لم تحلم يومًا أن تسكن القصور أو إحدى شقق العمارات الفارهة، بل أربع جدران آمنة تحتضن أسرتها كافية، 17 عامًا مرت على '' أحلام'' منذ أن تركت بيت أسرتها بصعيد مصر سوهاج، قادمةً إلى القاهرة بصحبة زوجها ''هاشم'' ابن نفس المحافظة أيضًا، لتسكن منزل الزوجية الجديد بمنطقة السيدة نفيسة. سكن العروس ''أحلام'' كان غرفة داخل ''حوش'' لا يسكنها أهل زوجها فقط، بل إن شاء القدر يُزال التراب عن ''العين'' كما يُطلق عليها لينضم نزيل جديد إلى ''المدفن''. ''سكان المقابر'' هكذا أصبحت ''أحلام'' كحال زوجها وأهله وغيرهم الكثير من الجيران القاطنين في ''الأحواش''؛ اعتادت الحياة التي لم تكن من قبل هينة لكنها الآن بصحبة شريك الحياة ''مُبيض المحارة''، وانضم إليهم من الأبناء خمسة أكبرهم ''هشام''، وكانوا معًا في انتظار السادس حتى 13 إبريل 2009. حادث سير ''وهو رايح الشغل'' أودى بحياة الزوج، لكنه لم ينضم إلى من واروا التراب كما اعتاد طوال حياته، بل تم دفنه بمنطقة أخرى وبقيت زوجته ''أم هشام''، ووالدته وستة أبناء بعد انضمام ''أحمد'' الوليد الجديد وقتها عقب وفاة الأب في ''الحوش'' بين الجيران من الأحياء والأموات. 3 أشهر بعد وفاة الزوج غيرت مسار حياة ثمان أشخاص؛ حيث قرر أصحاب ''الحوش'' طرد العائلة، بأثاثها البسيط والأطفال الصغار وقتها، بينما كانت ''أم هشام'' ترقد بالمستشفى لإجراء عملية جراحية حسبما قالت ''فضوا الحوش ورمونا والعيال في الشارع وأنا محجوزة في المستشفى''؛ وكانت تلك المرة الأولى والأخيرة التي يتدخل فيها أصحاب ''الحوش''؛ فقبل وفاة الزوج ''مكانوش يتكلموا عشان هو عايش''.
خرجت ''أم هشام'' من المستشفى مكلومة لوفاة زوجها، وتشريد أبنائها وجدتهم المسنة، ليبدأ المشوار مع المطالبة بحق السكن، بعد أن استطاعت بناء غرفة صغيرة من الطوب تؤويهم أمام ''الحوش'' المغلق بعد طردهم منه.
''روحنا تبع البريد، جبنا استمارات مليناها وكتبنا ظروفنا وكنا بندفع رسوم يعني 10 جنيه للدمغات، وقالوا غنهم بيحطوها في شولة ويحرقوها، وروحنا للي كان ماسك حي الخليفة واتكلمنا معاه شخصيًا ومفيش حاجة''؛ محاولات سعت من خلاها ''أم هاشم'' منذ سنوات للحصول على شقة من أجل أبنائها الذين حرصت على إلحاقهم بالمدارس رغم ضيق الحال.
الحزن لا يفارق وجه ''أم هشام'' كما لم يكن يفارقها الأمل كلما جاءها من يتحدث عن مساعدتها خاصة من الإعلام، لكن بعد مرور أربع سنوات والحال كما هو، لم تعد تملك فيها سوى قصاصات من ورق جرائد كتبت عنها بين سكان ''المقابر'' لإثبات أنها طالبت بحقها، وكلمات واعدة، وصد لأي محاولة جديدة للحديث ''اتكلمنا مع ناس كتير وجُم صوروا البيت والعيال ومفيش حاجة''.
اليأس الذي أصاب ''أم هشام'' تحول إلى قبول الواقع بعد أن توجست خيفة من عقبات الانتقال مع الوعود غير الآمنة لحياة أبنائها في ظل مرضها الذي يمنعها من العمل ''في جمعية تبع السيدة عائشة قالوا لي هنجيب لك أوضة بالإيجار طيب أنا لو مشيت من هنا ممكن يتكفل حد شهر لكن صعب يتكفل على طول''.
وزاد على ذلك تساؤلات لم تجد لها إجابة ''وكمان العيال في مدارس قريبة هنا لا بيركبوا مواصلات ولا حاجة هروح اتشحطط بهم في سكن، وكمان لو حصل حاجة مش هقدر ارجع مكاني تاني''.
وجوار الغرفة المبنية بمحاذاة أحد المدافن المغلقة التي كتب عليها ''إن المتقين في جنات ونعيم''، جلست ''أم فتحي'' الجدة المسنة وخلفها بعض الملابس منشورة على حبل منصوب بين شباكي المدفنين اللذين يعيشا بينهما.
وعلى الرغم من وفاة أبناءها الإثنين وزوجها من قبلهم، غير أنها تجد في أحفادها وزوجة ابنها ''أم هشام'' العزاء، فلم يمنعها ذلك من إطلاق الضحكات ولو ساخرة من الأوضاع، لعل الضحك يهون.
''الحيّة بتتقلب على بطنها وتدخل عليا في الأوضة''، قالتها السيدة الثمانينية بلهجة صعيدية، تختلط بضحكاتها؛ فهي أيضًا ملّت من الحديث ''أشكال وألوان تجينا يقولوا لنا نفس الكلام ومعملوش أي حاجة وزي ما إحنا''.
إلى جانب ما سببه ذلك من ''فضيحة''، على حد قولها، بعد عرض لقاءات لها مع قنوات تلفزيونية؛ فشاهدها بعض أهلها في الصعيد '' فضحونا في التلفزيون ولا سألوا فينا''.
منذ أن سكنت ''أم فتحي'' المقابر لا تملك مصدر رزق ثابت سوى معاش ''السادات''؛ فلا يوجد أي جهة حكومية أو خيرية تمد لها يد المساعدة، فقط مائتي جنيه يسد رمقها هي والسبعة أفراد من أسرتها.
''مرسى قال هيزودنا بس مزودش حاجة في المعاش''، وعد ''زيادة المعاش'' أطلقه ''مرسى'' في عهده، لكنه لم يتم، وبقيت ''أم فتحي'' تعانى من ضيق العيش وأسرتها، مع توالي الحكومات والوعود التي تراها '' كلهم زي بعض''. سنوات قضتها ''أم فتحي'' من عمرها في طريق الروتين الطويل للبحث عن شقة، ومن بعدها زوجة ابنها ''أم هشام''، لكنها ما زالت تجلس بجانب ''الحوش'' في الغرفة الواحدة مع أسرتها بانتظار ''الفرج''.
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة..للاشتراك...اضغط هنا