، يتقدمون في اتجاهه، عندما علموا بوفاة البطل هوجان أخذوا على عاتقهم وهربوا، لا يمكن أن يتركوا معلمهم في يوم كهذا.
حطوا أمامه، حاوطوه، قبلوا رأسه واحتضنوه، لفُّوه وسطهم كأنه ابنهم، تشابكت أيديهم من خلفه ومن أمامه، ثم تفرقوا إلى مقاعدهم، كل واحد إلى غيته، ذهب من ذهب لقسم البيرة، أو إلى ركن أبو صليبه وحضّر كفنك، توجه أكثرهم إلى ركن الحشيش وستأتيه الجوزة بمنافعها أينما حل.
لم يسألهم أحد كيف استطاعوا الهرب، ولا فكر أحد، عملية عادية، طبيعية، ربما كانوا في المحكمة لتجديد حبسهم، قفزوا من سيارة الترحيلات عند أي منعطف، ربما خدروا حارسهم أو قيدوه وأجبروا السائق على توصيلهم للسرادق وهذا هو الأرجح.
المهم أنهم جاءوا، وكما حضروا فرح هوجان لابد أن يحضروا عزاءه تحت أي ظرف وفي أي وقت.
أشار ناجح لخنوفه إشارة فهم منها أن هؤلاء ليسوا في حاجة للمزاج الآن، بل في حاجة للطعام، ومن يريد أن يغيّر ملابسه فلتوفِّر له ملابس أخرى.
ستُقتل يا ناجح.
يتذكر الآن عبارة صديقه الضابط الذي نصحه أن يصفي حساباته ويعتمر، أن يعتزل في الوقت المناسب: اللاعب الذكي يختار وقت الاعتزال، ولا يوجد شيء نهائي سوى الموت.
الموت الذي لم يسرق منه ضناه، بل سرق حلمه.
ينظر لأعلى، يرى هوجان يهبط عليه من سقف السرادق في حضنه.
هوجان الذي بانت عليه أمارات الزعامة باكراً، مع نزق كثير لا يناسب طريقة ناجح في إدارة مملكته، ناجح يضرب كفاً على القفا ويضع قطعة حلوى في اليد، يضرب ويلاقي، وواحد مندفع جريء، لكنه أرعن لا يمسك في يده خيطاً ولا يعرف خط النهاية.
الولد الواعي الذي يقدس أباه شعر أن الحلة لن تحتمل ديكين روميين كبيرين، لذا اختار منطقة أخرى، ذهب إلى قلعة الكبش، افتتح مقهى كما هي عادة الكبار لتصبح مقراً للعمليات، أسماه البيت الأبيض، ورغم أن الاسم جميل وكبير إلا أن ناجح رفض:
" هيقولوا عليك بتبيع بودرة".
اقترح أن يكون اسمها على اسم مقهاه، وأضاف من عنده: مقهى السعادة- فرع قلعة الكبش، وربما تصبح سلسلة من بعد، مقهى في كل منطقة بالاسم نفسه.
في فترة قصيرة استطاع تكوين فريق جديد من أشبال المسجلين، تاركاً اللاعبين الكبار لأبيه، وجوه جديدة ودم جديد مع كوتش جديد ممتاز.
ولأنه كان معجباً بمباريات الكرة الحريمي رغم استغرابه لها، قام بتنظيف ذهنه وكون فريقاً آخر من النساء، فريق متخصص في القبض على خصي الرجال، أو الذبح برقبة زجاجة مشطوفه، وتشليح النساء.
وكأنه كان يقرأ المستقبل، يعرف ما تحتاجه المراحل القادمة، مرحلة الانتخابات وألاعيبها.
أغمض هوجان عيناً عن اللصوص وأبقى الأخرى مفتوحة، المرحلة القادمة تحتاج لهذا الفريق القادر على تجريس أي مرشح أو مرشحة وسحقه بكل الوسائل ولو وصل الأمر لتقطيع ملابسه الداخلية.
فريق نسائي مسجل خطر على أحدث طراز، وفريق الرجال لا يتدخل إلا وقت الحاجة.
وغد جديد ينزل إلى الساحة، أخذها ميراثاً وإن اخترع أدوات جديدة، يمكن أن تقول إن المرحلة كلها جديدة وهي من فرضت أدواتها.
جاء وقت الانتخابات، المرشح وزير في الحكومة وإن فاز سيتولى رئاسة البرلمان.
أقام سرادقات مرشحه وحماها برجاله، قبض الفلوس من يده ومن يد مشجعيه، حدد السعر ولم يقبل النقاش كأبيه، وزع ما وزع وأبقى العمولة الكبيرة لنفسه.
أقام سرادقات وهدَّ أخرى، أطفأ نور سرادق المنافس، وقام رجاله بضرب وتهديد من حضروا، لم يعودوا مرة ثانية، طبع الأعلام، اشترى الدفوف، قبض من الكل بنفسه ووزع على الكل عبر وسيط، الزعيم يجب أن يسلم على الجماهير من بعيد، يلوح فقط، بالكاد تلمس أيديهم يده، حول المقهى لغرفة عمليات، وزع الحشيش دون أن يغرم مليماً، ناس تجامل بالنقود وناس تجامل بالحشيش، لم يسمح للبودرة أن تدخل في حملته ولا حملة تمويل مرشحه: حملة نظيفة لمرشح نظيف، ومدير حملة في ثوب جديد، نقل رغبات الناس ووعد بتنفيذها.
حين رأى المرشح طوله وعرضه عرف أنه سيكسب الانتخابات، وحين سمع طبقة صوته ورأى الحشد الذي جمعه لأجله والحراسة المشددة التي فرضها على المكان عرف أن طريقه مفتوح وآمن.
الفريق النسائي الذي كونه رقص في كل الاحتفالات وأمام كل السرادقات، وزع الشربات وأخاف بعين قارحة كل واحد أو واحدة تفكر أن تصوت للمرشح الآخر.
الرقص في اتجاه واحد بنغمة واحدة على إيقاع واحد ولمرشح واحد أحد.
الوضع الجديد يحتاج شكلاً جديداً، خلع جلبابه أثناء الحملة ولبس بذلة دون ربطة عنق، بقمصان أنيقة وأكتاف عريضة.
تحوَّل إلى نسخة معدلة من شخصية أبيه، غصباً عنه، هدأت رعونته واختفت عضلاته تحت زي جديد، راح يمارس دور أبيه، اللعب على الناشف، لا يدخل يده في أية عملية، يدير من بعيد ويقبض حقه ناشفاً وطرياً، الخيوط لم تعد تمتد بين يده والمباحث مثل أبيه، بل بين يده والبرلمان، وبينهما المباحث.
حلمت فنصبت فكبرت فعدلت يا ناجح.
تحقق لناجح ما كان يحلم به لنفسه ولابنه.
إذا كان ناجح رئيساً لجمهورية المسجلين خطراً، فهوجان هو المسجل الخطر على الطراز الحديث.
لا يتحدث مع الصغار مثلما تفعل يا "ناجح"، هو يجلس مع الكبار.
أنت آخرك رئيس المباحث وهو آخره رئيس البرلمان نفسه.
لم يشأ أن يجلس في ملعبه مثل أبيه، كون فرقاً من العاطلين، وضع عيناً في كل وزارة أو اشتراها، يشارك في احتفالات الوزراء، يعرف المواعيد وتحركات الوزير، يصنع اللافتات عنده، يرسل سرية من جيشه إلى موقع الحفل للتشجيع والتأييد، والشيك في النهاية يخرج من الوزارة باسمه.
المخ الناصح يحفر لنفسه كل يوم طريقاً جديدة، لم يعدم الأمر تشجيع فرق كرة القدم، إلا أنه اصطدم بالألتراس الذين تكونوا في الفترة الأخيرة، لكن هؤلاء يشجعون بقلوبهم وهو يشجع بحنجرته فقط.
في لحظة صفاء فكر أن يسجل براءة اختراع الألتراس باسمه في الشهر العقاري، لكنه تراجع واكتفى بأنه أول من اخترعه ومعروف باسمه، مسجل في قلوب العاشقين والحاقدين.
وقع في أول اختبار لسمعته، كُسرت ساق طفله في المدرسة، ودون أن يتحرى السبب- ربما أثناء مباراة لكرم القدم، أو قفزاً من على السور كما كان يفعل أجداده، وربما انزلق لسبب أو لآخر- دخل إلى المدرسة، طرد المدرسين قبل الناظر، صرف التلاميذ من الفصول الذين حين رأوه راحوا يهتفون: هوجان.. هوجان.
أغلق المدرسة ووضع المفاتيح في المقهى.
كان شرطه الوحيد للمصالحة أن تُكتبَ المدرسة باسمه:
لافتة كبيرة أعلى المدرسة وأخرى عند البوابة بماء الذهب: مدرسة هوجان ناجح.
ربما تصرف برعونة، لكن رأيه أنه لا بد أن تكون قاسياً في البداية، إنها نظرية الشبورة، تصنع شبورة في المكان من أول لحظة، أن تقسو على معاونيك في البداية ثم تعيش بقية حياتك مرتاحاً.
لا مفر من ترضيته واتقاء شره، أقيمت حفلة كبيرة لنجله بمناسبة عودته إلى المدرسة، كما حصل على قطعة أرض كبيرة يبني عليها مدرسة لابنه وقت يشاء.
لم يعد يذهب إلى المباحث، هي من تأتي إليه، ينقل من ينقل ويعيد ترتيب الوظائف كيفما يشاء، وتعدت سمعته حدود الوطن حين توسط لتعيين موظف ملحقاً إعلامياً في إحدى السفارات بالخارج.
سمعته طيبة، وجه شاب يليق بمرحلة تمكين الشباب في الدولة.
علاقته مع ضباط حراسة البرلمان كانت سالكة وغامضة في الوقت نفسه، يلجأ إليهم حين تضيق به السبل عن الحل أو حين يهدد بأنه لن يغرق وحده، لم يبح لأحد بشيء عنها، لكنه كان يردد بدون مناسبة وهو يقرض شفته السفلى: النقود مقابل النفوذ.
يبرم ناجح أصابعه، يفكر كثيراً في أن هذه العلاقات ربما كانت السبب في مقتله، في غموض مقتله، العلاقات المعقدة تنتج جرائم معقدة لا يمكن طعنها بسهولة.
آه يا ولدي.
يقولها "ناجح" للداخل، مَنْ طعنَه فعلها في ظهره وسط جمهرة، وتبخَّر؟
كان الآمر الناهي لمنطقته دون عداوات واضحة، لم يجرؤ أحد أن يقترب من مضاربه ولا لوح.
لا يعرف من قتله، ولا لحساب من! ولو وصل للأخيرة سيحل الموضوع ولو كان نائماً في جوف حوت.
أحياناً تأخذه الجلالة، جلس أمام التليفزيون طوال اليوم ينتظر أن تعلن جماعة ما مسئوليتها عن مقتله.
ربما لهذا السبب ينتظر على نار حضور الضابط صديق عمره، الخبير في حل القضايا حتى ولو كان على المعاش، سيدله ويساعده، وقد يحضر معه عبقرينو ليتفقوا جميعاً على خطة يصلون بها للقاتل.
لا يعرف بالضبط إن كانا سيأتيان أم لا، يضع يده على قلبه ليجس النبوءة، ثم يرفعها سريعاً خشية أن يشعر أحد أنه مهزوز أو مهزوم.
يبدو أن مخاوفنا أقدارنا يا ناجح.
ستُقتل يا ناجح.
يسمعها الآن كأنه يسمعها لأول مرة، لم يأخذها أبداً على محمل الجد، كان يلعب لعبته بجدية، لكنه كان يعرف أنه لن يقتل لأنه يملك القدرة على التراجع في أية لحظة، يبيع في اللحظة الحاسمة.
الذين يبيعون لا يخشون القتل، لا يخشون النهايات المفاجئة، لا يفلتون خيطاً من أيديهم ولو قلت عنهم أنهم أنذال ومنبع النذالة.
النذل لا يتخيل أنه سيقتل أبداً، النذالة منجاة من النهايات التعيسة.
ستُقتل يا ناجح.
تسمع هذه الجملة كأنها تقال لواحد غيرك، قلبك ليس خفيفاً لهذه الدرجة، ولا يكون قاسياً إلا حين يقترب الحبل من رقبتك، عدا ذلك كل شيء يمكن تعويضه.
لكن الحجر الذي يدور لا بد من حكه وإن طال الأجل، قانون غير مكتوب، لكنه محفور في النفوس وفي الأدمغة.
تائه في مقعده، لا يعرف هل هو في أول السرادق أم في وسطه، على وجهه حزن عميم، يفرش على فدان.
لو تعرف من قتله سترتاح، المصيبة تصغر والمشكلة تكبر، مصيبة موته قد تصغر مع الزمن، لكن مشكلة عدم معرفة قاتله ستكبر، ستتحول إلى ثقب يخرمك ويخنق بقية أيامك.
ستُقتل يا ناجح.
سمعها مراراً، لكنها جاءت في ابنه.
يستسلم لفكرة أنه قد يموت مقتولاً، أما ابنه فلا.
من قتل ابنه إنما قتله هو.
إذا كنت تريد أن تعرف علاقة ناجح بابنه فلا بد أن تعرف الحشيش، معنى الحشيش لا شكله، متى يخزن وكيف؟ الأغبياء الذين يخزنونه بغشم كبير يتركونه حتى يجف ويصير طوباً، لا يعرفون أن روحه تضج من المكان الكتيم فتطير، لا يتبقى منه سوى رائحة بسيطة تخدع المشتري، مع أنه لو عاش وخرج للحياة سيطير ويطير، لا يعرفون أنه يفقد زيوته الطيارة، يفقد روحه وصوته بأفعالهم فيصير مثل كتلة حجر جامدة لا تنطق ولا تصيح.
ناجح هو الحشيش، وهوجان هو الزيوت.
ناجح هو المادة الخام، وهوجان هو الروح والرائحة.
هائم في ملكوته، لا يريد لهذه الليلة أن تنتهي، لا يريد لليل أن يغادر رغم أنه ليل وسيمضي، لا يريد أن يواجه نفسه وحيداً في الصباح، لا يخشى أحداً، بل يخشى على نفسه من نفسه، من ضوء النهار.
لم يخش شيئاً يوماً قدْر أن يكون عليه دم، الناس تخشى السلاح، المخدرات، البودرة، الدعارة والقدر، وهو يخشى الدم، يخشى ما لا يستطيع دفع ثمنه، كل الأشياء بثمن إلا الدم بدم.
ستخرج القراميط من مخابئها يا ناجح، تنزلق من بين يديك، لا ترى لها عيوناً، تقفز بالطين، عاشت في قلبه وربما تكونت من دوده وتشربت لونه.
تقول الأسطورة إن الدود يتجمع حول بعضه حتى يتكون القرموط، الدود الكبير يصير ذكراً، والصغير إناثا، وهو الوحيد الذي يعيش خارج الماء لفترة طويلة.
أياً كان، كلها سوداء اللون، لكن قد تفوتك من الكذاب جملة صادقة، هناك دائماً جملة اعتراضية، هناك قرموط زهري يتقافز فوق عائلته، يلعب ولا يجرح، لا يهاجم ولا يختبئ، ينزلق فوق الجميع ومن الجميع.
تصل لسمعه أصوات جلبة، أصوات ولغة أجنبية عبر شقوق السرادق، لا يدري ما بالخارج.
يقول خنوفه الذي رشق وجهه بين الشقوق:
.. وفد أجنبي جاء للتعزية.
العيون في اتجاه بوابة السرادق، أقدام بدأت في التحرك، تَعِسُّ لتُخبِر، ووجه القرموط الزهري يطل أخيراً من البوابة.
17
الموال من أوله حلو، أطلَّ القرموط الزهري بوجهه الوسيم، بشواربه التي تلعب ولا تهدأ، بشعره المترنح فوق عنقه.
نصاب ظريف، لا يضر ولا ينفع، لا يعمل مع أحد، لا يصدق أحداً، ولا يصدقه ناجح، يلعب على طول الخط ألعاباً ظريفة لصالح نفسه فقط، يضرب الضربة ويختفي، وحين تكبر اللعبة عن حدود أصابعه أو حائط دماغه يلجأ لناجح لتصريف الأمر.
لا يبحث عنه إلا حين يريد أن يختفي عن الأعين بعد إحدى مصائبه، يغيب عنده في إحدى شققه أو شقق الحبايب إلى أن يدبر حاله.
لا يتذكر ناجح متى تعرف عليه، ولا يهم، لا يأتي إلا لماماً، ولا يغيب أيضاً إلا لماماً، لا تعرف هل هو هنا أم هناك، شخص سمير، قعدته لطيفة أنيسة، وسيمة بوجهه الوسيم، كان يمكن أن يكون بطلاً في السينما لولا أنفه المعقوف قليلاً، لكن هذا الانحناء المرتفع في منطقة وملفوف في منطقة ربما كان بصمة النصاب في وجهه، كل النصابين العظام لديهم هذا الأنف تقريباً كما يقول.
اسمه أسعد قشطة كما يقول، انظُر لاسمه، سعيد من يومه ولا يقبل بغير ذلك بديلاً، يفعل فعلاً أو يعمل عملاً، يقول له واحد:" قشطة، يرد: قشطة للصبح".
مشكلته الوحيدة غيرته من أخيه، الفنان التشكيلي، يشعر دائماً أن أخاه سرق حظه، وإنه كان يستحق أن يكون مكانه، لذا يؤذيه دون أن يشعر، أو أنه يتعامى ويسدد كل ضرباته له، يرمي عليه سوء حظه، هو من النوع المنتشر الذي يعتقد أنه بلا أخطاء وأن من حوله يستحقون نتائج أفعاله السوداء لأنهم لم يمنحوه حظهم أو مواهبهم، أو أخذوا نصيبه من النجاح بالصدفة.
يلعب دور الضحية بامتياز، بل يعتقد فعلاً أنه ضحية، كبرت معه الحكاية، راح يرددها حتى صدقها هو، كل نصاب فاشل يريد حائطاً يرمي عليه خطاياه، وحائطه الأقرب من بطن أمه.
يشرب كثيراً، يعب لينسى، يشرب أنفاس الحشيش ليتخيل أنه ناجح وسعيد، ليقول كلاماً قد لا يصدقه هو حين يفيق، يشرب في البارات التي يجلس فيها أخوه ويترك له الفواتير يوماً بعد يوم، وأخوه يدفع، يدفع ويدافع عن سمعته.
يجلس مع أخيه المرهف وسط أقرانه، يسمع كلاماً عن الفن، اللون، توال، الأكريليك، ويعيد ترديدها أفضل مما سمعها.
لص ثقافة من طراز فريد، حين يواجهه أحدهم بذلك يقول ما سمعه أيضاً منهم: عبد الحليم حافظ كان لص ثقافة، لم يكن مثقفاً من قريب أو بعيد، لكنه شرب من صلاح جاهين وإحسان عبد القدوس وغيرهما طوال الوقت، تعلم منهم ونجح أكثر منهم وأنتم فقط من تتهمونه بترديد هذه الأقاويل.
يشرد كأنه سيأتي بالحجة التائهة، يقول بنبرة قوية: الفنان ليس من يمارس الفن، بل من يحمل في قلبه روح الفن.
ملك اللحظات الأخيرة وقنص المعنى بجملة واحدة نشلها من أحدهم، هيهات من يستطيع سرقة المعنى وشحنه للآخرين.
ضج أخوه منه طوال عمره، وقف على رأسه حتى يكمل تعليمه، كان دائماً في الناحية الشمال، وحتى عندما اختار لغة ليتعلمها اختار اللغة الهولندية، كي يستطيع أن يهرب كما يقول إلى بلد لا يهرب إليها المصريون بكثافة، لا يريد أن يرى أحداً منهم، يريد دنيا وحده وسماءً أخرى، يمارس فيها فنه ولغته، سماء في رأسه هو فقط، كأنه يريد أن يهرب فقط، يهرب للأمام.
حاول أخوه أن يجد له وظيفة، لكن النصاب الظريف لا يحب الوظائف، يمقتها، سينصب على كل من يعملون معه في أسبوع ثم يصيبه الملل.
بارع في تعلم اللغات، يتصعلك مع البنات الأجنبيات كأمير حقيقي فقد مقعد ولي العهد، ينتظرهن أحياناً في المعارض التشكيلية، تأكله دماغه عند أول طريدة وعند فراغ جيبه، حكاء ولاعب بوكر جيد يعرف من ومتى يقتنص.
كاد أخوه أن يفقد عقله، لم يترك صديقاً له إلا اقترض منه، أو نصب عليه في لعبة، دوخ الجميع وهو يبتسم، كان أكثر ما يوجع أخاه حين يقابله واحد في الشارع، يمسكه وسط الناس، ويطلب منه أن يرد النقود التي اقترضها أخوه.
عاش ظلاً لأخيه وإن تخيل دائماً أنه الأصل، وأن الصدفة والحظ فقط أخطأه وذهب للآخر، الجميل أنه مازال على أمل أنه سيجد الطريق، لا يعرف بحسه المرهف أن النصاب لا يتوب.
ينتظر اليوم الذي يحصل فيه على طربة حشيش أصلي، يعمر بها دماغه على أعلى مستوى، ثم يبدأ في رسم كل اللوحات المخزنة في رأسه دفعة واحدة.
لا تضيق به السبل، وحتى إن ضاقت يخلق حيلته، سكن في شقة مفروشة مع أصدقاء ليس من طينتهم، جعلهم جمهوره، لفهم على إصبعه في ليلة واحدة، وحين قضى على ما معهم ولم يعد في جيبهم ولا جيبه مليماً، نادى على الرجل الذي يشتري الأثاث نصف المتهالك، باع له كل محتويات الشقة، قبض ثمنها، ربما ربع ثمنها، لا يحب الفصال، سيهاجر، هكذا قال للمشتري، قبض ثم أغلق الباب خلفه، حمل حقيبته على كتفه ومشى مشية فنان، ينظر خلفه بأسى إلى الشارع والبناية، كمشروع مهاجر حقيقي في طريقه إلى المطار، يريد أن يملأ عينيه من ذكرياته القديمة.
يغيب طويلاً عن عائلته طيبة السمعة في قلب الصعيد، يعود فقط في المناسبات، الأفراح والعزاء، يحضر في اللحظات الأخيرة كعادته ليخطف الأضواء من الجميع، لا يتذكر أحد مساوئه ولا لمحاته الفنية في النصب، يتذكرون الابن الغائب سيء الحظ الذي لا يتركهم في أفراحهم وأحزانهم، يحضر في اللحظة الحاسمة وسيماً أنيقاً يدخن السيجار.
لاعب الضربة الأخيرة دائماً، واللقطة التي تبقى من بين كل الصور.
كان عليه بعد غيابه الدائم وحضوره الشحيح أن يقدم شيئاً لأهل قريته، شيئاً يعوضهم، يساعد به أهل بلدته الحبيبة كما قال ويرد لهم الجميل، افتتح مكتباً للسفريات، وبدأ العمال والموظفون يتوافدون عليه، صار يغيب داخل المكتب من كثرة الناس والنقود كأنه مسافر فعلاً.
ولأن النصاب قد تنجح معه كذبة بالصدفة، ولأن السماء لا تضن دوماً على النصابين الظرفاء، لعبت معه البلية هذه المرة، واستطاع تسفير بعض العمال عن طريق الضابط المزيف، لم يكسب مالاً من العملية لكنه كسب رغم أنفه سمعة جيدة.
الدودة التي تلعب في ظهره سرعان ما تظهر، ليس له في النجاح ولا العمل الدائم.
اقترب موسم العمرة، جمع جوازات الراغبين، ملأ المكتب بالمصاحف والسبح، وشرائط القرآن للمقرئين السعوديين الذين حلوا في تلك الفترة محل المقرئين المصريين وملأوا الفضاء بأصوات منفرة كئيبة، وضع الجوازات في حقيبته وسافر للقاهرة.
عند أول بار صادفه دخل، ظل يشرب حتى مطلع الفجر، حمل الحقيبة بيده، تطوح خفيفاً حتى كوبري قصر النيل، عند الحافة كان يبكي وهو يفتحها، لا تعرف من السكر أم من الذنب أم من لسعة الكونياك، لا تستطيع أن تحدد بالضبط، يبكي كعشيقة مات عشيقها في حضنها.
فتح الحقيبة على سور الكوبري، أطلق جوازات السفر في الهواء إلى قاع النيل، ودعها بدموعه كما يليق بفنان حقيقي، تسقط في مشهد سينمائي واقعي ربما لم يخطر لحسن الإمام، وجد جوازاً نائماً في القاع باسم عمته، رماه بألم زائد، وفي النهاية لملم الحقيبة الفارغة وما تبقى من دموع وراح يخطر على الكوبري يغني ما خطر على باله مع تباشير الصباح "الدنيا ريشه في هوا، طايره بدون جناحين"، وهو لا يدري أن عمته الآن قد صحت في نفس التوقيت تقول لأبنائها:
ابن أخي الجميل أسعد، سوف يأتي لي بتأشيرة العمرة ويعود.
لم يعد، بالطبع لم يعد إلا حين مات أبوه، كان متردداً لكن في ظرف كهذا لن يجرؤ أحدهم على الاقتراب منه.
كعادته تلقى الخبر وهو في نصف الزجاجة الخامسة، تلقاه بصدر حزين، لم يفلح أن يقدم لوالده شيئاً يفرح به قبل وفاته، لا أسعده بوظيفة ولا بحفيد ولا سمعة طيبة رغم أنه كان المفضل عنده، فأكمل حتى الزجاجة الثامنة.
حين هبط على السرادق دخل دائخاً تائهاً، لم يسلم على أحد، عذره معه، يبكي، يبكي بقوة، لا تعرف هل يبكي من الحزن أيضاً أم من السكر، لقفه أحدهم، احتضنه وأجلسه على مقعد كبير وسط السرادق، والمقرئ يتلو:
فمن زحزح عن النار وأُدخل الجنة فقد فاز.
انتفض أسعد من مقعده وبصوت عالٍ يشبه الصراخ: أنا من زحزحته، أنا من زحزحته.
ثم سقط مكانه.
حملوه إلى أقرب دار، وحين أفاق قبيل الفجر انسل مع أول خيوطه كي لا يراه أحد أو يرى أحداً، انسل لكنه صارفي بؤرة الحدث، غداءهم وعشاءهم، نسوا الميت، نسوا جرائم أسعد وألعابه وتحدثوا فقط عن زحزحته.
يضحكون منه ومعه، ويبكون مثله أيضاً من الضحك.
يعود إلى الشارع، إلى الشقق المفروشة، إلى ناجح أحياناً، لا تعرف بالضبط غرام ناجح به، حين جاء للمقهى في البداية ارتابوا منه، اعتقدوا أنه مدسوس ومن ذا الذي يجرؤ أن يلعب في أرض ناجح، وحين فك الأخير ختمه وعرف سره تركه بل أكرمه، هو في الأخير يحب الأذكياء، هو ابن اللحظة لا شر عنده، يؤلف حكاية وعند منتصفها يكملها له ناجح فصارا حبايب.
نصاب أنيق يمكن أن ينفع في أية داهية أو عملية.
نصاب لا يريد أن يؤذي أحداً، يؤذي نفسه فقط، يؤذي الآخرين ببراءة يحسد عليها: لماذا يذهبون للعمرة، ورب هنا رب هناك، والدعوات تقبل من الشرقية وطنطا كما تقبل من السعودية، وكل هذه المصاريف أنا أولى بها ودعواتي مستجابة.
أحبه ناجح، استملحه، كما أنه لم ينس أنه يلعب في الدنيا بمبدأ: من لا تحتاج وجهه قد تحتاج قفاه.
حين وقع في يد فجنون، التقطه من الحبس وأخرجه، كان ينادي عليه: أنا فنان يا سعادة الباشا.
بالطبع كان قد درس المنطقة في لحظة وعرف أنه فنان أيضاً، أو كما سمع غاوي فن وفنانين، حكى له قصة أخرى، أخرج له بطاقة باسم أسعد عسل لا أسعد قشطة، وراح يحكي عن بيكاسو وكاندينسكي وكليمنت.
عرض عليه أن يبيع له لوحاته أو يقيم له معرضاً وكاد ينجح، لولا أن الضابط قرر من البداية ألا يدخل الفن في عمل البوليس وألا يسمح لأحد أن يستغل شعرة منه مهما كانت النتائج.
كان قد وقع إثر شكوى من سائحة هولندية، أخذ شيكاتها السياحية وجواز سفرها ونسي في غمرة السكر أن يعيد لها الجواز فاشتكته، وضمنه ناجح الذي صادفه هناك.
لا يمكن أن يفوته أن يشارك في عزاء نجل ناجح، الرجل الذي آواه لفترات طويلة، ومنحه دفعات من أفخر أنواع الحشيش في كل وقت، وربما نفحه نقوداً أيضاً دون أن يطلب بلسانه، لكن عينيه كانتا تشتكيان.
أحب ناجح فيه النصاب الظريف الذي يعيش لمزاجه ولا يحقد على أحد عدا أخيه، ويستطيع أن يكذب أجمل من الصدق فتصدقه، أحب منه ما لم يره من النصابين الرمم الذين يعرفهم.
الآن يطل من باب السرادق، بعد أن أوقف السائحين الأجانب في طابور أمام السرادق، كان بهم في جولة ثم عرج على السرادق، يعطي كل واحد منهم تذكرة دخول لحضور العزاء، ولا تسألني من أين أحضر تلك التذاكر، ربما لطشها من محصل أي أتوبيس، تذاكر مترو قديمة أو تذاكر لعبور نهر النيل من ضفة إلى أخرى.
أخذ كل واحد منهم بطاقته، مشوا خلف بعضهم بعضاً كأنهم في طابور، تلقفهم شحته وخنوفه للوصول بهم إلى عرش ناجح، يسلمون عليه ثم يذهب كل واحد إلى غيته، حالة من الارتياح والدهشة تغشى السرادق، صيت ناجح وصل لأبعد الدول والجنسيات الأخرى تعرفه، وحدها كانت أم آدم أو أم حواء متوترة، تشق المقاعد، تتطلع في الوجوه لأول مرة في حياتها، تتفحصها بدقة، تتفحص رائحة وجهها في وجه أي أحد، تبحث عن أثر لملامحها في أي وجه منهم، قفزت حياتها القديمة أمامها مرة واحدة، وصعد لها خاطر غريب، ربما يكون ابن أو ابنة لها بين القادمين.
كانت هناك ثلاثة أشياء تحدث في وقت واحد:
1-"أم حواء" تتفحَّص الأجانب، لكن لا أَثَرَ لها في أي منهم.
2-"ناجح" يُتمتم في سِرِّه:
مش باقي غير شوية ضي في عنيّا..
وانا هديهمولك وأمشي بصبري في الملكوت.
3-"أسعد قشطة" يُوزِّع النَّصْب الظريف في السرادق.
18
حتى لو نسيتَ كل الضُبَّاط لن تنساه.
لا تعرف بالضبط ما الذي يجعل الأرواح تتلاقى.
كنتَ تتساءل وأنت في الطريق إلى "مرسى مطروح" في عِزّ الصيف، وسط أتوبيس منفوخ عن آخره بالضباط وعائلاتهم، "ما الذي يجمعك بهؤلاء!"
والدك الضابط الفخيم قال إنك يجب أن تتواجد في بيئة شرطية.
"حتى في المصيف!"
"وفي الحمَّام إنْ أمكن، الجرابيع في المصايف الأخرى، وحذار أن تتهور ويعرف أحد أنك زِفْت، رسَّام".
كنتَ تنظر إليه فقط، لا تراه، وأذناك في اتجاه آخر، تعرف أنه سوف يُلقي الموعظة إيَّاها عن النَّسَب الشرطي، الدم الأحمر، سلالة بعضها من بعض، وأن ابنة ضابط هي خير مَنْ تفهم ضابطاً.
ناقشْتَه أكثر من مرة: "ابنة الضابط لا بد أنها كفَرتْ من الضباط، شربت من المعين الشرطي مرة واحدة بما يكفي حياة كاملة، وإنهن يتطلَّعْن دائماً للجديد، لِما يخايل أحلامهن بعيداً عما ألِفنه وأصبح عادياً، وربما مزعجاً".
لا تنس زميلك الضابط، دُفعتك، الذي وقعَتْ في غرامه ابنة تاجر كبير في سوق روض الفرج، قال الجميع عنهما جملة واحدة: "كل واحد بحث عما ينقصه"، إلا أباك الذي قال بصوت مخنوق مملوء بالحسرة: "العِرق دسَّاس، الخال والد، أبناؤه سيصبحون تجار فاكهة يوردونها للوزارة، ويا ضيعة الوزارة".
لكنك تتذكَّر هذا الضابط تحديدًا، الذي اصطدَمْتَ به عند الشاطئ، كان يُدندن، سمعتَه ليلة أمس يُغنَّي، فكَّرْتَ أن تذهب لتناديه وتدخل عنده.
"أنت الذي تغني؟"
"وأنت الذي ترسم؟"
أَعزَبَان في مُخَيَّم لمتزوِّجِيِن، وحيدان، فنانان، صِرْتُما جماعة، كلٌ يمارس طقوسه على إيقاع الآخر.
حين رأى رسومك راح يضحك من قلبه: "لماذا رسمتَ كل الوجوه حادة؟ حاذر أن يراك أحدهم".
تضحك، يتوقف عند صورة جماعيَّة بوجوه وبطون ومؤخرات منتفخة، تعلو صيحته: "العسكرية الوارمة.
قلتُ: "كنتُ أحاول اصطياد الروح".
تكتشف أنك لستَ حذِرًا منه، ولا هو، الروح الممتلئة بالفن لا تعرف الحذر من شبيهاتها.
لم تفترقا، تجلسان معاً، تخرجان معاً إلى شوارع المدينة وشواطئها بعيداً عن الجميع، حتى لا تجرح عزوبيتكما الجماعة الصارمة.
يُغنِّي أمامك، يُغنِّي لك، ولنفسه.
يحكي لك عن الغناء طول الوقت، والفرق بين "عبد الوهاب" الموهوب الدؤوب، و"بليغ" الموهوب بالفطرة، بشراسة، كيف يستطيع "عبد الوهاب" أن يسرق روح "بليغ"، ولا يمكنك عندما تستمع للأغنية أنْ تعرف من الذي وقّعَ اللحن.
الفن بالسيرة، تذهبان إلى صخرة "ليلى مراد"، غَنَّتْ فوقها في فيلم شاطئ الغرام، فأخذ اسمه من الفيلم.
يقول لك: "لا تفعل مثلي، لا تترك نفسك للوظيفة".
أخطأ عندما دخل هذه الوظيفة وتاه فيها، ولم يَعُد هناك طريق آخر، أخطأ عندما تخلَّى عن الغناء، لم يحارب من أجله مهما كانت النتائج.
لا تظهر خطوط الحياة في وجهه إلا حين يُغنِّي، يحلم كل ليلة بمسرح يقف عليه، ولو لمرة واحدة وحيدة، يشحن للناس أحلامهم، ولو مات بعدها سيموت سعيداً.
مذبوح، تشعر بألمه، ألم يحرق، يتمنَّى أن يُغنِّي ولو لمرة وحيدة أخيرة.
تتواطآن معاً على الفرح، تُقدِّمان شريطًا لمدير المُخيَّم ليذيعه في ميكروفون المعسكر، تتحايلان على نقص الآلات داخل الشريط: "هذه آخر بروفة لعبد الحليم حافظ، آلات قليلة، لكنه ممتع، شريط نادر".
نجحَتْ اللعبة.
وجهه يضيء، سيفعلها، وأنت تشاركه، يجب أن تُكمل لوحاتك، وتُقيم معرضك وليكن ما يكن.
عيناه تتلألأ فيهما المزيكا، يريد أن يُحقِّق أمنيته ويُغنِّي أمام جمع، لم يَعُد يعنيه أن يكون منتفخًا، ولا أن تكون الكراسي نفسها منتفخة.
يُغنِّي في الحفلة الختامية، التي يحضرها غالبًا المحافظ ومدير الأمن وباقي الوجهاء في المدينة.
تتعاطف معه من كل قلبك، تستحثُّه أن يفعل ذلك ولو لمرة واحدة، ولو لتغريدة أخيرة لبجعة وحيدة.
تراه الآن على المسرح، ببذلة "عبد الحليم"، يُغنِّي أمام جمع كئيب كأنه مأتم، وجمهور يكاد ورم كل واحد منهم أن يتعدَّى كرسيه.
يغني سعيداً: "مَنْ حاول فك ضفائرها"، ويطوِّح برأسه فيطير شعره، أصابع يده في الهواء كأنها أصابع "عبد الحليم".
تتخيَّل من فرط نشوته أنه سيسقط على المسرح كما فَعَلها مُغنُّون قبله تَمَنّوا الموت بين جمهورهم، وأن يكون آخر نفس لهم عبر ميكروفون وسط جمهور على خشبة مسرح، "نصري شمس الدين" فَعَلها وسط جمهوره، و"علي الرياحي" تمنَّاها فوجدها.
لكن هذا ليس جمهوره، ليس جمهورًا بالأساس.
حين ينتهي من الأغنية تسمع تصفيقاً بارداً، مُستهجَناً، لكنه كان في دنيا أخرى، يسمع تصفيقاً قويًا من حوريات البحر اللواتي خرجن حين سمِعْن صوته.
تتذكَّرْ، كنتَ تُصفِّق بقوة، يُشير لك بفرح، تُلوِّح له وتفرد ذراعيك.
يُلوِّح لك ثم يطير عالياً، عالياً.
على الأرض، كانت تنتظره قصة أخرى، كان قد خرج في عيونهم على المعاش قبل أن يخرج في النشرة القادمة.
لم يحدث ذلك معه وحده، حدث معك أيضاً، تم التحقيق معك:
أنت متهم بإقامة علاقة مع مسجل خطر.
كانت أول جملة وجهَّهَا لك مُحَقِّق أعلى منك رتبة.
هذا المُسَجَّل لا ذنب له ولا ذنب لي، كل ما في الأمر أن الأوامر كانت صريحة أن أقابله".
"لماذا؟ وما هي الأوامر التي كانت موجهة لك؟"
"يا باشا، هذا الرجل هو المصنف رقم واحد في عالم المرشدين، وهو مُسَجَّل خطر عتيد، عنده كتالوج كل المجرمين والمنطقة كلها، وهو قبل ذلك مرشد الحكومة، يعرف مواعيد ولادة النساء وأحياناً ميعاد الحمل".
"نعم! حمل وولادة، انتبه لما تقول".
"ما أقصده، أن له سلطة وقيمة بين أبناء المنطقة، صاحب مقام كبير بينهم، ومن الآخر يستطيع أن يجمعهم خلفه بالرضا أو الإجبار".
"زعيم تقصد؟"
"نعم".
"أسألك ثانية، ماذا كانت الأوامر التي لديك؟"
"أن أجلس معه في قهوته وسط ناسه لتزيد مكانته بينهم، أستميله، أضغط عليه من طرف واضح أو خفي لصفّ المرشح الذي اختارته الحكومة وأمن الدولة في انتخابات البرلمان بعد أن أصبح عظمة كبيرة واسمًا كالأسطورة".
(أردْتُ أنْ أقول له إنَّ المسجل في النهاية عميل الحكومة، لكني تراجَعْت).
"لماذا لم تجلس معه في مكتبك؟"
"طلبْتُ ذلك، أنا في الحقيقة لم أطلب، لكن التعليمات كانت واضحة أن أقابله في المقهى كأي زبون عادي، ثم أنني أقابله منذ عشرين عاماً، أحيانًا كل يوم ولساعات".
"أنت ظهرتَ في الصور التي التُقِطَتْ لمسيرات المرشح ومعك المُسَجَّلين، وكأن الوزارة تساند هذا المُرَشَّح وتستخدم هؤلاء".
(هذا اللواء يعرف أكثر مني أن الوزارة تساند هذا المُسَجَّل).
قلتُ: "صورة من بعيد وأنا ألبس ملابس عادية، لن يعرفني سوى عشرة، ثم إن من واجبي تأمين هذه المسيرات".
"هل معك نسخة من الأوامر؟"
كِدْتُ أَهِبُّ في وجهه لولا أنه برتبة لواء، هو يعرف أكثر مني أن التعليمات تصدر شفوية ولا وقت للأوراق عند ضباط المباحث.
"أوامر شفهية".
بلَعَ ريقَه.
"أوامر شفهية! أنت متهم بإقامة علاقة مع مُسَجَّل خطر، بالمخالفة للقواعد الوظيفية واللوائح واحترام المهنة".
قلتُ: "أنا ضابط مباحث يا باشا، إذا لم أقابل المجرمين والمُسَجَّلين والمرشدين لأمارس عملي فماذا أفعل؟ هل أقابل نقيب الأطباء؟"
بعد أسبوع كنتُ خارج البوليس.
19
العزاء للصبح.
يقول خنوفه لواحد بجانبه، عندما رأى الطابور الأجنبي، تسمعه جيداً، كأن كل طاقتك انسحبت من جسدك، استقرت وتركزت في أذنيك.
أم حواء وحدها، لا تسمع شيئاً، طاقتها كلها في عينيها وأنفها، تدور حولهم تتشمم الروائح، هل رأيت مرة روحاً ترتعش أمامك، هي كذلك بالضبط، قد تغيم ملامح البشر مع الزمن وتتبدل، لكن الروائح تعرفها الأمهات، بصمة لا تعرفها التكنولوجيا، تحاول أن ترى شيئاً، أي شيء، تدقق في كل وحمة، أو شامة أو شعر خرُّوبي كشعرها، في كل خيال، تنقل عينيها بينهم وبين خيالاتهم على حائط السرادق، ربما يبوح ظل، ربما يكون لأحد من أبنائها.
لكن هيهات، لا رائحة، لا ترى سوى غيمات تروح وتجيء، تنتفض في قلبها، سوى بحر فارغ، في قاعه ترقد ابنتها التي أنكرتها ورمتها، نادتها النداهة، خبأتها الصخور بين جحورها.
هل تتذكر تلك السيدة التي غرقت ابنتها منذ أسابيع ولم يجدوا جثتها، دخلت في الماء لتسبح، لتزيل بالماء المالح أكوان الألم فوق جسدها، سبحت عميقاً ثم غابت، داخوا عليها ولا أثر يبل ريق أمها، أمها التي جلست أمام المكان التي قفزت منها ابنتها قفزتها الأخيرة.
جلست على حجر لثلاث ليالٍ تناديها: اخرجي، اخرجي يا بنت بطني، أشوفك مرة واحدة ثم عودي، أشم رائحتك فقط، سأودعك كما يليق بوداع أخير، ثم أودعك حيث يجب أن تكوني.
حضن أخير لأمك.
لم تكن تبكيها، كانت تبكي قسوتها، أفعالها معها، تبكي جحودها، أصعب شيء في الوجود جحود أم على ابنها أو بنتها.
ليس ذنبها أنها بنت حرام كما يقولون، كانت بنت الحب والجوع، وبنات الحب لسن بنات زنا، لسن حراماً.
جلست وأطالت، انزرعت على حجر كأنما أنْبتها، وربما لو قامت لالتصق بجسدها.
تنادي، تنادي، لم تعرف للتعب طعماً، ولا أغمضت عينيها لحظة، تغمضها أحياناً فقط لتحلم أنها وجدتها، وحين يظلم المكان كانت تشعل شمعة تلو شمعة لتدل عليها حين تخرج.
في لحظة كانت قد كرهتها لأنها تذكرها بخطاياها، التي لو عدتها على أصابعها لتعدت الأخير قبل أن ينتهي العد، ثم ارتكبت خطايا أفظع حين باعت أولادها، رمت لحمها بعيداً ولم تلملم لحمها القريب.
كانت تريد أن تنسى، كأنها خافت أن تذكرها البنت بكل ما اقترفت، تناستها حتى تمحو من جحور مخها أن لها بنتاً من الأصل.
لا تعرف بالضبط ما الذي صحا فيها! لا شيء يصحو في قلب حجر، لكن أحياناً تكشف الحياة عن أحد وجوهها، تنبت وردة في قلب صخرة، يتسلل الأخضر بين كتلة صماء، كأنه يكفر عن خطيئة قلبها الصلد.
أقسى ما كان يوجعها أنها لا تتذكر رائحتها، رمتها يوم رمتها، رمت ذكراها وعادت كأنها لم تصادفها يوماً.
حين يموت الناس قد تتذكر لهم مآثر عديدة، من يوجعك حقاً هو من تتذكر رائحته، ما يميتك حقاً هو من تخطئك رائحته، لا تستطيع أن تطلق حزنك للخارج فتتخلص منه، بل تأخذ الرائحة لتدفنها داخلك لتحزن وحدك أكثر، تظهر واضحة عميقة في عينيك، يراها من يراها، لكنه لا يستطيع أن يمسكها أو يهشها عنك.
نادت، والناس بين مشفق ومن يقول جُنت المرأة، وفي لحظة ضاقت بها ملابسها قررت أن تضع حداً للحكاية، وقفت على حيلها مرة واحدة، انفلتت من الحجر، صرخت عليها، أشارت للناس أن يضربوا بكفوفهم، لبوا مسحورين، ضربوا بقوة فخرجت، كانت تتقدم في اتجاهها وحدها، خرجت إلى حضنها لمرة وحيدة وأخيرة، أخرجها الغواصون، حضنت جثة متعفنة، وربما لو حضنتها من قبل مثلما ضمتها الآن لعاشت.
أنت مثلها يا ناجح، بحر واسع بغريق واحد، بلا عينين لتراه إن خرج، افعلها فقط، ستنبت لك مائة عين.
يتمتم في سره:
مش باقي غير شوية ضي في عنيا.
وانا هديهم لك وأمشي بصبري في الملكوت.
يزم عينيه ليرى قدر ما يستطيع، يرى ظل عماد على الحائط، يعرفه من أذنيه الكبيرتين اللتين تظهران بقوة حين يحلق شعره، وتلوحان الآن على جدران السرادق مثل سماعتي ميكروفونين أصليين.
لا يحتاج أن يرى وجهه ليتأكد، يدخل إلى قلب السرادق يسبقه صوته العالي:
حي، حي، هوجان جاي. هوجان لم يمت، الموت أخذ خياله ولم يقدر عليه، فضوا هذا الصيوان، لا تطلقوا فألاً سيئاً على سيد الرجال.. حي، حي.
يتقدم في الردهة باتجاه ناجح، يرمي برأسه للخلف، يتأكد من وجود الألتراس الخاص به، خمسة عشر شاباً، بعضهم يرتدي قميص نادي الزمالك وبعضهم قميص الأهلي، والباقون يرتدون قميص المنتخب الوطني لكرة القدم، وفي نهاية القافلة الصغيرة واحد يلوح بعلم مصر مائلاً فوق الرؤوس.
اسمه عماد لون، كان من قبل عماد على كل لون ثم تم اختصاره طبقاً للتعليمات، إن كنت تريد مثالاً على من يسوق الهبل على الشيطنة فضع عماد في أول الصف، خلفه ثلاثة أماكن فارغة، ثم ضع بقية اللائحة.
لا تعرف أية داهية رمت به إلى عالم كرة القدم، إلى عالم المشجعين الذين يتصدرون مدرجات الدرجة الثالثة، يشعلون المباريات بهتافاتهم وألاعيبهم.
حصل على دبلوم زراعة بالعافية، حين سأله المدرس عما يفعله بحبة البطاطا بعد أن يسلقها، رد بأنه يسلقها بقشرها، ثم يقوم بنزع القشرة ولحسها من الداخل.
لماذا؟
.. حتى لا يضيع الفيتامين.
غاب المدرس طويلاً، قال له: مكانك ليس في التعليم، مكانك بين دراويش المشايخ، أنت تفكر ببطنك وستحصد بها.
حين هبط إلى القاهرة من قريته في قلب الدلتا لم يكذب خبراً، كان يمشي على بطنه، يبحث عن الفيتامين، وجده في قلب الموالد، في موائد الرحمن، لكنه لم يقتنع بأن ينتظر وجبة على طاولة رديئة، بعد نصف يوم كان قد دخل المطبخ لا ليعاون في الطبخ فقط، بل ليملأ كرشه الذي يعوي بسبعة أمعاء.
بعد أن اطمأن على بطنه كان لا بد أن يطمئن على جيبه ومستقبله، دخل في صفوف حلقة الذكر، ثم تقدم بشجاعة إلى المكان الأول ليدير الطبقة والجميع خلفه.
الصدف تتبعه، قادته إلى النادي الأهلي، أنفه تسبقه نحو ملعب جديد، صادف الخطيب نجم كرة القدم، وبدون مقدمة بادره بالسؤال:
من الأكثر موهبة، أنت أم طاهر أبوزيد؟
رد النجم بحيرة شديدة: هذا أغرب سؤال سمعته في حياتي.
لم يكن عماد قد رأى مباراة كرة قدم كاملة في حياته قبل تلك الواقعة.
الدراويش الذين عاشرهم لا يعرفون أساساً لماذا تلعب كرة القدم، غير أن ذلك لا يمنعهم من المشاركة في ولائمها.
لم يدخل ملعباً لكرة القدم من قبل ولا يعرف قوانين اللعبة، لكنه شاهد شاباً يقود المدرجات كاملة، يرقص بمؤخرته يطوحها ذات اليمين والشمال والمشجعون يصفقون وينادون خلفه، شاهده بعد ذلك يقبض من اللاعبين ومن إدارة النادي، وقف في طابور المشجعين الكبار الذين ينتظرون ثمن تشجيعهم، أشار له كبير المشجعين الذي يرقص أن يخرج من الصف، لم يكن يعرف أن عماد يعلق على جبهته شعاره الخالد: عض قلبي ولا تعض رغيفي.
واحتدمت الخناقة، رفع عماد كبير المشجعين لأعلى ثم رمى به كامل الصف ووقف وحده في المقدمة يقبض النقود أولاً.
ومن يومها، لم يترك مباراة إلا غشيها، لاعباً إلا وقبض منه، وأتت أسرار الدروشة أكلها، يمسك مسبحة قبل المباريات، يرميها على رقبة اللاعب، ثم يتمتم كأنه يتمتم لينتصر الفريق على الأعداء.
حلت بركته، وامتلأت جيوبه، لم يعد خارج الطابور، صار في أوله، لم يعد في الدرجة الثالثة، انتقل للأولى وأحياناً إن لزم الأمر في المقصورة، صار له مريدون وأعوان، سريع البديهة، يقرأ اتجاه الريح، حين صار المنتخب الوطني محط الأنظار تحول إلى قيادة جمهور المنتخب، قرأ أن مدرب المنتخب متغطرس، أناني لا يرى سوى خصيته، يراها منتفخة في أكبر مرآة، عن كل المدربين في العالم، لا يقبل أن يناقشه أحد في قرار أو خيار، أحضر له أكبر منفاخ ونفخه حتى كاد يفيض على الملعب نفسه وعلى البلد كلها، موقناً أنه المبعوث الإلهي لكرة القدم، يلاعبه: لو كان هناك نبي جديد لكنت أنت نبي هذه الأمة.
طلب منه ألا يهتف باسم أي لاعب: يترك ذلك أثراً سيئاً في نفوس بقية اللاعبين كما تعرف، أعطى له نصف الجملة وعماد أكمل من عنده النصف الآخر، صار الهتاف باسم المدرب فقط، وحين يملون يهتفون باسم الرئيس.
حين ينسى واحد ويهتف باسم لاعب يقطع عمادالهتاف، ويهتف باسم وزير الشباب والرياضة ثم باسم الرئيس.
حين يسافر المنتخب ليلعب في بلاد أخرى، يكون اسم عماد على قمة اللائحة أولاً ثم باقي اللاعبين والمشجعين.
لو أنصف البوليس يوماً لوضعهما على رأس لائحة المسجلين.
أوحد ينتج أوحداً.
استغله عماد، أشعل له غروره المتقد، للأمانة لم ينس أصله ولا أهله في هوجة النعيم التي هبطت عليه، وضع أسماء إخوته وأقاربه في كشوف منح وزارة الشباب والرياضة بدعم المدرب، هاتفهم ليأتوا من قريته البعيدة ليصرفوا المكافآت، يقتطع منهم سبعين في المائة فقط من قيمة منحة مؤازرة المنتخب، ويمط أذنيه الكبيرتين إن فكر واحد منهم أن يناقش أو يعارض.
التقطه أعوان هوجان قبل أن يلتقطه البوليس ليكون لهم عوناً وعيناً، من يريد أن يفعل ذلك ويستمر فليمر عبر كلية هوجان أولاً.
لم يقتسم معه هوجان حصيلة ولم يأخذ منه إتاوة، قرأه منذ البداية، قرآ بعضهما البعض، ساعده على تطوير وتأمين نشاطه شريطة أن يظل تحت عينه وأن يدفع فقط من ريع الأنشطة الجديدة التي سوف يوكلها له.
أجندة مزدحمة وعلاقات تتشعب.
نعم، كان لا بد أن يكون لعماد ثمن جديد وربح آخر، قل أرباحاً، أخذه هوجان من يده للعبة تذاكر المباريات، يقدم له جزءاً من تذاكر المباريات المهمة ، يأخذها من المنبع قبل أن تدخل السوق، بالطبع مقابل عمولة بسيطة وأحياناً بنفس قيمتها، يبيعها عماد في السوق السوداء بأضعاف ثمنها، والحساب يجمع من بعد، خاصة مباريات الأهلي والزمالك، ثم انتقلت اللعبة بعد ذلك لمباريات المنتخب، لكن هوجان لديه مندوبه، يخبئ عن عماد مكان البيض حتى لا يلعب من ورائه أو يفتن على أحد، كل شيء بحساب، الغرام الزائد يشبه الأكل الزائد ينفخ البطن، لا يجب أن يكون هناك فولت زائد في أسلاك المحبة.
يظهر بترتيب مسبق على شاشة التليفزيون، يسمع كلمتين من هنا وهناك، يلقطهم جيداً بأذنيه الكبيرتين، كلمتين فيهما الفيتامين، يطرشهما بحنجرته الواسعة، لا ينس في غمرة ذلك ما قاله له المدرب حرفياً:
هزمنا لأن الحظ عاندنا، لأن السحر الأسود يفعل فعله، لا بد أن نستعين بسحرة في المباريات القادمة، كما يجب ألا نلعب بالكرات المحلية لأنها سيئة، يقول وهو يرقص مجاملة للمدرب:
"هو وبس، هو بس، اللي خلي العالم كش"
يرمي قذائفه في كل اتجاه حسب التعليمات، تخصص في حمل اللاعبين في مباريات اعتزالهم أو عقب الفوز بمباريات مهمة.
كبرت خزانة عماد، الصغيرة لم تعد تتسع، خاصة أنه لا يؤمن بالبنوك، نقوده تحت رأسه وخزانته تحت بلاطة المطبخ.
يعيش وحيداً في شقتين متجاورتين، ينام في شقة النقود، لا علاقة له بالنساء إلا لحظة بيع تذاكر السوق السوداء أو الهتافات في الملاعب.
عشرته مع الدراويش أهاجت بطنه وأرخت ذكره، ينامون بجانب بعضهم البعض في اتجاه واحد، ما إن يبدأ الصاروخ الأول في الاشتعال حتى تشتعل بقية الصواريخ حتى تصل للحائط البعيد، ينام في الطرف البعيد، يحصل على نصيبه من الخوازيق التي أعطاها للجميع.
يقود الهتافات، كل صاروخ نظيف يجعل حنجرته أقوى وأعرض، ثم يتركها لمعاونيه، ولا يظهر إلا لحظة حضور الكاميرا، يبيض ليأخذها وحده.
الغرام بالسلطة ليس عند البوليس أو المسجلين أو اللاعبين فقط، لعنة تسري بشراهة حتى بين المشجعين.
لو أنك داخل السرادق الآن، سترى يد "ناجح" تتسلَّلُ تحت طاقيته: هل يمكن أن يكون عمادهو من قتل نجله أو شارك عن طريق أحد أعوانه؟
لم لا، علاقات هوجان برجال الأعمال في المنطقة وغيرها لم تكن مريحة بالطبع، لم يقبل أن يكون تابعاً لأحد مهما كان نفوذه، ولا بد أن المصالح تعارضت.
ثم إن الأولاد الذين يمشون خلف عماد صاروا يسمون نفسهم ألتراس هوجان، هو الذي فك قيودهم من البوليس بعد أن أبلغ عنهم دون أن يعرفوا.
قرصة أذن من معلم، أطلق عليهم ضابطاً، ثم عاد وتدخل بنفسه للإفراج عنهم.
ربما أحس عماد هذا باللعب وربما لم يفهم، لكنه عرف بعد أن كان الكبير أن له كبيراً آخر يطوقه ويحد من حركته، ربما هو من تخلص منه، لكن هذا الاحتمال ضعيف.
يلعب بالبيضة والحجر ويجلس أمامك كأن الذي مات ابنه هو.
عماد لون هو في النهاية من يدير النشاط اليومي لرابطته حتى ولو كان يتلقى بعض التعليمات من هوجان، كما أن حُمَّىَ السفر لبلاد أخرى مع المنتخب الوطني جعلت رأسه تدور في اتجاه آخر، ولم تعد تنقصه الزعامة حتى ولو كان القرار النهائي في ملعب آخر، كما أنه مشغول بحلمه أن يترشح للبرلمان في بلدهم ويعول على هوجان أن يكلم صاحبه الكبير لتدعيمه.
لا يعنيه النفوذ بقدر ما تعنيه النقود، أما هوجان فيعنيه النفوذ قبل النقود، يجلس عماد على ركبتيه، إذ أنه لا يستطيع أن يرسل اللصوص والمسجلين للهتاف لوزير الشباب والرياضة في ملعب كرة اليد، وإلا سرقوا المشجعين وتجرأ أحدهم ونشل الوزير نفسه.
علاقتهما كانت سمناً على عسل مع حفظ المقامات، وعطرها ونقودها فوق رقاب الجميع وجيوب الجميع.
حين ظهر ألتراس الحقيقي الذي يقوده شباب متعلم شكل خطراً على الجانبين، لم تكن لعماد سيطرة عليهم، لكن وجوده أصبح أكثر ضرورة حتى يخترق هؤلاء، يعرف خططهم، خاف على أكل عيشه وسلمه للمجد، لكن هوجان طمأنه أنهم شباب متحمس يفرغ طاقته في التشجيع، كما أن مطالبهم تتعلق بأشياء أخرى لا علاقة لها بالتذاكر أو بحمل اللاعبين أو قبض مكافآت التشجيع.
المشكلة أن هؤلاء الأولاد الجدد في الكار بدأت السياسة تجرفهم، ولا بد من السيطرة عليهم وهذا مستحيل، لكن وجود عماد وفريقه يستطيع أن يعرف النوايا والاتجاهات، وهو ما يجب أن نحصل عليه ونقدمه للبوليس الذي سيدخل على الخط بكل قوة، وقد يحصل عليه من أحد غيرنا.
كان متحسباً أن يصل البوليس لعماد ويفتح قناة معه تتجاوز قناته، ولو حدث هذا فمن يبيع ألتراس يمكن أن يبيع أباه ويبيع ألف هوجان، لذا أرخى له هوجان بعض الخيوط ليمسك بالبقية.
لكن الخيط الذي قُتل به هوجان غامض غموض ليلة شتاء في قرية نائية معتمة.
يقف على حيله ثم يجلس بسرعة قبل أن ينتفض معاونوه، يقول لنفسه:
لا بد من إعادة تقليب عماد، تقليب روحه لا تقليب نقوده، لا حاجة للعب بنفس الطرق القديمة، لا أريد نقوداً ولا نفوذاً ولا كرة قدم، الكرة التي تشبهها أنت الآن تماماً، تتقاذفها أقدام الذين قتلوا ابنك، يجب السيطرة عليه بالمحبة واللين والذكرى قبل السيطرة عليه بالنار لتعرف من قتل ابنك.
ابنك الذي وسّعَ القماشة حتى كثرت خروقها، أراد أن يمسك كل شيء، لم يترك شيئاً واحداً خارج نفوذه مع أنك قلت له ألف مرة: لا أحد يأخذ كل شيء في الحياة، يجب أن تفوّت للآخرين لقمة وعصا كي تبقى معك مفاتيح كل الخزائن.
تفكر الآن: ألم يستطع أن يقرأ الملعوب قراءة على حق ربنا، الألتراس لم يكن في قاموسنا، ويحتاج لدماغ تسير مع التيار، حاول أن يركبه من أعلى نقطة، لذا سقط إلى الأسفل بسرعة.
لم يكن معلماً بنفس هادئ، كان عَجولاً، قطّع نفسه، طحن روحه ونسي أن المرشد الكبير لا يحتاج كل شيء.
المرشد يعرف أنه لن يأخذ سوى ربع الصورة المعتم في الغالب، حيث الضباط في الضوء، في قلب الصورة، لكنه رأى نفسه كبير المرشدين والمسجلين في العالم ويريد مكاناً واضحاً في الصورة، في قلبها أو بجوار القلب:
يا ولدي هدئ اللعب، التيار عالٍ.
.. لا أستطيع أن أترك خيطاً، لا أقدر أن أكون خارج اللعبة، هذا قدري، قلبي حامي ولا أعرف الانتظار.
كبير المسجلين والمرشدين عليه أن يكون في مقدمه صبيانه، لكن عليه أن يتعلم جيداً كيف يكون خلف آخرين، وأن يلعب دور الدوبلير بمزاجه حتى لا يكون مسماراً برأس، كل المسامير التي ظهرت رؤوسها تم قطعها مهما كانت صغيرة.
كأنه لا يسمع.
نصيحة أخيرة: يجب أن تتعلم الكمون والانتظار والفرجة، عبئ السحابة، اشحنها بما تريد، وتفرج عليها.
.. ستذهب لغيري.
كل سحابة تأتي بمخدراتها يا ولدي، أينما كنت ستأتيك.
الآن يا ناجح، ضاعت الخلطة السحرية التي صنعتها بيديك، طلعت مقاديرها غير مضبوطة، زاد الملح في الأكل فخربت الطبخة كلها، بل احترقت.
لم يتعلم منك، كان أهوجَ كاسمه.
لا شيء يتغير في حياة الناس، يدخل من يدخل ويخرج من يخرج، ما يتغير فقط هو الديكور، لكن دنيتك انهارت كلها فوق رأسك.
الآن يا ناجح، كل الناس تجلس فوق قبور أحبائها مهما كانت معزتهم، وأنت تسير بقبر فوق رأسك.
الآن فقط تعرف بكاء الروح، صامت مذل، تعرف أن نغزة الروح بشعة، أنت لست وحيداً فقط من غيابه، بل من غياب ظله، كل الظلال على الحوائط وابنك بلا ظلال.
وحِّدوه.
يسحب عينيه من متاهتهما، يعود إلى المتاهة التي تدور حوله، صوت أم حواء، كأنك لم تنتبه، أنت الآن تهذي، نسيت تماماً أنها المرأة التي أكلت قلبها قبل أن تأكل أولادها، وحين استفاقت راحت تنادي عليهم أمام بحر لا يرد ودائعه إلا جثثاً.
تقترب منه على مسافة تكاد تلاصقه، تقول له بصوت لا يسمعه أحد:
بعد أن ينتهي العزاء، لا تنم ثانية واحدة، اِذهب إلى البحر، ناد عليه، بنفس النداءات التي كنت تدلله بها في صغره، حتى يسمعك جيداً.
تكاد تغرز شفتيها في أذنه:
غرقى البحر يعودون بداخله أطفالاً، سيخرج لك، اٍعرف منه اسم قاتله، ناد عليه ولا تَعُد بدونه مهما كان.
20
أنت تفكر الآن في ناجح، يستولي على رأسك كلها، يحاصرها، أكل نافوخك، تكاد طاسته تطير.
نمل يلعب في دماغك، فئران تسرح تحت قميصك.
والطريق خانقة فعلاً.
مواكب الزوار بالساعات، تنغلق المدينة على نفسها، لا تعرف إلى أين تمضي، كأننا في بيت جحا، في ساقية العفريت، مدينة مقفلة أخذ مدير المرور مفتاحها معه إلى أن يطمئن أن الضيف غسل أسنانه ودخل مخدعه.
عذاب، عذاب حقيقي، لكن الريح لها قلبان، في قلب المأساة تنبت زهرة، أو تلوح يد، ينفتح باب ويمرق هواء بارد، لمح المقهى الذي جلس به عقب جنازة عماد حمدي وهو في أول سلمة من أيام عمله، مرت به لحظة حنين وارتاحت ملامحه، قرر أخيراً أن يستريح، ليس مهماً أن يصل في وسط العزاء أو في آخره.
عند أول رصيف، فرجة بسيطة تسمح له أن يحشر رأس السيارة فيها، ركنها ولا ونشَ بإمكانه أن يدخل الشارع ليحملها إلا إذا كان ونشاً طائراً.
عندما حط قدماً على الأرض والتعب يكاد يأكله، ربما قبل أن يلمسها، كان عامل المقهى قد طار من مكانه يشير إليه بحدة أن ركن السيارة ممنوع هنا.
بآلية وضع يده اليمنى على كتفه اليسرى، تعلو، تهبط وتشير، علامة أنه ضابط.
ابتلع العامل جرأته، وبلع المنادي الذي طلع من تحت الأرض جملته، لم يستطع أن يقول: هل ستتأخر يا سعادة الباشا؟
رماه باشمئزاز، وأشار بإصبع أن ابتعد، دون أن ينظر إليه.
لا يكره أحداً في الشارع قدر طائفة المنادين، بلطجة على أعلى مستوى، على أصولها، لا تعرف مع من يعملون.
بالطبع هو يعرف، كل خمسة أو ستة يغتصبون شارعاً بالقوة، بوضع اليد، أحياناً لهم معلم كبير يحميهم، يحمي نفسه، عين على الشارع وعين مع البوليس، يقتسم المعلومات والمعلوم معهم، يقبض ويدفع، والأمناء في حالة تناغم معه يعزفون لحناً واحداً مهما أمسكوا من دفاتر أو حرروا مخالفات.
ولو سألت عابراً، أي عابر، سيقول لك بيقين تام: إنهم يفرضون إتاواتهم على الناس، نصفها أو يزيد يسقط في جيبة الحرامية الكبار، والشريف بينهم لن يصدق أحد أنه شريف.
وإن لم يكن لديهم في الشارع معلم أو كبير، فكبيرهم مكانه معروف.
في إحدى المرات، ما إن ركن سيارته في الشارع نفسه حتى طلع له من تحت الأرض واحد يريد المعلوم في التو واللحظة، رفض وبدأت مشاجرة، والمنادي يتكلم كأنها أرض أبيه وشارع أمه، ساعتها أظهر له العين الحمراء، دق على صدره بعنف: أنا كنت رئيس مباحث المنطقة عشر سنوات قبل أن تعرف أنت أين يقع هذا الشارع، كأنه يريد أن يقول له قبل أن تولد يا روح أمك، لكنه تراجع، ساعتها أيضاً لم يتراجع المنادي عن مطلبه وإن تراخت نبرة صوته، دس يده، أخرج بطاقة عليها اسمه وعمله كمنادٍ، مُوَقَّعَة من معاون مباحث المنطقة ومختومة بختم النسر:
وكله من خيرك يا سعادة الباشا.
يختار مقعداً بعيداً في زاوية المقهى، أحلى شيشة وشاي لسعادة الباشا الكبير، نسر الحكومة كلها.
يتحاشى النظرات التي تلاحقه، يقلّب عينيه في المكان، جلس هنا عشرات المرات، عسْكَر هنا مع فريقه أحياناً لمطاردة ألغاز إحدى القضايا، وأحياناً نام ليالي طويلة في عز الشتاء.
ما زالت صورة عماد حمدي على الحائط نفسه في المكان ذاته، على الحائط المقابل واحدة مثلها تماماً وهو يحمل الجوزة ذاتها في فيلم ثرثرة فوق النيل، بائساً يقوم بالتخديم على أصحاب المزاج العالي، هو، هو لم يتغير-وإن صارت الصورة باهتة- وحل محله الآن آلاف يقومون بالتخديم على كل شيء.
يقوم من مقعده، لأول مرة يرى الصورة عن قرب، مكتوب تحتها أنه ودع الدنيا بائساً يائساً بعد أن أسعد الناس، ودعها على شاكلة صورته، وودعته هي بركلة حذاء قديم، معدماً ليس في خزانته جنيه واحد، كما ودعت إدجار الآن بو وكافكا وموزارت، لم يزد عدد الذين مشوا في جنازة كل منهم عن عشرة أشخاص، وأنهى القساوسة المراسم بسرعة لقلة عدد الحاضرين، وإن تكفلت السماء بالتعويض إذ صبت ماء الحزن لأجلهم.
والمنادي بين حين وآخر يطل برأسه من باب المقهى، يفرك يديه، في عينيه نظرة مراوغة كلها لؤم وخبث من القاع حتى الشاشة، خبث الخضوع، يفرك يديه مداهنة، ربما يكون قلقاً أن تقتلعه من مكانه، أو يريد خدمة، خدمة حقيقية أو نطت في دماغه فكرة ليصنع معك حواراً، أي حوار، وهو يحني جذعه، ويداه خلف ظهره.
لعلك وعيت الآن جيداً بعد دهر ونهر، ما الذي يريده الناس بتزلفهم للسلطة، كيف يتسلقونها وينجحون!، كنت دائماً تصد هؤلاء الساقطين عشقاً وهياماً بها، لم يدخلوها صدفة، لم تتعب مراكبهم ولا خشوا الغرق.
سلسال طويل لا ينقطع ولا تبرد ناره، وقُنْبُل على رأس هؤلاء، موديل آخر لكنه ليس داخل الكتالوج.
قنبل، اسم لن تنساه إلا لو قامت الحرب العالمية الثالثة، سائق ميكروباص وحبيب المباحث.
عند أية مأمورية يحط أمناء المباحث على موقف السيارات، في لمح البصر يأخذون أول سيارة عليها الدور، لنصف يوم، ليومين، وأحياناً أسبوع، لا أحد يجرؤ أن يفتح فمه، نداء الوطن، يقوم شيخ الموقف من نفسه باقتطاع أجرتها من السيارات الأخرى التي تعمل ليعطيها للسائق حين عودته.
يأخذ السائق أجرته من أجرة زملائه ويقدم لهم الحكايات، قنبل يقدم لهم الحكايات وبطولاته في الموقعة، ثم يرمي قنبلته في النهاية عن دوره في المأمورية التي كادت تفشل لولاه.
أعجبته الحكاية، ما إن تهل الشرطة حتى يتقدم أول الصف ليخرج مع المأمورية، يهاتفني كل يوم عن معلومة جديدة، عن شحنة مخدرات في مخزن مواجه للمقهى، عن تخزين البضاعة بين جوالات الفحم، عن صبيان المخدرات وعن معلمهم، اللعبة مغوية والنجاح في الحياة على بعد خطوة، راح يقدم المعلومات من تلقاء نفسه، وحصل إثرها على رتبة المرشد المتطوع.
يوماً بعد يوم كبرت معه الحكاية، يشتغل لوحده، يخطط للإيقاع بالمجرمين، يعمل سائقاً يوماً ويعمل معك أياماً، حين تراه تعرف أنه ودع دنيا الميكروباص وتفرغ لقيادة الحملات على دولة المخدرات، والنصر قريب.
أصبح مقرباً من الحكومة، ينشل ما في جيب المتهمين، ليس طمعاً وإنما لأن القوة لها أظافر ومظاهر، ضرب شعره بالأكسجين، لبس سلسلة في يده اليمنى، علق مفاتيح في دلاية بنطلونه بها شوكة صغيرة تصلح لفك القيود، ولولا خشيته لاشترى قمصاناً مثل قمصانك.
حين تراه كأنك لا تعرفه، كأنه غيره، تحولت هيئته وملامحه من سائق لملامح وهيئة أمين شرطة يعمل في المباحث منذ ولدته أمه، ساعتها تيقنت أن السلطة لا تغير نفوس الأشخاص فقط، بل تغير الملامح ذاتها.
عاش في الدور، راح يعمل من تلقاء نفسه، وحتى بعد أن تركت مباحث القسم ومباحث المخدرات يطاردك بالمعلومات كما يطاردك الآن، يعرف القدم الغريبة التي تدب في المكان، لا ينام ولا يتركك تنام.
لم تكن ترده، تعلمت ألا تقتل المصدر حتى لو تركت الملعب، تمرره وتمرر المعلومة إلى ضابط آخر، لا تقطع رجاء المصدر ولا ذاته الجديدة مهما حدث.
هو مثل شحته تماماً، مع اختلاف بسيط في الملامح والأهداف، شحته يرشد ليعيش، لأنه خلق هكذا ويريد أن يظل على هيئته، وقنبل يرشد لأنه يريد أن يكون مرشداً ثم تحوَّل لأمين شرطة خريج نفسه ويريد أن يظل هكذا.
كأن كل واحد منهما مولود من بطن أمه منذوراً أن يكون مرشداً، وإن اختلفت الكليات التي تخرجا منها، لو أجروا فحصاً لهما ولغيرهما لوجدوا أن فصيلة دمهم جميعاً هي فصيلة دم سي، فصيلة جديدة غير موجودة في الإنسان العادي، دم أصفر، يمنح السعادة والحياة للجميع، مريضاً كان أو محتاجاً.
صحيح أن شحته يفكر في الاعتزال، لكن قنبل لا يلامس الأرض، مازال به نفس وشغف ولن يعود قبل أن يقضي وطره ووطر الآخرين، سم البطولة سرى في دمه، ونشوة التحقق، وحلمه أن يصبح أحد الأبطال في صورة لم تلتقط بعد.
طريق المجد مفروش بالأشواك والكوكايين، حاول الإيقاع بالمرأة التي تبيع البودرة في عبوات صغيرة جداً، مدام شمة، اسمها هكذا، مناسب تماماً لعملها، لا تعرف أيهما اكتسب صفته من الآخر، لا يريد الإيقاع بها وحدها، يريد أن يوقع المعلم الكبير الذي تعمل لحسابه.
أعجبته المرأة لكن لا مكان للعواطف، حاول أن يطرد الحكاية من رأسه، البطولة أولى، غدة المجد أقوى لكن غدة الشهوة صارت تفرز بغزارة، المرأة أيضاً أعجبت به، هي التي تعمل بلا قلب، لكنها تجاري الزبائن، قرر أن يشتري منها ويفرك إعجابه تحت قدمه، حين ذهب لتسلم البضاعة أدخلته غرفتها بعد أن سكّرت الأبواب احتياطاً، وهو واقف، شاهدها ترفع جلبابها من الخلف، تسحبه لأعلى، ثم ترفع قميصها الداخلي وهو واقف، يرقبها حتى وصلت للكيلوت، شاهد كيس البودرة على فخذها الأيسر:
" مد ايدك خده، أنت مش أي زبون".
لا قلب للسلطة، أخذها، وشى بمعلمها، وزارها في الحبس.
أن تعثر على واحد مخلص مثله مثل العثور على نملة في بنطلون ملك، أصعب من العثور على الكحل في عيني الملكة، الكل جامح في اتجاه مركب السلطة، الذين يعيشون بالقرب منها
لا يطيقون عنها بُعْداً.
لكن البحر له ضفتان، الطامحون ليسوا خارج السلطة فقط، الصور تعبر أمام عينيك بالمئات، في مقدمتها صورة الشاب اللطيف الوسيم، أبوه ضابط وأخوه ضابط، لم يدخل كلية الشرطة بسبب عيب ما، أوجعته النهاية، لكنه بعد أن تخرج من كلية أخرى قرر أن يدفن حسرته، وألا يجعلها تعيقه عن هدفه القديم، حين تراه دون أن تعرفه ستقول إنه يشبهنا تماماً، أكتاف مستقيمة مرتفعة قليلاً لأعلى، ورقبة منحنية للخلف، كل أصدقائه ضباط، يعسكر في القسم ليل نهار، لكنه لا يعمل وإن شارك في إبداء بعض الملاحظات أو سب بعض المتهمين.
يبدو أن ذلك لم يشف طموحه، هو ليس صديقاً للشرطة مثل المشتاقين، هو ضابط ولو لم يتخرج من الكلية، لا يتنفس غير هواء الشرطة، يعرف كل شيء عن البوليس ولديه حكايات تملأ روايتين، وفكرة التابع أو الصاحب تصلح لواحد غيره، أقل من أن تناسبه، هرش رأسه الممتلئ بالأفكار، قرر أن يصنع قسماً للشرطة وحده، على مقاسه هو، قسم لا يقوم إلا بعمل وحيد، نَصْب الأكمنة في الشوارع، التخصص مفيد أكثر للناس والبوليس معاً، يصطحب معه ثلاثة مغرمين من أصدقائه، يوقفون سيارة بالعرض في الطريق، يصنعون كميناً للسؤال عن الرخص والتفتيش عن الممنوعات، والأمن والمتانة عند البنات، يأخذ البنات في البداية، يضعهم في سيارته ثم ينصرف بعد ذلك للبحث عن الحشيش.
معه مظاريف بيضاء، معه شمع أحمر، ضابط حقيقي ابيضَّ شعره في العشرينيات من عمره أسفاً على مستقبله، لكنه لم يسمح للأبيض أن يعطل مسيرته.
حين مر ميكروباص قنبل حاملاً ضباطه وأمناءه بملابس مدنية بالطبع، عائدين من مأمورية، أوقفهم، وحين شرع في سؤالهم وتفتيشهم، فاجأوه قبل أن يفاجئهم:
من أنت!
ضحكة هازئة علت، وبصوت آمر كطلقة: انزلوا، أنا معاون مباحث مدينة نصر.
ضحك آخر ساخر يمر فوق رأسه ويحاوطه:
" أمال إحنا مين"!
نهاية تكفي لأن تستلقي على قفاك وتغلق الحكاية، لا تكمل شيئاً بعدها، لكن المصيبة أنه بعد أن تدخل والده وشقيقه، كان رافضاً الانصراف من القسم، صامتاً، وحين استوضحه والده الذي شاب شعره مرتين بسببه، قال بثبات:
أريد الحشيش، والفلوس التي ضبطتها في الكمين.
مثله كثيرون، لو تذكرت كل الحكايات ستصل للعزاء قبل أن تكمل نصفها.
يطلب شاياً آخر، وحجر معسل جديداً.
هناك من يرشد لأنه خلق مرشداً، هناك من يفعل ليقترب من السلطة ويحصل على منافع مادية أو صيت في منطقته، وهناك من يحب الضابط حباً عذرياً من طرف واحد، حب السلطة عذرياً هو أخطر شيء، يحبك جداً ويخاف منك جداً.
وهناك من يتلذذ، يجد متعته في أن يكون طرفاً في حكايات يغمض عينيه عليها قبل أن ينام.
خلقالله الناس ذكوراً وإناثاً، لكن الناس حوَّلوها إلى ذكور وإناث ومرشدين للحكومة.
ومرشدات أيضاً.
أسرار صغيرة مع أناس، لكن ناجحَ كان يعرف السر الأكبر، هو كاهن الرسالة، بولس الإرشاد، الديك الفصيح في دنيا المسجلين خطراً.
دخل عليك ذات يوم، دخل بالحنجل والمنجل، وبدأ مرافعة طويلة:
يا باشا، أنت تعرفني عز المعرفة، نحن لسنا بلطجية، البلطجي يؤجر ونحن لا نؤجر، نحن خدام الحكومة، نحبها، وحتى لو كنا نعيش وسط العالم السفلي، فنحن يدك ورجلك، نقيم المداميك، ونحن القوة الضاربة لسعادتك.
يقول بإيمان يشع من عينيه، مؤمن برسالته، ورغم أن فمك اتسع عن آخره إلا أنك مازحته:
أنت رئيس جمهورية يا ناجح، وناجح فيها.
.. يا باشا أنا لو تعلمت، كان ممكن أكون وزير.
لا تعرف بماذا ترد، تعرف أنه ليس فتوة ولا روبن هود، لكنه يضع المنطقة كلها تحت إبطه بدون سلاح أو مظاهر خارجية تدل على عظمة كاذبة ومنظرة فارغة، لم يقع في الهوة التي وقع فيها كثيرون، بنوا قصوراً واشتروا سلاحاً وكلاباً وسلاسل.
يدير جمهوريته دون صوت عالٍ، مستمتع بالخفاء، حمى من أراد من المسجلين والناس، وجعل الحماية سلعة سرية، كذلك فعل ابنه بالضبط، كان الشعور بوجوده أهم من وجوده، كان صدر العالم السفلي عن جدارة:
ماذا تريد يا ناجح، هل تريد أن تخطب ابنة المأمور لابنك.
يحرك يدين عريضتين أمام وجهه كأن المياه ستنبع منها، يسوي شاربه ويمس صدر جلبابه الأنيق، وفي لحظة لم تكن تخطر على بالك، لا في أحلامك، ولا في كوابيسك الكثيرة:
أريد ان تتوسط لنا ليدخل هوجان كلية الشرطة.
ابتلعت ريقك، بلعت ابتسامتك: وماله، ليه لأ، شاب وابن أصول وجريء ويستحق.
قلتها بتعاطف كبير، لا يمكن أن تسخر من حلمه وجهاً لوجه:
لكن ألا تري معي يا ناجح أن المرشد الناجح الذكي أفضل من وظيفة الضابط، ومن غير وجع قلب، وساعات يكون مطلوباً أكثر.
تتذكر ذلك الآن، أنت من يحتاج أن يهرش، تقوم من مقعدك ثانية، تقف أمام صورة عماد حمدي وتقول بصوت تكاد تسمعه:
لابد من جنازة أخرى لعماد حمدي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.