حارة ضيقة ثم ممر طويل يدفعك إلى آخر، خطوات قليلة للأمام حتى تسمع قرقرة الشيشة الممزوجة بصك قطع "الطاولة" بالمقهى الذى حمل اسم الممر "after eight"، الذى وقفت فى نهايته "دهب" بملامح جادة منهمكة فى رفع ما انتهت من إعداده جانباً، استعداداً لرصه على الطاولات الخشبية أمام عربة صغيرة بالكاد تسع تحركاتها الحذرة وسط ما رصته حولها من حلل وأطباق فى مربعها الزجاجى، الذى استقرت فوقه لافتة حملت اسمها "أم دهب للمأكولات المنزلية السريعة"، هو عنوان مشروع "دهب" صاحبة سيارة "الأكل البيتى" فى الممر الملاصق لمسرح قصر النيل بوسط البلد، لا يعرف الممر فتاة أخرى سواها ولا تعرف سوى الممر مكان آخر لقضاء يومها، يعتبرها سكان الممر من أصحاب القهوة أو الأكشاك المتلاصقة جزء من حياتهم اليومية بخفة دمها الطاغية والابتسامة التى نادراً ما تفارق وجهها الصغير، وزبائن محلها الصغير من المصريين والأجانب والسياح من كل شكل ولون. "منال مصطفى" أو "دهب" كما يعرفها الجميع، هى الفتاة التى لقبها أهالى الممر وسكان المنطقة ب"البنت الجدعة"، التى قررت قبل سنوات وضع "شهادتها الجامعية" جانباً، والتخلى عن رحلات البحث اليومية عن عمل "مش جايب همه" كما اكتشفت بمجرد تخرجها فى كلية التجارة الخارجية، شخصيتها القوية وخفة دمها الممزوجة بالصرامة عندما يتطلب الأمر، كل ذلك شجعتها على الوقوف داخل عربة زجاجية ينبعث منها دخان ما تعده من قائمتها الخاصة التى وضعت تفاصيلها على خلفية العربة التى حولتها "دهب" إلى مشروع ناجح ل"بنت بميت راجل". تنقلت عينيها بين طبق "السلطة" أمامها وبين الساعة الصغيرة المعلقة خلفها، قبل أن توافق على الحديث متعجلة عن مشروعها الصغير، الذى حولته "دهب" من مجرد "عربية كبدة" إلى مشروع حياة كاملة. "ده مش لعبة ولا مبادرة ولا فكرة.. ده مكان أكل عيش".. هكذا بدأت دهب التى لا تعرف قوة حضورها سوى الحسم فى اختيار ألفاظها بعناية، لتكمل: "أنا جربت أشتغل بعد التخرج، بس لا كان فى شغل ولا الشغل كان جايب همه، عشان كده عملت مشروع وقررت أطبخ.. مع أنى عمرى ما عرفت أمسك السكينة". وتذكر "دهب" أن والدتها قد دعمت الفكرة وساندتها منذ البداية، فيما قررت هى أن تسمى المشروع باسمها، أما عن الأسباب التى شجعتها على تنفيذ المشروع.. تضيف "دهب": مكان خاص بىَّ، ودخل ثابت وبيت مفتوح". ليقطع حديثنا صوت يقول: "صباح الفل يا دهب".. تحية عابرة ألقاها أحد المارة ثم أنصرف للجلوس على المقهى الملاصق للعربة، بابتسامة تلقت تحيته دون رفع عينيها عما وضعته على النار، لتقول: "الناس هنا كويسين وبقينا عشرة"، لتكمل حديثها عن ذكريات ما تعرضت له من مضايقات فى بداية الأمر قائلة: "فى البداية كان استقبال الشارع غريب لفتاة تحمل "حقيبة السوق" وتقف للطبخ فى "عربة كبدة" فى الشارع، لم أشغل بالى بنظرات المجتمع التى لا أؤمن بها، وفرضت نفسى على المكان وعلى الجيران من حولى، حتى اعتادوا وجودى وتحولوا إلى عشرة عمر". "ما فيش حاجة اسمها مش لاقى شغل أنزل أو أنزلى أعملوا أى حاجة".. هو مبدأ "دهب" فى الحياة التى دفعتها لترك وظيفة المكاتب المغلقة والوقوف بشجاعة فى مواجهة العيون التى لم تتقبلها فى البداية، لم تقتنع يوماً بالخوف من مواجهة الشارع أو رفض العمل لمجرد أنه "مش من مستوايه"، فالحياة بالنسبة لدهب واضحة المعالم والعمل فى نظرها "مش عيب". وأخيراً اختتمت "دهب" حديثها ضاحكة: "الناس مش هتبطل أكل ولا شرب شاى، وأنا مش هبطل شغل"، لتثب مدى إصرارها على طموحها الذى لا يتعدى حدود العربة الصغيرة الناجحة فى اجتذاب الزبائن وخاصة من السياح الذين اعتادوا زيارتها، لا تحلم بامتلاك مطعم ضخم فى مكان آخر، فقد اعتادت حياتها فى عربة صغيرة تطل منها على حياتها التى رسمت فيها بوضوح شخصية "دهب الجدعة الطباخة الربيمو اللى بيمت راجل".