كثيرا ما تلوت قصة عزير عليه السلام، وكنت أمر عليها مرور الكرام، أو قل مرور المهرول على قوم لا يعرفهم إلى جهة لا يعلمها مدفوعا بمنخاس من رغبة ملحة في الانتهاء. كان ارتفاع الصوت وتجويده يطغى على رغبتي في الفهم، وكان توقي للانتهاء من الورد أشد إلحاحا من الوقوف على الآيات وتدبرها. واليوم، وبعد أن مررت بتجربة مشابهة لتجربته، وشربت من نفس الحوض الذي رواه، وجدتني أقف عنده وأناجيه مناجاة حيران وأسائله سؤال ملهوف عن شعوره حين وقف بين أطلال قرية وبقايا وطن وطوابير قتلى لا يجدون من يدفنهم. وتساءلت معه: "أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟". كيف يخرج من بطن هذا الموت حياة غضة وأجساد بضة؟ ومن عساه يزيل آثار بختنصر من فوق الأناجيل والتراتيل والمعابد؟ من عساه يزيل أكوام التراب من فوق أوراق التوراة الممزقة وبقايا المصاحف المحترقة؟ وأي تاريخ يكتب لهذه الأرض التي مات أهلها أو كادوا؟ من يبعث من الرقاد قوما علتهم الأحافير وغطاهم الرماد وكست جلودهم الثلوج والبرد؟. كنت أنظر بعيني عزير، فأرى الواقع يستعصي على كل علاج، ويتحدى قدرة الطبيب الأريب، فلا حركة ترى ولا صوت يسمع في الوادي الخصيب. كنت أنظر إلى أكوام التراب التي غطت ملامح بيت المقدس وإلى أنهار الدماء وإلى الأشلاء، فأرى الحياة مستحيلة في أرض الشرق الباردة كالحة السواد. وكنت أسأل نفسي: "أنى يحيي هذه الله بعد موتها. لكنني لحسن الحظ لم أحتج إلى فترة رقاد كتلك التي قضاها نبي الله بين الحياة والموت كي أرى شعاع الحياة يخترق نفق الموت المرعب. لم أكن أتخيل أنني سأقف مشدوها كما وقف عزير عليه السلام وقد غطت ملامحه الحيرة وعلت سيماؤه الدهشة، وهو يرى أرضا غير الأرض وأهلا غير الأهل وحياة تخلف الموت على عرش بلدة فارقتها الحياة منذ عصور. بعد طول رقاد بين قوم كانوا جيافا وأرض كانت يبابا وبلدة كانت خرابا، فإذا بالحياة تدب في أكوام.