دبي - حين طوق رجال أمن أردنيون البنك المركزي الشهر الماضي لعزل محافظ البنك بعد خلاف على السياسة أظهرت هذه الواقعة كيف أن الربيع العربي يهدد الاصلاحات الاقتصادية في أنحاء المنطقة. كان فارس عبد الحميد شرف محافظ البنك من أشد الداعمين للتقشف المالي الذي يدعو اليه صندوق النقد الدولي. وكانت الحكومة الاردنية التي تشكلت في فبراير شباط -حين بدأت الاضطرابات السياسية تجتاح العالم العربي- تنفق بسخاء لشراء التأييد الشعبي. وفي هذه المواجهة بين الاصلاحات التكنوقراطية والملاءمة السياسية انتصرت السياسة في نمط يتكرر في العديد من دول الشرق الاوسط وشمال افريقيا اذ تضحي الحكومات بالسياسات الاقتصادية طويلة الاجل لتضمن استقرارا قصير الاجل. وهذا يخيب امال رجال الاعمال والمستثمرين في أنحاء المنطقة. فحين بدأ الربيع العربي في يناير كانون الثاني بالاطاحة بالرئيس التونسي أعطى ذلك الامل في تغيير الادارة الاقتصادية بما قد يعزز النمو ويوفر الملايين من فرص العمل. وقد تؤدي الضغوط المطالبة بالديمقراطية الى قطع العلاقات الدافئة بين الحكومة ونخب رجال الاعمال وزيادة المنافسة واعطاء القطاع الخاص مساحة أكبر للنمو. وقد تؤدي اعادة ترتيب الهيكل الاداري الى الحد من الروتين الذي يعوق الشركات. وزيادة الانفتاح في المجتمع قد تقلل الفساد الذي ينال من أنشطة الاعمال بشكل يومي. وحتى الان لا يحدث الا القليل من هذا. فقد تم تجميد اصلاحات نظم الدعم الحكومي المكلفة وغير الكفؤة خوفا من ردود الفعل الشعبية كما تم تعليق برامج الخصخصة التي قد تثير غضب العاملين. ونظرا لانشغال الحكومات في مواجهة المطالب بزيادة الدعم فانها لم تبد اهتماما كبيرا باجراء تغييرات ادارية. وقال مصطفى عبد الودود الرئيس التنفيذي لشركة أبراج كابيتال ومقرها دبي -وهي أكبر شركة للاستثمار المباشر في الشرق الاوسط اذ تبلغ الاصول تحت ادارتها ستة مليارات دولار- الاصلاح الاقتصادي تراجع الى مرتبة أقل في الاولويات في الاجل القصير. وقال سايمون وليامز كبير الاقتصاديين لمنطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا في اتش.اس.بي.سي ان الربيع العربي حول فعليا مسار الاصلاحات في العديد من الدول. وتابع "كان له أثر عكسي فقد شجع الحكومات على زيادة الانفاق والابقاء على الدعم وتسويف الاصلاحات الاقتصادية التي كانت قيد الدراسة لكنها قد تحدث أثرا سلبيا على مستويات المعيشة في الاجل القصير." ومن بين الاصلاحات الاقتصادية كانت الضحية الاكبر للربيع العربي هي اصلاحات الميزانية. فالعجز في الميزانية يتفاقم في دول مثل مصر وتونس والمغرب والاردن بسبب الانفاق لاسترضاء الشعوب رغم أن العديد من برامج الدعم تهدر الموارد وتغذي الفساد وتشوه اقتصادات تلك الدول. فالخبز في مصر رخيص لدرجة أنه يستخدم أحيانا كعلف للحيوانات ومع ذلك فان البلاد هي أكبر مستورد للقمح في العالم. وتتوقع مصر رسميا أن يبلغ العجز في الميزانية 8.6 بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي في السنة المالية التي تنتهي في 30 يونيو حزيران القادم مقارنة مع 9.5 بالمئة في السنة المالية الماضية وهي مستويات في نفس نطاق العجز في اليونان. وخفضت مؤسسة ستاندرد اند بورز التصنيف الائتماني لمصر الى درجة أدنى في المنطقة عالية المخاطر يوم الثلاثاء وحذرت من احتمال خفضه مجددا قائلة ان السياسة المالية هي السبب الرئيسي. وبفضل تعهد المجتمع الدولي ودول الخليج الغنية بعشرات المليارات من الدولارات لمساعدة دول عربية أفقر قد تتفادى الحكومات كارثة مالية. لكن طلبها المتزايد على التمويل قد يضر بالقطاع الخاص ويسحب الموارد من المشروعات الاستثمارية. وفي دول الخليج الغنية تمكنت الحكومات من تعزيز الانفاق الاجتماعي دون عبء كبير. لكن الدعم الحكومي ينطوي على تكاليف مستترة في تلك الاقتصادات أيضا. ففي السعودية شجعت أسعار الطاقة المنخفضة للغاية والتي تحددها الدولة على الاهدار وسحبت حافزا للشركات لتحديث تقنيتها وعملياتها. ورفعت الحكومة رسوم الكهرباء على بعض القطاعات العام الماضي لكن لا يبدو أن هناك فرصة كبيرة لزيادات كبيرة في المستقبل القريب. وقال جيمس ريف كبير الاقتصاديين في مجموعة سامبا المالية اذا رفعوا سعر الكهرباء فان الشركات قد تحمل ارتفاع السعر على المستهلكين وفي ظل المناخ السياسي الحالي لا أتوقع أن يفعلوا هذا. وتابع "في الاجل القصير لا أتوقع أن يخفضوا الدعم. وأثرت الاحداث أيضا على برامج الخصخصة. ففي تونس منحت الانتفاضة الشعبية نفوذا غير مسبوق لنقابات العمال والجماعات السياسية اليسارية التي تعارض عمليات الخصخصة. وتم تأجيل طرح عام أولي لاسهم شركة اتصالات تونس المملوكة للدولة في بورصتي باريس وتونس الى أجل غير مسمى. وكان هذا سيصبح أهم طرح أولي في تاريخ البلاد. وفي مصر جرى تحول مسار العملية تحت ضغط من الجماعات العمالية التي تقول ان نظام الرئيس السابق حسني مبارك باع شركات الدولة وأراضيها بثمن بخس للمقربين من رجال الاعمال وعرض الوظائف للخطر. وفي الشهر الماضي قضت محكمة مصرية ببطلان عقود لخصخصة ثلاث شركات صناعية وأمرت باعادتها الى الدولة. وقالت الحكومة انها تحاول تسوية نزاعات على عقود مع نحو 20 مستثمرا أجنبيا ومحليا. وفقدت خطط الخصخصة في السعودية قوتها الدافعة فعملية خصخصة شركة الخطوط الجوية السعودية مستمرة منذ عشر سنوات. وأجلت الشركة أول طرح عام أولي لاحدى وحداتها وهي وحدة التموين لمدة عام لاسباب تنظيمة ومسائل أخرى. ولن تؤدي الانتخابات التي تلوح في الافق في دول شمال افريقيا بالضرورة الى تمهيد الطريق لاصلاحات اقتصادية. ففي الانتخابات التي ستجرى في تونس مطلع الاسبوع المقبل من المرجح أن يفوز مزيج من الاسلاميين المعتدلين والاحزاب اليسارية. وكان التركيز في الحملات الدعائية على توفير حماية أكبر للفقراء وليس على تحرير الاقتصاد. وقد ساءت سمعة سياسيين يدعمون سياسات السوق بسبب علاقاتهم بالرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. وفي مصر ستبدأ الانتخابات البرلمانية في نوفمبر تشرين الثاني لكنها لن تنتهي قبل مارس المقبل وقد لا تجرى الانتخابات الرئاسية قبل نهاية 2012 وربما بعد ذلك. لذلك فقد تؤجل القرارات الصعبة للسياسة الاقتصادية لمدة عام أو أكثر. وفي الاردن أقال الملك عبد الله هذا الاسبوع حكومة معروف البخيت العسكري السابق الذي عزل محافظ البنك المركزي. ولم يتضح بعد ان كان رئيس الوزراء الجديد عون الخصاونة القاضي بمحكمة العدل الدولية سيغير السياسة الاقتصادية. لكن بالرغم من ذلك هناك بصيص من الاصلاح الاقتصادي في المنطقة وبعضه يرجع مباشرة الى الربيع العربي. فمن المنتظر أن تغير ليبيا مديري شركات بالجملة لان جزءا كبيرا من الاقتصاد كان تحت سيطرة أفراد عائلة معمر القذافي. وهناك مؤشرات أولية على أن هيكل التملك الجديد سيكون أكثر انصافا وشفافية فقد تمكن العاملون في شركة نفطية ليبية واحدة على الاقل من طرد مديريهم الذين اتهموهم بالمحسوبية. ومن المرجح أن يظل الاقتصاد مركزا على النفط والغاز لكن القطاعات المهملة مثل السياحة قد تزدهر تحت قيادة حكومة تقيم علاقات خارجية جيدة. وبعد الاحتجاجات المنادية بالديمقراطية في المغرب أمر الملك محمد السادس باعطاء مزيد من السلطات لمجلس المنافسة لتطبيق الشفافية والحوكمة لدى الشركات. وقال رئيس المجلس لرويترز الشهر الماضي انه سيكون محايدا في التعامل مع الشركات المملوكة للاسرة الحاكمة وهي أكبر مساهم خاص في الاقتصاد. وقالت فلورنس ايد الرئيسة التنفيذية لشركة ارابيا مونيتور للبحوث والاستشارات ان اصلاحات هامة تجري بشكل غير ملحوظ وهي تغييرات لا تغطي مجالات بارزة لكن ستكون لها نتائج كبيرة على الاقتصاد. فعلى سبيل المثال وبالاضافة الى اعلان السعودية هذا الشهر منح المرأة حق التصويت والترشح في الانتخابات قالت المملكة ان النساء لم يعدن بحاجة الى توكيل رجل لتأسيس شركة. وقالت ايد ان هذا قد يبدأ في التأثير على انشاء الشركات الجديدة خلال بضعة فصول. وتدفع الامارات العربية المتحدة باصلاحات قانونية لتسهيل ادارة الشركات الصغيرة والمتوسطة في اطار جهود لتنويع الاقتصاد وتقول أبوظبي ان نحو 50 بالمئة من نموها يأتي الان من مصادر غير نفطية. وفي نهاية المطاف قد يؤدي تعزيز الديمقراطية الى تسريع الاصلاحات الاقتصادية من خلال اعطاء مجموعات الاعمال دورا أكبر في السياسة الاقتصادية واشعار عدد أكبر من الناس أنهم أصحاب مصلحة فيها خلافا لبرامج تحرير الاقتصاد والخصخصة التي تطبق من أعلى الى أسفل والتي فرضتها الحكومات ذات السلطة المطلقة في العقدين الماضيين. وقال مصطفى عبد الودود الرئيس التنفيذي لشركة أبراج كابيتال ان الربيع العربي نجح بالفعل في "زيادة الوعي بأن المسألة الاهم في المنطقة هي تلبية احتياجات جيل شاب اخذ من السكان في الازدياد وهذا يعني فرص عمل وتعزيز كفاءة الاقتصاد وتوزيع الثروة بشكل أفضل." وأضاف أن هذا الوعي سيؤدي الى اصلاحات في المدى البعيد.