كالعادة عندما أضيقُ بمشاكل الدنيا، وإحباطاتها، والنفوس الخبيثة من حولي، ومهرجان الأقنعة المقام طوال العام، أذهب إما للبحر أو السينما، ووجدت قدماي تسوقني إلى دار عرض يعرض فيلم "زهايمر"، لا أعلم لماذا، رَغم أني منذ زمن بعيد لا أتابع عادل إمام بسبب استيائي من تركيزه على المشاهد الفجة، والإيحاءات، والألفاظ الجنسية واقحامها في الموضوع دون مبرر أو منطق . وكلما كتب ناقد ينقده في ذلك.. تمادي وتمادي وازدادت فجاجته، فوجدت نفسي أوتوماتيكياً أبتعد عن متابعة أفلامه، رغم أني كنت أحب تمثيله في طفولتي، ولا أنسى أبداً "أحلام الفتى الطائر" و"المشبوه" و"حب في الزنزانة" و"إحنا بتوع الأتوبيس"، لكنه شَوَّه في عيني هذا التاريخ منذ أن بدأ رحلة فجاجته التي لم أعلم لها سبب مُقنع . ربما جذبني الإسم لأنني من هواة الأفلام التي تعتمد في موضوعها على المشاكل والأمراض النفسية، وتحليل الآلام والأوجاع الإنسانية، وربما لأنني كنت أتمنى مع قدوم العام الجديد أن أقابل هذا المنقذ "الزهايمر"، تمنيت حقاً أن أصاب بالزهايمر وأنسى كل ما آلمني وأحبطني، وكل ما كاد يفقدني أعزائي، فأبدأ مع العام الجديد حياة جديدة بدون ألم . دخلت الفيلم ومنذ بداية التتر الذي بدأ وكأنه غيبيات وأحلام، مع موسيقى العبقري دائماً عمر خيرت، شعرت بارتياح واندماج، وتهيأت لرحلة غريبة من نوعها، حيثُ أدخل لعالم "محمود بيه" تاجر الأقمشة المعروف في الموسكي، والذي أصبح مليونيراً معروفاً يصحوا من نومه ليفاجأ بممرضة وخادمة وجنايني وأصدقاء لا يعرفهم، والتفسير المُكرر والمؤكد على ألسنتهم له أنه لا يعرفهم لأنه مُصاب بالزهايمر منذ عامين . ولكن محمود بيه متأكد أنه يتذكر كل شيء.. أسرته، وزوجته، وأولاده، وأصدقاءه القدامى، وعمله، ولكن دون جدوى.. الكل يؤكد له أنه مصاب بالزهايمر وعليه أخذ الدواء، لأن إهمال مواعيد الدواء هو سبب تدهور الحالة إلى هذا الحد، ومع محاولات كل من حوله في إقناعه في أخذ الدواء وعدم الخروج من المنزل، نمر بمواقف كوميدية خفيفة متقنة وراقية، غير ما اعتدت من عادل إمام منذ فترة طويلة، مواقف أعادتني للضحك على مشاهده من قلبي . وتقع عينه بالصدفة على صورة قديمة لأصدقاءه القدامى.. عمر"سعيد صالح"، وشافعي "أحمد راتب"، ذهب إليهم بعد خطة خَدَع بها من يحرسونه في الفيلا، ذهب في البداية لشافعي فأكد له أنه فعلاً مصاب بالزهايمر منذ عامين، كاد يصدق ولكن شيئاً بداخله مازال يرفض ذلك الزائر السخيف "الزهايمر"، فسأل عن عمر وعلِم أنه في دار المسنين منذ سنين، وأكدت له الطبيبة أن أولاده أهملوه منذ أعوام وتركوا مرض الزهايمر يلتهمه كالوحش، فانقبض ولهث للجلوس معه . لندخل في مشهد عرفنا على ممثلان لم نلتفت إليهم من قبل، أو ربما ظُلمت موهبتهما باختيارات كثيرة على مدار عمرهما الفني، الأول إسمه سعيد صالح و الثاني إسمه عادل إمام، لن أحرق هذا المشهد.. لكن يكفي أن أقول أني لم أكن أتخيل أبداً أن أتأثر لدرجة أن تسقط دمعة من عيني وأنا أشاهد هذين الفنانين . كم كان مؤلماً على محمود بيه وهو يتخيل نفسه يصل لما وصل إليه صديق عمره بسبب الزهايمر، فذهب إلى منزله يطلب من ممرضته أن تعطيه الدواء، وتأتي المفاجأة مع دخول سباك العائلة للمنزل وإفشائه دون قصد للخطة المدبرة، وأن تلك الممرضة والخادمة وهذا الجنايني لم يكونوا هنا منذ عامين،ولكن منذ شهر فقط، بعدها أخبرته الممرضة بالحقيقة.. وأنهم كومبارس مأجورون من قِبل ولديه "أحمد رزق" و"فتحي عبد الوهاب"، لإيهامه بأنه مصاب بمرض الزهايمر، لأن ظهور علامات المرض عليه ستسهل عليهم كسب قضية الحجر المرفوعة عليه . وفي النصف الثاني من الفيلم تنقلب اللعبة لصالح محمود بيه، ويضم فريق الكومبارس إليه، ويتقن على ولديه دور الزهايمر في مشاهد كوميدية صادقة، وساعد عادل إمام في إخراجها بهذا الشكل.. نيللي كريم "الممرضة"، وأحمد الصاوي "الجنايني"، وإيمان السيد "الخادمة" . قدمت إيمان السيد مشاهد متناغمة جداً مع عادل إمام، وأظهرت امكانياتها أكثر، بعد أن لفتت الأنظار لها ككوميديانة في دور مساعدة صافيناز كاظم في مسلسل أهل كايرو العام الماضي . وكانت خطة محمود بيه ليست أن يحافظ على أمواله من طمع ولديه فقط، ولكن كانت خطته أن يعيد تربيتهما من جديد، وينتهي الفيلم بانتصار الأب في هذه المعركة واستعادته أمواله، لكنه يشعر أنه فقد نجاحه في تربية ولديه، ولو كانت له أمنية الآن.. فهي أن يُصاب فعلاً بالزهايمر لينسى جرحه من قطعتين من نفسه . المؤلف نادر صلاح الدين قدم لنا موضوع وإن يبدو قديماً.. لكنه قدمه بشكل مبتكر وجديد، وأحيا فيه الأبعاد الإنسانية بشكل يشعرك بالمشكلة، لا السخرية منها كما صار يحدث في الغالب، المخرج عمرو عرفة يستمر في تمكنه من أداوته، وعلى قدر بساطته على قدر عمقه في إخراج العمل بصورة ترتكز في الوجدان . لا ننسى أن النجوم المشاركين في العمل أسهموا بمصداقيتهم في نجاح الفيلم، وكل منهم استطاع أن يظهر أدواته رغم وجود الزعيم، وعلى رأسهم نيللي كريم التي بدت تلقائية جداً، وفتحي عبد الوهاب، وأحمد رزق، وأحمد راتب، وإيمان السيد، وأحمد الصاوي، وإسعاد يونس، وسعيد صالح - رغم أنه قدم مشهد واحد - ورانيا يوسف استفذتني بدور الزوجة الخبيثة الطماعة، وشعرت بالكُره نحوها فعلاً، وتمنيت لو صفعها زوجها في نهاية الفيلم وهذا هو ما حدث .