الحب اختيار.. والموسيقى أيضاً حين يقرر العاشق أن حباً قد تلامس مع شغاف القلب لأنه قد وجد ثمة تفاهم مع من يحب، لا يختلف الأمر كثيراً ساعة يشعر الموسيقار بسهولة التخاطب مع الآت لا تتحدث إلا رنيناً، وواحد ممن أحب الموسيقى فأحبته، راجح داوود، الموسيقار الأنيق، ذو الشعر الأبيض، والأصابع السحرية. حملت القاهرة ميلاد راجح في نوفمبر من العام 1954، وكان صاحب قرار حب الموسيقى من الصغر، فدرس في معهد الكونسرفتوار للموسيقى، وحصل على البكالوريوس عام 1977، قبل أن يصير مدرساً فيه، ويحصل من أكاديمية فيينا للموسيقى على دبلومة الدراسات العليا في الفنون.. قد يؤمن الفنان بأن موهبته كافية، لكن الدراسة وعى "راجح" أنها ترسخ للفن، وتصقل الموهبة، لتصل به إلى ما يقترب من الكمال. يُقال أن أصعب الفنون، الموسيقى، فيها الخلق الفني من العدم، من يشرد مع رنة العود في موسيقى "الكيت كات"، سيشعر بالنقص في الفيلم الشهير لو لم يقرر صاحب نوتة الفيلم ألا يضعها، "ثمة شيء ناقص" جملة لا تسمعها كثيراً في ألحان راجح داوود، الذي يهتم بالكيف، قبل أن يشغل باله بالكم. هل ينطبع الموسيقار بألحانه؟.. ربما يكون راجح مثالاً على ذلك، حيث الابتسامة الحزينة التي تكسو محياه، تراها في "الكيت كات" و"عصافير النيل"، وتلمحها جلية في "أرض الخوف" و"الراعي والنساء". يستطيع "داوود" أن يجعل المتلقي يفهم ما تقوله الموسيقى، دون حاجة لمطرب. لا يتكلم راجح داوود في حفلاته كثيراً، أو بالأحرى لا يتكلم أصلاً، يستقبله الجمهور بالتصفيق، فيكتفي بإيماءة، لا يجيد فن التخاطب مع الجمهور، لا يعقد الكثير من الحوارات، يهب عمره للألحان، ويترك فرقته تقوم باللازم، يشير بعصاه فيبدأ فريق الكمان في تحريك خيوطهم، يطرف بعينه فيستعد صاحب الناي في أن يثير الوجع في قلوب المستمعين، يحرك أصابعه، فتنفخ إيناس عبد الدايم في الفلوت، تاركة للجمهور العنان في أن يسبح بين خليط من الآلات الموسيقية، قد لا يعرفون من أين يخرج ذلك اللحن بالضبط، من القانون أم الفايلون أم الكمان، لكنهم يدركون حقيقة واضحة: أن الصوت لا نشاز فيه. ربما يحتاج المطرب لأداء صوتي معين ليقنع المستمع أن ما يقوله يثير البهجة، أو يمنح الحزن، لكن آلات بلا أبجديات الكلام، تحتاج فقط إلى مايسترو كراجح داوود، يجعل المستمع يغرق في الحزن حين يستمع إلى معزوفة إلى "شهداء 25 يناير"، أو تغمره البهجة حين يستمع إلى "رقصات للفلوت والأوركسترا"، أو يشعر بتساؤلات عديدة حين يستمع إلى "صعود الروح للأوركسترا الوتري". حصل راجح على جائزة الدولة التشجيعية في الفنون من المجلس الأعلى للثقافة، وحديثاً قررت الدولة، أن تضمه إلى قائمة الحاصلين على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، ليصبح من قلائل حصلوا على الوسام وهم في أوج عطائهم، والأهم، وهم على قيد الحياة.