كلمة الدبلوماسي تطلق في جميع انحاء العالم على الرجل اللبق والمهذب الذي يجيد التصرف في المواقف الصعبة بهدوء وقوة أعصاب ولا يكون من السهل إثارته أو استفزازه وهو يزن الكلمات بميزان الذهب ويستطيع إذا ما استدعى الموقف أن يصرح بكلمات تحمل أكثر من معنى تفاديا للحرج، وكان الداهية هنري كيسنجر مثالاً فريدا ًفي الجمع بين هذه القدرات.
بالمصادفة استمعت الى مقابلة أجرتها ال BBC مع المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية المصرية، كما رأيت نفس المتحدث في مقابلة اخرى مع محطة الجزيرة الإنجليزية وللأسف فإنني لا أتذكر اسمه. ليس مهماً كثيراَ ان الرجل يتحدث انجليزية ركيكة طالما أنه قادر على إيصال رسالته للمتلقي، ولكن الرسالة هنا جاءت مشوشة ومضطربة ومما زاد الطين بلة حرص المتحدث على ايصالها بصوت مرتفع وعصبية زائدة وهذا مالا يليق برجل يفترض انه يمثل الدبلوماسية المصرية. الرجل يتصور اننا كمشاهدين سوف نفهم بشكل أفضل كلما ارتفع صوته وهو يحاول أن يبرر بشتى الحجج الواهية أسلوب فض الاعتصامات الوحشي الذي لجأت إليه قوات الجيش والشرطة ضد المعتصمين في رابعة العدوية وميدان النهضة بالقاهرة. وهنا أيضاً فإنني التمست المعذرة للرجل وقلت إنه ربما يكون مقتنعاً بالفعل بما يقول ولكن انجليزيته وضعف منطقه لم يسعفاه في إيصال قناعاته العجيبة إلينا كمصريين وأجانب نعيش خارج مصر.
وكان من الممكن أن تمر المقابلة دون أدنى تأثير وكأنها لم تكن لكنني شعرت بالصدمة لدى رد المتحدث الرسمي على سؤال للمذيع عما يمكن أن تعانيه مصر اقتصادياً في حال اتخاذ دول المجموعة الأوربية لقرار بوقف الدعم لمصر كرد فعل على الانقلاب العسكري حيث رد المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية المصرية بأن مصر لم تعد تأبه بهذا لأن المساعدات المالية الأوربية لمصر أصبحت تمثل نوعاً من " الفكة " بالنسبة للمساعدات التي ستقدمها دول الخليج العربي لها بعد ثورة 30 يونيو !! وبهذا تحولت مصر على يد هذا الدبلوماسي الفذ الى سيدة تتسول يمينا ويسارا مثل أي سيدة تتسول على باب مسجد سيدنا الحسين في قلب القاهرة.
الرجل يباهي ويفاخر بأنه يتلقى الآن مساعدات أكثر من سيده الجديد فلا حاجة له بسيده القديم وقد ذكرني هذا بأيام دراستي الجامعية في القاهرة حيث كنا نعشق السهر في حي الحسين في ليالي رمضان الجميلة وسط الزينات ومعارض الكتب وأكلات الكشري وحمص الشام والحلويات الشرقية والوجوه المبتسمة. وقتها كان هناك شحاتين سوبر يرفضون أخذ الفكة من الشباب الصغار أمثالنا عند ظهور بعض الزوار الأثرياء في المنطقة.
هل تقلصت مصر صاحبة الريادة في المنطقة العربية طوال تاريخها الطويل حتى وصلت مكانتها إلى هذا المنحدر؟ ألم يسمع وزير الخارجية أو رئيس الحكومة بهذيان هذا الرجل وتصريحاته الكارثية والمهينة لكل المصريين؟ أم أن الرجل لم يخطأ في شيء وإنما يعبر عن واقع جديد نحاول تجاهله؟
لقد مرت مصر بأيام صعبة بعد هزيمة 67 وبعد قيام كل الدول العربية بقطع علاقتها معها بعد توقيعها لمعاهدة كامب ديفيد ولكن عبد الناصر والسادات بكل ما لهما من حسنات وسيئات لم ينحنيا أبداً وظلت قامة مصر عالية وشامخة وحافظت على مكانتها المحترمة لدى أعدائها قبل أصدقائها.
وبحكم إقامتي في الخارج وتعاملي مع عدد كبير من السفراء والقناصل المصريين أصبحت ألاحظ تدهوراً مستمراً في مستوى الدبلوماسيين المصريين الجدد خاصة في أوربا حيث تم استبعاد عنصر الكفاءة كمعيار للتعيين وحل محله معيار مدى القرب من الأخ جيمي (جمال مبارك) وأمه وموافقة جهاز مباحث أمن الدولة في ظل السياسة الحكيمة التي أرساها اللص الأكبر في تاريخ مصر المخلوع مبارك والتي شعارها لا صوت يعلو فوق صوت العمالة وأن من يدفع أكثر يركب على الفور.
وهكذا يتعامل أي رئيس أمريكي مع "الزعيم العربي" على أنه عميل ومع الزعيم الإسرائيلي على أنه شريك. وفور حصول الزعيم العربي على مرتبة عالية في العمالة والتسول يسمح له بالتفرغ لقمع شعبه والتنكيل بكل اشكال المعارضة من أجل البقاء في السلطة حتى الموت ولتذهب الأوطان والشعوب إلى الجحيم.
ولإثبات هذا التنظير يكفيك ان ترى ماذا فعلت عائلة الأسد بسوريا وماذا فعلت عائلة مبارك بمصر وعائلة القذافي بليبيا وعائلة بن علي بتونس وعائلة صالح باليمن وعائلة صدام حسين بالعراق وغيرهم دون ان يكترث اي من العمالقة الدوليين بالأحوال البائسة لهذه الشعوب العريقة وبلاد الحضارات.
ولأنه ليس هناك قيم أو مبادئ في دهاليز عالم السياسة وإنما مصالح وحسابات قوى فلا نلومن الرئيس الأمريكي الذي لا أشك أنه يشعر بالأسى تجاهنا وإنما نلوم أنفسنا.
لن ننجح أبداَ في انتزاع حقوقنا إلا عندما ننجح في امتلاك قرارنا وانتخاب زعماء وليس عملاء.
محمود يوسف بكير مستشار اقتصادي مصري عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.