جدار ارتكن عليه، حجارة رصيف كانت متسعا له من صدور كثير، ربما مروا ملقين نظرة عابرة، بتأثر أو تأفف، لكن الرحيل كان النهاية لهم وله، ذهبوا عنه فارين من نسمات باردة تضرب جسد، لا يخفف عنه ما يرتديه من ملابس، فيما ولى هو دون شيء، لفظ أنفاسه الأخيرة مستندا للحائط، واضعا رأسه على الأرض، لم ينطق بكلمة، زفر النفس البارد الذي أوى بحياته في سلام، لم يعرفه طيلة سكنه بالشارع، مات دون حياة كما عاش بغير رداء ثقيل يواري عنه سوءة الشتاء، وقلوب أثلجها الدفء، فتركته للموت على أعتاب مستشفى. رحل "عم محمد" في الشتاء الماضي، عرفه البعض بعد وفاته، تناقلوا اسمه، أعطوه لقب "أيقونة" كأنه شهيد، وهو كذلك؛ شهيد على معيشة بلا مأوى، مطلع على حال يتعرض له العشرات وأكثر في ذلك الوقت من كل عام، وعلى من تعاون وهؤلاء المتنصلون من المسؤولية، الفارق أن الشهداء غالبًا ما يعرف أعدادهم، فيما سكان الشارع القابض الموت أرواحهم جراء البرد، هم شهيد بلا رقم. قرابة 3 مليون شخص لا مأوى لهم وفقا للمركز المصري للحق في السكن لعام 2014، لا ملجأ لهم سوى رصيف، ألواح خشبية بالية أو كرتون تحتضن أجسادهم، كبارا وصغارا، رجالا ونساء تجمعهم الطرقات، كما يجمعهم ظلام الليل بعد عناء نهار بحثا عن لقمة تسد الجوع، يصفهم البعض بالمتسولين والمجانين، بينما لم ينصت لهم إلا القليل، ولم يذكر كلامهم إلا بعد الرحيل، حال "بهنس" الفنان التشكيلي الذي رحل شتاء العام الماضي أيضا بشارع في وسط البلد، أثناء موجة شتاء قارس اجتاحت البلاد كما تلك الأيام. "العم" أو "الست" هي لقب من يسكن الشارع، أما ملامحه معروفة للقاصي والداني؛ وجه نال منه الطريق، فتغير لونه إلى السواد، رداء خفيف يلازمه لا يليق بالطقس البارد، أما الرفاق إن لم يكنوا من بني جلدته، فهم من الحيوانات الضالة، لا توجد حصر دقيق بأعداد من يلقوا حتفهم في الشوارع، أو لساكني الشارع بشكل عام حسب كامل الشريف وكيل وزارة التضامن الاجتماعي، الذي قال إنه جاري التعاون مع المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية من أجل ذلك، ومن ثم إمكانية اتخاذ القرار لإيجاد مأوى لهم، رافضا لفظ "مشرد" على مثل هؤلاء "لأن المشرد هو اللي ملوش وطن وهم عايشين في وطن" حسب قوله. مع دخول فصل الشتاء كل عام تنطلق الدعوات، لتوزيع "البطاطين" على ساكني الأحياء الفقيرة والعشوائيات، أربعة أعوام تواصل شيماء سمير ورفاقها القيام بهذا داخل القاهرة وخارجها "في الفيوم وبني سويف والمنيا"، التفكير فيما يمكن أن يعانيه من لا مقدرة لديه في شراء ملابس ثقيلة دفعها لذلك، فكانت "بطانية الخير"، قررت أن تقوم وأصدقاؤها والمتطوعون بالتوزيع بأنفسهم بعد مساعدة الجمعية المتواجدة في المنطقة التي يذهبوا إليها في إرشادهم لأكثر الحالات حاجة، صورة الصغار في الشتاء القارس لا تفارق عين الفتاة العشرينية رغم محاولات سعيها للمساعدة محدثة نفسها "هيعملوا إيه في التلج ده"، في كل مرة تشعر أن هناك المزيد في حاجة إلى المعاونة في مثل هذه الأوقات. رجل مسن يبيع الليمون أسفل كوبري بمدينة نصر، على ملامحه البساطة وملابسه لا تناسب الشتاء، تتذكره القائمة على حملة "بطانية الخير"، وهو أحد الأشخاص الذين لاقتهم صدفة، بعد أن أخبرتها صديقتها عنه، ليذهبوا مجلبين له "بطانية"، ليضعوها بجواره في صمت لا زال بذاكرتها إلى الآن معللة ذلك "الناس دي بتبقى غلابة وعفيفة فميش كلام تقدر تقوله". تزايد عدد الحملات كل شتاء، يجعل "شيماء" تتمنى أن تتعاون الجمعيات والفرق الشبابية مع بعضها للتنسيق، بقدر أملها أن تشارك الحكومة في ذلك ولو بتخصيص مكان لشراء البطاطين بسعر مدعم حماية من أصحاب المحال "اللي بالنسبة لهم ده موسم"، فقد عانت الحملة حسب قولها الشتاء الماضي حينما قامت مؤسسة مصر الخير" بإطلاق حملتها لتوزيع البطاطين على المحتاجين"وقتها عانينا لغاية ما لقينا بطاطين والسنة دي كانت الوحيدة اللي الجودة مكنتش كويسة". أغلب الحملات تعتمد على التنسيق مع الجمعيات المتواجدة في الأحياء الفقيرة أو العشوائيات، ومن ثم التوزيع، غير أن حملة "محدش هيموت في الشارع التاني" اتخذت الطريقين، البحث والتوزيع على ساكني الشارع، انطلقت الحملة عقب وفاة "عم محمد" الذي انتشرت قصته الشتاء الماضي، وبلغ عدد البطاطين الموزعة 400 حسب أحمد صقر أحد القائمين على الحملة، بمنطقة وسط البلد، الحسين، شبرا الخيمة كان يذهب المتطوعين للبحث عن الأشخاص، يتطلب ذلك التقصي ليلا حيث يتأكد وجودهم، منذ عصر اليوم إلى نهايته يجوبوا الأماكن حتى يجدوا شخص أو أكثر، ثم تنطلق مهمة فريق التوزيع. لا ينسى الشاب العشريني ساكنوا ميدان الحسين حينما ذهبوا منتصف الشتاء الماضي، في مثل تلك الأوقات حيث موجة الصقيع "كمية الناس اللي هجمت علينا كتير" يقولها "صقر" واصفا حاجة وكثرة العدد حد تكثيف جهودهم للتوزيع في تلك المنطقة بشكل أكبر. الشعور بالناس لا يحركه طلب في رأي "صقر" فدافعهم لفعل ذلك هو الحوادث التي توالت لموت أشخاص في الشارع ليس لحادث بل بسبب موجة برد لم تحتملها أجسادهم، لذلك يرى أن الدولة هي التي تطلب من الجمعيات والحملات أن تعاونها وليس العكس قائلا "المفروض الحكومة هي اللي تتحرك تساعد الناس دي".