اختفى القذافى.. نهاية تشبهه. اختفى قبل أسبوع واحد فقط من احتفاله بمرور 42 سنة على «ثورته»... إنها ثورة جديدة... تستحق الاحتفال بقدرات الشعوب المكسورة فى خلخلة الديكتاتور.. ولو كان بكل هذا العنف والوحشية والكوميديا. نعم كوميديا الخروج من التاريخ... كانت أحد أسلحة القذافى. كيف تواجه ديكتاتورا بكاريزما الجنون الكامل. كيف تواجه قاتلا يضحكك؟ الديكتاتور.. وجه قاسٍ عنيف يخفى مأساة، لكن القذافى جمع المأساة والملهاة وغطاهما بعنف وقسوة لا مانع لها ولا حدود.. ولا حافة.. إنها قسوة بلا نهاية.. كان القذافى إلى أعلى دائما. تشعر بأنه ينتظر شيئا ما. لم يعلن عن تفاصيله.. ولم يكشف طبيعة ما ينتظره. إنها سمات زعيم خارج الزمن.. الأدق أنه عابر تواريخ خطيرة بالنسبة لبلاده وبالنسبة للعالم العربى.. فهو ضابط شاب قاد ثورة على الملك... ووضع مقعده بجوار زعماء التحرير وبناة الدول الحديثة. كان وقتها مزيجا من البدوى المارق على القبيلة والسياسى المنفلت من قواعد البروتوكولات... ظلت هذه الصفات موجودة طوال 40 سنة.. أوقف فيها توصيفاته عند اللحظة الأولى التى اعتلى فيها العقيد ثورة «الفاتح من سبتمبر». «العقيد» تحدى الزمن وصنع له وللثورة حضورا سرمديا لا ينتهى بمهمة ولا يتحدد بمناصب فهو ليس رئيسا... كما أن دولته لا تخضع للتوصيفات المتعارف عليها، لا هى ملكية ولا جمهورية، هى «جماهيرية» التى حكمت بالكتاب الأخضر.. أو «النظرية العالمية الثالثة» التى كانت خلطة من أفكار قومية وإنسانية ومثالية. يتعالى العقيد فوق اليومى لكنه غارق فى اليومى عبر شبكة «اللجان الثورية» التى سلمها الحكم الفعلى باعتبارها أداة الثورة الدائمة.. التعالى الذى يتيح للقذافى أن يدير ليبيا ولا يديرها فى نفس الوقت.. حسب نظريته التى قيل كثيرا إن عددا من المفكرين العرب المشهورين شاركوا فى صياغتها وتدبيجها لتصبح شبها لوحى نبوة وليست نظرية سياسية. متحمس دائما القذافى فى كل معاركه.. يبدو نزقا أحيانا وخارج بروتوكولات السياسة، وأقرب إلى الغاوين او الممسوسين بغرام بعيد... من اليوم الثانى لانتصار عملية الاستيلاء على الحكم... ضرب العقيد الرقم القياسى فى مشاريع الوحدة، كأنه كان يبحث عن اكتمال لم يتحقق أبدا... لم يدخل تاريخ السياسة، ولكن صنع تاريخا لليأس من العروبة ومن زعماء مفتونين بفكرة «المخلص» و«المنقذ» ويخفون تحت ملابسهم البدوية والعسكرية صورة هتلر من دون قوته التى تحدى بها العالم. تصور القذافى أن بلاده عظمى.. لمجرد أنها تلقت ضربة من سلاح الجو الأمريكى. تخريجة سياسية جديدة تماما لآخر سلالة الحكام المبعوثين من العناية لتحويل دولهم إلى «قوى عظمى».. بالتوحد مع ذات الزعيم المتعالية المفارقة للزمن. يجلس العقيد فى خيمته ليصنع زمنه الخاص، بينما بلاده تعانى من ثقل مهامه النبوية على بنيتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.... العقيد فى خيمته يضع نياشين ملك الملوك على صدره ويرتدى ملابس مثيرة... هى الموجة الأخيرة من أناقته التى بدت تقليدية مثل نجوم السينما وانتهت إلى مفارقة اللحظة والذوق الراهن. وهى موجات توازت مع تحولاته السياسية من «ممول» الثورات فى كل مكان إلى مرشد عن مخابئ الأسلحة المحرمة دوليا كعربون صداقة وإنهاء عداوة مع الغرب وأمريكا. القذافى نوع وحده. فريد بين الزعماء.. حطم سنوات الخلود والقدرة على طحن كل المخالفين تحت أوتاد خيمته.. عابر وفاكهة التجمعات السياسية.. يثير الفكاهة.. ويداعب وقار الحكام الآخرين بطرافة تجعله كمن يلعب دورا على منصة مفتوحة ودائمة. له مزاج ممثل يتمتع بقدرات على تحويل هذيانات العقل المغادر للواقع إلى ما يتصوره خطاب مهم. أصبح هو وحده مصدر جذب سياسى لليبيا بعدما أنهكت مغامرات العقيد السياسية عوائد آبار البترول. الشاب النزق اختفى بعد أن أصبح عجوزا يمتلك جاذبية أمام الشاشات والميكروفونات وربما نظرته الدائمة لأعلى ليست انتظارا لوحى أو نبوءة وإنما بحثا عن كاميرا تتابع استعراضاته المثيرة كشخص خارج التاريخ. اختفى القذافى قبل أن يتم عملية إبادة شعبه.. ويحقق الخيال الكامل فى أن يكون هو الدولة.. ديكتاتور وصل بالديكتاتورية إلى حافتها المضحكة والموجعة معا. الحاكم بأمر الله اختفى فى عز الدولة الفاطمية، وهناك طائفة دينية كاملة ما زالت تنتظر عودته.. من سينتظر القذافى؟