هناك أمور في الحياة يصعب علينا استيعابها ليس لأننا لا نستطيع بل لأننا لم نتوقع أن تحدث لنا يوما. الأمر ليس بالهين ولا بالسهل كسؤال الذي يسألنا إياه المدرس عند بداية مشوارنا الدراسي، "عندما نكبر ماذا نريد أن نصبح" أتدرون لماذا؟ لأن عفوية الطفولة لاتعترف بقيود الحياة، أو بالأحرى بقانون الوساطة. فما كل الذي حلم أن يكون معلما، صحفيا، مذيعا، طبيبا، مهندسا، محاميا، شرطيا، ممثلا، مديرا، مقاولا، أصبح كذلك. مهن جميلة، لكن تطبيقها على أرض الواقع، أمر بالصعوبة بماكان ليس لعدم وجود كفاءة على عكس من ذلك، بل لأن مسؤولون المحترمون لا يعترفون بكفاءتك تلك، إلا إذا كانت مقرونة بمكالمة هاتفية، أو ظرف من إحدى المعارف غير ذلك فلا تمني نفسك بالظفر بوظيفة حياتك دون "وساطة". بصراحة، ماكان علي وعليهم الحلم أكثر، لأن حلمك سينقلب إلى قسم تعذيب أمام البرلمان من كثرة ما ستزخرف العصا جسمك أمام هذه المؤسسة، هذا جزاءك في هذه البلاد لأنك فكرت أن تصبح متعلما، مثقفا، من قال لك أن تدرس أكثر، تكفيك الشهادة الإبتدائية، دع الدراسة والعمل لأصحاب الأموال، أما أنت تلائمك عربة لبيع الخضر في الأزقة، هذا للأسف هو المنطق العقيم الذي يسير على منواله مسؤولونا المحترمون. أما إذا فكرت أن تصبح صحفيا أو مذيعا، في بلادنا العزيزة، فالأمر يعدو من عاشر المستحيلات لأن آلالاف الطلبة يتخرجون كل سنة من معاهد الصحافة والإعلام، لا يجدون حتى نصف مقعد في منابرنا الإعلامية "المحترمة" حتى البئيسة منها تنفر منهم. شخصيا، أعرف كفاءات صحفية، تخرجت من معاهد للإعلام دون إيجاد عمل، فجأة تبخر حلمهم بعدما إصطدم بواقع إعلامنا الفارغ، فتحولت حياتهم إلى بؤس، لا مكان لتفاؤل بداخلها بعدما توزعت سيرهم الذاتية، على المعروف والغير المعروف، من وسائل إعلامنا "المحترم طبعا" دون أي فائدة ترجى من ذلك. في المغرب، لا داعي لأن تحلم بمستقبل زاهر دون وساطة، بصراحة من الأفضل ألا تحلم أصلا خاصة إذا كنت من الطبقة الفقيرة، لأن بالعادة الغني هو من يتحكم في الفقير، وإن حصل العكس، فإنك بذلك ستقلب موازين أصحاب الأموال وهذا ما لا يجب أن يحدث في المغرب. في محاكم المملكة، تجد صور الميزان منتشرة على جدران هذه المؤسسة، لكن هذا الميزان ليس متساويا، لأن في الغالب تسلب الحقوق من المظلوم وتمنح للظالم، وأنت ترى بأم عينيك، لكن إذا منحت ظرفا مملوءا ب"زينة الحياة" فسترى ما يسرك، أما إذا وثقت في عدل بلادك أن ينصفك فكأنك ترى سرابا في صحراء قاحلة، ستظل قضيتك لوقت غير مسمى طي الكتمان، دون إيجاد حل يرضيك وكأنك تتنازع لا على قضية بل قضايا دولة بأكملها. هذا دون الحديث عن مستشفيات بلادنا العزيزة، وكأنك أمام مجزرة لا أمام مستشفى، اختار عاملوها عتق روح إنسانية متشبتة بالحياة، مشاهد تبعث في نفسك اللوعة والأسى، تتلوى وجعا فوق كراسي هذه المجزرة تنتظر من يخفف آلالامك حتى تمل فتتمنى الموت أحسن من أن ترى نفسك تتألم ألما لا يطاق، دون أن يعيرك صاحب البذلة البيضاء، أدنى إهتمام وكأنك حشرة لا إنسان مثلك مثله. أما إذا كانت لك وساطة، ستفاجئ بغرفة مجهزة بكل الآلات وممرضون يحيطون بك، يسهرون فوق رأسك، ويدللونك وكأنك ملك في مستشفى سويسري لا مستشفى مغربي. الوساطة، الوساطة، ولا شيئ غير الوساطة التي تمنحك روحا جديدة وتضخ في عروقك دما داخل هذه البلاد، وإن حصل يوما وحصلت على منصب دون وسيط ستفاجئ بطبيعة الحال من أول وهلة. لا أقصد من كتابة هذه السطور فتح جراح الفئة المتواضعة داخل بلدي، وإنما فقط تذكير مسؤولون المحترمون، أنكم عندما اخترتم أن تسيروا في طريق "الديمقراطية" يجب أن تلتزموا بذلك، وتعرفوا أن مفهوم الديمقراطية لا يكتب في أوراق بيضاء، وقت الإنتخابات لتصويت على حزبكم ولا يقال في جلسات البرلمان، لأنكم لا تدافعون عنا، وإنما تدافعون على راتب شهري محترم، يليق بتنقلاتكم وأسفاركم وسهركم، لأن أغلبكم يحولون قاعة تلك المؤسسة، إلى غرف نوم، ومقهى لقراءة الجرائد، ومنكم من لا يتواضع ويحضر الجلسات لدفاع عن فقير ينام على أرصفة المملكة. أنتم فقط من تجيدون التعبير بالألوان، أما نحن الفقراء، فالأسود يليق بحالتنا البئيسة. على العموم شكرا لكم، لأنكم تفكرون فينا كثيرا، والدليل عندما تتخرج، تصبح الأريكة ملتصقة بجسمنا لا تفارقنا، واليأس ينخر في صحتنا ليل نهار. إذا لا تلومنا يوما، إن فكرنا سلك طريق آخر لنجاح لأن المسألة ليست مسألة وطنية، وإنما مسألة تحقيق الذات.