هناك مقولة شهيرة للفيلسوف الألماني الشهير "شوبنهاور" والتي تقول : "إن الموهبة هي إصابة الهدف الذي لا يستطيع غيرنا إصابته .. أما العبقرية فهي إصابة الهدف الذي لا يستطيع غيرنا رؤيته" .. ولا يستطيع كائن من كان أن يُنكر بأن ألمانيا أو بصورة أدق الشعب الألمانى هو الدينامو والمحرك الأساسى حالياً لأوروبا على المستوى السياسى والإقتصادى وأيضاً يمتلك اليد الطولى فى كافة المجالات الأوروبية. وبرغم هزيمة ألمانيا فى الحربين العالميتين فى النصف الأول من القرن العشرين واللاتى إنتهيا بإستسلام سياسى وعسكرى مُذل لكن هذا لم يؤثر قى جوهر شخصية وهوية الشعب الألمانى .. فلم تمض غير عدة عقود قليلة حتى عادت ألمانيا وعاد الشعب الألمانى أفضل وأقوى من السابق .. وبالرغم من هزيمته عسكرياً لكنه ترك لنا تاريخياً أسماء قادة عسكريين ما تزال كتب التاريخ تصدح بعبقرية تخطيطهم العسكرى. وهنا يتبادر السؤال التالى : ما هو سر عبقرية وإبداع هذا الشعب ؟ .. وما هى مقومات شخصيته والتى تجعله شخصية قيادية وغير قابل للكسر أو إلى فقد هويته كشعوب أخرى ؟. وقبل أن نبحث عن إجابة لهذا السؤال يجب أن نذكر لمحة بسيطة عن تاريخ هذا الشعب العريق .. وترجع أصول هذا الشعب إلى مجموعة من القبائل التي عُرفت في التاريخ باسم "القبائل الجيرمانية" من أمثال "الجوث" و"الفيزجوث" و"الاستروجوث" و"الفرانكس" والتي أعلبها ينحدر من أصول شمالية والتى كانت تستخدم اللغات الإندو أوروبية .. وكانت هذه القبائل تمتلك مقومات القوة العسكرية لكنها كانت أقل مدنية وتحضرا مقارنة بجيرانها وعلى رأسهم الدولة الرومانية .. مما دفع غطرسة الدولة الرومانية لاعتبارها قبائل همجية للتباين الثقافي والحضاري بينهما .. وقد اتبعت روما فيما بعد سياسة استمالة هذه القبائل بدلا من الدخول في صراعات مفتوحة معها .. ولكن سرعان ما قويت شوكة هذه القبائل فقامت قبائل "الأوستروجوثس" بالاستيلاء على روما في 410 بعد الميلاد .. فسقطت روما على أيدي إحدى القبائل الألمانية بعد صمود لأكثر من اثنتي عشرة سنة. وحتى بعد هذا التاريخ بقرون عديدة إستطاعت قبائل "الفرانكس" بجهود "شارل مارتيل" تثبيت أركان الإمبراطورية "الكارولينجية" وهي أول سلطة مركزية في وسط وغرب أوروبا بعد سقوط الدولة الرومانيةالغربية .. وإليه أى "شارل مارتيل" يرجع الفضل لوقف الزحف الإسلامي في معركة "بواتيه" الشهيرة والتى يُطلق عليها إسلامياً معركة "بلاط الشهداء" وهو في نفس الوقت جد "شارلمان" العظيم الذي أسس أكبر إمبراطورية مركزية تحولت فيما بعد لأهم عنصر ثقل على الساحة الأوروبية تحت مسمى "الإمبراطورية الرومانية المقدسة" .. والتي تكونت من الجذور الألمانية بتركيبة من الإقطاعات والدويلات التي تمركزت حول ما يعرف اليوم بألمانيا والمجر والنمسا والتشيك الخ. ولعل من أغرب المفارقات التاريخية أن تكون القبائل الجيرمانية التي أسقطت الدولة الرومانيةالغربية هي نفسها التي أنقذت الحضارة الغربية من الزحف الإسلامي بعد ثلاثة قرون ونصف تقريبا. وبعيداً عن التاريخ السياسى والعسكرى الألمانى فإن التأثير الثقافي الألماني يعتبر أيقونة الثقافة الأوروبية قديماً وحديثاً لأنه ركيزة أساسية فى تشكيل ثقافتها وفكرها ووجدانها عبر التاريخ .. ويظهر ذلك جلياً فى مفارقة تاريخية تثبت قوة تأثير هذه الثقافة على مثيلاتها .. فنفس الشعب الجيرماني الذي حمى المسيحية الكاثوليكية في معركة "بواتيه" هو نفس الشعب الذي يُنسب له وضع أساس تفتيت الكنيسة الكاثوليكية اعتبارا من عام 1517م .. ففي هذا التاريخ علق الراهب الألماني الصغير "مارتن لوثر" خمس وتسعين حجة على باب "كنيسة ووتنبرغ" ضد ممارسات الكنيسة وخروجها على تعاليم السيد المسيح فاتحاً بذلك الباب لحركة إصلاح ديني واسعة النطاق في أوروبا تلك الحركة التى غيرت من شكل الثقافة والحضارة الأوروبية وأخرجت القارة بأكملها من ظلمات القرون الوسطي إلى الفكر المستنير مما أدى إلى إنطلاق شرارة الحضارة الأوروبية حتى وصلت على ما هي عليه اليوم. وإستمر التأثير السياسى والثقافى الألمانى مُسيطراً على القارة الأوروبية، فبعد هزيمة التيار الكاثوليكي بعد حرب أهلية إشتعلت بسبب الانقسامات الدينية والصراعات السياسية ضعغت الإمبراطورية أمام الإقطاعيات البروتستانتية مما فتح المجال أمام بداية ظهور فكرة "الدولة القومية" في أوروبا والتي تعتمد على البعد الوطني خاصة بعد اتفاقية "وستفاليا واوسنابروك" في عام 1648م .. والتي كانت مشهد النهاية لآخر الحروب الدينية بعد حرب الثلاثين عاما .. ومن بعد هذا التاريخ أصبح الشعب الألماني يضع أسس السياسة الأوروبية بقوته وفكره وثقافته. وقد إكتملت صورة الدولة القومية الألمانية فى النصف الثاني من القرن التاسع عشر بعد أن توحدت تحت راية "بروسيا" على يد المستشار الألماني الداهية "بسمارك" .. ولكن قبل إكتمال هذه الصورة وفى القرنين الثامن والتاسع عشر بزغ فجر ثقافي وفني وفلسفي ألماني أثر تأثيراً جذرياً على أوروبا والعالم من خلال حركة فكرية وفنية وثقافية شاملة. وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن "الحركة الفلسفية الألمانية" التي تأثرت بفكر الفيلسوف الألمانى العظيم "إيمانويل كانط" والذي يُعتبر أحد أهم أساطين الفكر الليبرالي الغربي .. وقد تبعه فلاسفة عظام آخرين من أمثال "هيجل" صاحب نظرية الجدلية المادية الشهيرة والتي استوحي منها "كارل ماركس" الألماني مفهومه لحركة التاريخ وأطروحاته التي كونت الفكر الشيوعي فيما بعد والذى سيطر لفترة طويلة على نصف العالم .. ومن بعدهم ظهر فلاسفة آخرين من أمثال "نيتشة" و"ماركيوزي" .. الخ. وقد ظهر أيضاً علماء ومفكرين وأدباء أخرين يُشار إليهم بالبنان من أمثال : عالم الإجتماع "ماكس ويبر" .. ومؤسس علم النفس الحديث "سيجموند فرويد" .. والشاعر "جوته" .. ومؤسس علم العلاقات الدولية "هانز مورجنثاو" .. والعالم الشهير الأشهر "إلبرت أينشتاين" .. وعلى الصعيد الفني والموسيقى فقد أخرجت ألمانيا للعالم أفضل موسيقيين على الإطلاق من أمثال "موتسارت" و"ببيتهوفن" و"وباخ" و"هايدن" وغيرهم من الموسيقيين والذين تركوا للبشرية كلها روائع موسيقية لن تُنسى أبد الدهر. وبرغم تفوق الشعب الألمانى سياسياً وثقافياً ورياضياً وعلمياً فإن أكثر ما يشد الإنتباه فى الوقت الحالى للشعب الألمانى إقتصادياً أنه الشعب الوحيد على مستوى العالم والذى يُطلق عليه أنه الشعب الذى يعمل قليلاً وينتج أكثر لأنه يعرف جيداً قيمة الوقت وقيمة العمل ، وفى المقابل يعيش أفراد هذا الشعب حياتهم الإجتماعية خارج نطاق العمل بصورة مثالية فعندهم وقت العمل للعمل فقط ووقت الترفيه للترفيه فقط .. وهذا مما أدى بالتبعية لتفوق الصناعة الألمانية فى مجالات معينة على نظيراتها فى العالم من دول العالم المتقدمة.