صرخت بكل ما أوتيت من قوة فاستيقظ الجميع وقفزوا من أسِرَّتهم ليستكشفواسر تلك الصرخة ! ولكنهم ما إن وصلوا إلي موقعي إلا وجدتهم يتنهدون ارتياحا برغم أنني مازلت في غاية الفزع والارتياع وكأن ما رأوه أمر اعتادوا علي رؤيته ليل نهار ... وللحق عندما رأيت ارتياحهم بدأ الهدوء يتسرب إلي نفسي رويدا ر ويدا وبدا لي ما رأيت وكأنه أمر لا يستحق كل هذا الفزع ... وهل رؤية عشرات الثعابين الصغيرة أمر يستحق الفزع...! ربما للمرة الأولي نعم ... ولكنها لمن تعوَّد علي ذلك فلا وألف لا... ولكن ما سر تلك الثعابين؟! وما مصدرها ؟! وأين أمهاتها؟! وهل هي من النوع السام؟! ولماذا تأتي إلي هذا المكان بالذات؟ أم كل المنطقة مليئة بها؟ تساؤلات عديدة امتلأ بها عقلي ولم أجد لها إجابة إلا عند زميلي سعيد الفيومي و الذي فوجئت به يأخذني من يدي و أنا أسير معه بلا حول ولا قوة وكأني مُنَوَّم مغناطيسيا... وصعدنا سويا إلي سطح السكن والذي كان خاليا إلا من بعض المقاعد المتهالكة والأثاث القديم البالي وما أن وصلنا حتي أشار سعيد إلي قطعة أرض فضاء بجوار السكن لا يوجد بها سوي بعض الصخور الصغيرة المتناثرة هنا وهناك ولا أجد سوي ذلك علي ضي القمر... وعندما هممت بسؤال سعيد عن سبب إشارته لي إلي تلك الأرض إلا ووجدته يبادرني هو بالسؤال : أتعرف لمن هذه الأرض؟! وفيم تستخدم؟! فأجبته بالنفي.... فقال لي : هذه الأرض ليست خالية كما تظن ولكنها مليئة... مليئة.... كيف ذلك وهي كما أراها بعيني خالية!!!؟ هي خالية فعلا من السطح ولكنها مليئة جدا من الباطن..... فهي وبكل بساطة.... مقابر وقعت تلك الكلمة علي سمعي وكأنها قنبلة مدوية.. فظللت أردد ببلاهة ممتزجة بالإحساس بالرهبة : مقابر... مقابر... مقابر نعم... مقابر لأهل الحي ومن مئات السنين وكل صخرة من تلك الصخور الصغيرة التي تراها هنا وهناك هي عبارة عن شاهد يرمز لوجود جثة تحته ولكن الأهالي هنا لا يفضلون كتابة يافطة بها بيانات المتوفي.... هيه... عرفت سر الثعابين الصغيرة ومن وين أتت... وعلي فكرة لا خوف من وجود أمهاتها في السكن فهي بالتأكيد لن تجد أفضل من الجثث طعاما...... هيا إذن لننزل ونكمل نومنا فاستجبت لسعيد.. ونزلنا... وهممت أن أسأله عن سر الحجرة المغلقة والأصوات المنبعثة منها ولكن أجلت ذلك لما بعد فالنوم قد داهمني... وما عرفته اليوم كافي جدا... والأيام قادمة... *************************** بدأ يوم دراسي جديد ويا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم... وبدأنا نرش أمام المحل أقصد المدرسة ولسان حالي يلهج بالدعاء أن يجعل الله هذا اليوم أفضل مما قبله وبدأت أتعرف أكثر علي باقي الزملاء في كل المواد وذلك في حجرةالمعلمين فالفسحة كبيرة وتكفي لأن نتسامر ونتجاذب أطراف الحديث وكنت أستغل الموقف لأتعرف أكثر علي الوضع وكيفية التأقلم مع القرود التي في المدرسة ومن خلال الأحاديث تبيَّن لي أن الجميع يشتكي مُرَّ الشكوي ويتمني لو يترك العمل ولو لكي يعمل.... عامل نظافة... تخيلوا!!! المهم ألا يحتك مباشرة بالطلاب السمجين الملزقين لأنه يعلم أن هذا الاحتكاك لن يكون فيه خاسر إلا.. هو... ولكم أن تتصوروا أن أعظم نجاح للمعلم هو أن يخرج من حصصه غير منتهك الكرامة.. وبمناسبة عامل النظافة.. فكان معظمهم من البنجلاديش وكانوا يتقاضون رواتب لا تزيد عن التسعمائة ريال ولكنهم كانوا في قمة السعادة لماذا..؟ ببساطة لأن هذه التسعمائة ريال تساوي بالعملة البنجالية( التاكا) 18 ألف ونصف تقريبا وبالدقة المتناهية هذه هي الحسبة: 900 ريال السعودي = 18,816.0300 تاكا بنغلاديش يلا ربنا يبارك.. وأنا اللي كنت بعطف عليهم وبعطيهم بقشيش!!! ومن المفارقات العجيبة أن أحد الزملاء كان يعمل سائقا لباص المدرسة بالإضافة لعمله في التدريس لمجرد تحسين دخله.... وماله يا خويا هوه العمل عيب ولا العمل حرام... لأ طبعا يا خويا لا عيب ولا حرام بس المهم ألا يتعارض مع عملك الأصلي فكيف لهذا المعلم أن تكون له كرامة مع طلابه وهو في الصباح يمر عليهم في المنازل ليأتي بهم إلي المدرسة وفي أثناء الدراسة يقوم بالتدريس لهم.... باختصار القول... يكون.. المعلم... الأسطي... وعجبي!!! ومن المضحكات المبكيات... أن أحد الزملاء كان مسئولا عن ماكينة التصوير بالمدرسة.. فقط يقف ليصور المستندات للطلاب والمعلمين ولا علاقة له بالتدريس فلقد جاء مرافقا لزوجته الأستاذة الدكتورة بإحدى الجامعات بالمملكة وما زاد الطين بلة أن هذا الزميل يحمل الدكتوراة في أحد فروع الكيمياء....... والبلد اللي مفيش حد يعرفك فيها امشي وأنت..... كمّل أنت بقي أصل الرقابة علي المصنفات الفنية والأدبية هتشيلها.. أكيد ..... وعجبي ************************ أنت قاعد هنا ومبتشرفشي ليه علي الطلاب في الفسحة مش الدور عليك ولا إيه؟! (قالها عادل الوكيل المصري للمدرسة في غلظة شديدة وبنبرة حادة تحمل الكثير من الاستعداء الغير مبرر) حاضر... والله ما كنت أعرف! ليه مش الأستاذ خميس بلغك بمواعيد إشرافك أثناء الفسحة؟ محصلش... صحصح كده يا أستاذ وشوف شغلك... وتركني وانصرف وأنا أضرب أخماسا في أسداس.... إيه الأيام السودة دي ومرَّ خميس أمامي وكأنه سمع مادار من حوار ليه معرفتنيش أيام إشرافي في الفسحة يا أستاذ خميس؟! لا أبدا... مجتش مناسبة (الراجل دا خبيث والله... هو تعمد ألا يخبرني حتى أتعرض للعتاب وربما للجزاء....) المهم فين المواعيد؟ روح للأستاذ شمري الوكيل السعودي وهتلاقي عنده الخريطة الإشرافية كلها... السلام عليكم أستاذ شمري وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته... كيفك أستاذ... ( رجل بشوش ترتاح لطلته له ابتسامة عذبة وروح طيبة ويولد لديك من الوهلة الأولى إحساس لذيذ بطيب المعشر...) أي خدمة... تؤمر. الأمر لله سيدي عاوز بس أعرف مواعيد إشرافي من عيني حبيبي.. تفضل اقعد.. ودق الجرس فجاء الساعي وطلب لي مشروبا باردا... هيه... أخذت اللي تبغيه؟ أيوة شكرا جزيلا أستاذي من مصر..؟ أيوة مصر بلد عظيم.. والله قضيت فيها أجمل أيام حياتي.... من وين في مصر؟ من المنصورة. المنصورة حق.. شربين ونبروةوطلخا ؟ آه.. شكلك عارفها كويس طبعا يا رجَّال... أنا لفيت مصر كلها تقريبا.. ولي أصدقاء في كل البلاد.. ولما بنزل مصر بروح عندهم... أنت مش هتعزمني في الأجازة ولا إيش؟! ياه بس كده.. أنا هشيلك من على الأرض شيل وهفرش لك الأرض ورد بس اوعي تبقي بخيل زي خميس... أصله ما يعمل شي إلا وعاوز له مقابل ... رجال سَوْ المهم الحين أنا عاوزك تحرَّص منه... مفهوم؟ مفهوم.... ططططبعا... أنا بقولك هذا علشان ما يحصلك زي ماصار لزميلك اللي أنت جاي مكانه (وقع هذا الجزء من الحوار علي مسامعي كالصاعقة...) ونكمل فيما بعد مادام في العمر بقية.... *****************************