أراد فريدريك الثاني أن يبني قصرا بإحدى ضواحي بروسيا الهادئة، لكنه وجد في موقع الأرض المختارة مطحنة قديمة لرجل فقير. استدعى الملك صاحب المطحنة وعرض عليه مبلغا كبيرا من المال مقابل الأرض. لكن الرجل رفض عرض الملك السخي لأن والده علمه أن حفنة من تراب الوطن أثمن من كل الممالك. ضاعف الملك العرض لكن الرجل أصر على عناده وإصراره. صاح الملك في وجه الرجل بعدما فاض به الكيل: "ألا تعلم يا هذا أنني قادر على انتزاع هذه الأرض منك وإلقائك في أقرب حاوية دون أن أنقدك فلسا واحدا؟". فقال الرجل في ثقة: "أعلم أنك تستطيع أن تفعل ذلك يا سيدي لولا خوفك من قضاة برلين. عندها ابتسم الملك العادل راضيا وعدل عن بناء قصره في تلك الناحية.
صحيح أن القانون لا يخلق المواطن الصالح ولا المجتمع الفاضل لكنه يحافظ على الحد الفاصل بين المتقين والفجار ويمنع اختلاط حابل القول بنابل الفعل ويُقَوِّم ما اعوج من سلوكيات وما انحرف من خلق. لكن القوانين حين تفسد ويخترقها دود الرغبة وتعبث بها الميول والأهواء تتحول إلى صفارة إنذار على قرب هلاك ودنو أجل وزوال نعم وغضبة منعم. حين سأل جنكيز خان بعض علماء العراق عن الحاكم العادل غير المسلم والحاكم المسلم الظالم قالوا أن كفر الحاكم هلاك له أما ظلمه فمهلكة لمن يحكمهم جميعا. وحين ذهب أحد الخلفاء - عمر بن الخطاب - ذات خلاف مع أحد الرعية إلى بيت قاض ليحكم بينهما، ووجد منه بعض اللين في القول، والميل في الحكم، والتمييز في القَسَم، أقسم أن لا يتولى ذلك الرجل القضاء حتى يكون العدل عنده أقدس من كل المختصمين. يومها كان الضعيف يشعر بالأمان لثقته بأنه الأقوى في ظل قانون يحمل الكَلَّ ويحمي الضعيف ولا يميل يمنة ولا يسرة بارتفاع الكراسي أو القامات. لذلك كانت الرعية حين تتخاصم فيما بينها، تتنازل عن حقوق تعلم أنها لها خشية أن تقتطع لنفسها قطعا من النار تحملها في أعناقها يوم العدل الأكبر. لكن محاكم اليوم لم تعد تنصف مظلوما أو ترد ظالما، وتعلمت القوانين محاباة الكراسي والجلوس على موائد السلاطين والرقص فوق جثث القتلى ودماء الشهداء. صارت القوانين ملأى بالفجوات والمؤامرات والمثالب، وصارت المحاكم مراقص فلكلورية وأسواق حناجر تباع أصواتها لكل من يدفع الثمن. إليها يذهب الفقراء خافضي الرؤوس وإن كانوا أصحاب حق وأصول ومستندات لأنهم فقدوا الثقة بالكلمات وبالحقوقيين الذين ملأوا العالم صخبا وجردوه من كل الملاذات الآمنة للبسطاء. وفي بلادنا الواقفة على رصيف العالم تنتظر أي قطار حرية يحملها إلى أي مكان، أصبحت القوانين إتاوات يفرضها أصحاب السعادة والسيادة والفخامة على أصحاب التعاسة والمذلة والقهر. نعم لم تعد محاكمنا ملاذا من القهر أو الخوف أو المهانة، لأن بعض رعاة البقر الذين تسللوا ليلا من البوابات الخلفية لمغتصبي البلاد تعلموا القفز فوق مقاعد الفصل بين أشعة الفجر وخيوط الظلام، تلك المقاعد التي لم تعد مقدسة كما ينبغي ولا بريئة كما كنا نريد من صرخات السجناء وزفرات الثكالى وحسابات بكافة العملات من كافة الأيادي العليا. لكننا حتى فاجأتنا الصحف التركية بتحذير مخجل من تحول محاكم تركيا إلى النمط المصري كنا نحسن الظن ببعض الكروش التي امتلأت بمظالم العباد وجلست حيث كان الخلفاء والفقهاء ومن لا يخشون في الله لومة لائم ذات أمس بعيد يجلسون. محتاجون نحن اليوم إلى قضاة يعرفون الفرق بين دموع المقهورين وقهقهة الفجار داخل قاعات المحاكم. محتاجون جدا إلى من يطبق كل القوانين - أي قوانين - إلا قوانين زينب التي صارت مدعاة للسخرية والحزن والألم. ليتنا نتعلم من فريدريك الثاني أو من فاروقنا عمر أن العدل لا يحتاج إلى جنسية ولا إلى النطق بالشهادتين أمام شيخ أزهر. العدل لا يحتاج إلا إلى رجال تؤمن أن دعوة المظلوم تحمل على الغمام فيستجيب الله لها وإن كانت من كافر. يقول أرسطو: "الإنسان أفضل المخلوقات إن هو عدل، فإذا تخلى عن العدل صار أسوأها جميعا".