حلم كبير يسعى وراءه الطلبة وتسبقهم دعوات الآباء والأمهات وتوفير كل قرش والحرمان من كل متعة لتحقيقه.. سهر ومذاكرة وشدة أعصاب وابتعاد عن العديد من المناسبات العائلية لإيجاد وقت للدروس وكله ليصبح الابن أو الابنة دكتوراً أو دكتورة « قد الدنيا ».. وكما تتوالى سنوات الدراسة فى هذه الكلية ويصبح الطالب كالراهب ليصل لمبتغاه. فإن هذا الحلم لا يلبث أن يتحول إلى كابوس وسط ظروف الحياة الصعبة، ويشعر الدكتور الذى من المفروض أن تتفتح له كل الأبواب ليجتازها بعد التخرج بكل يسر وكأنه عجوز تكسرت كل آماله على صخرة الواقع عندما لا يتجاوز مرتبه المائة أو المائتى جنيه شهريا لتصبح مشكلة أجور الأطباء وقصر ذات اليد عائقا أمامهم لتحقيق رسالتهم السامية فى شفاء المرضى.. فهم يريدون من يعالج مشاكلهم. كاريكاتير ياسمين مأمون شحططة وبدون مقابل : « عايز أعيش حياتى.. عايز أعمل وأكسب زى أى شاب لأفتح بيتا وأكون عائلة » هذه هى آمال الدكتور أحمد مصطفى دفعة 2006 من الذين عشقوا كلية الطب، ولكن تحطمت آمالهم بعد التخرج.. يحكى الدكتور أحمد مأساته على حد تعبيره قائلا : « مجموعى العالى وقت تخرجى الذى وصل ل 90% أهلنى للعمل فى المستشفيات التعليمية، واكتسبت خبرة واعتبرت نفسى محظوظا وكان مرتبى مع ضآلته الذى يصل إلى 800 جنيه يفوق العديد من أقرانى من خريجى نفس الكلية، ولكن أيضا هذا المرتب لا يكفى سوى احتياجاتى الشخصية فكشاب عليه التزامات لفتح بيت والزواج وشراء سيارة يكون الأمر مستحيلا بدون مساعدة أبى لى لذا فأنا وزملائى « متشحططين » بين المستشفيات والجوامع والعيادات لضمان دخل معقول، وللآن لسنا قادرين على فتح عيادة خاصة بنا.. كما أن نواب الجامعة الذين يحضرون الدكتوراه ويصرفون عليها يسافرون للخارج ويصبح هذا هو أملهم الوحيد ومتنفسهم لبناء مستقبلهم، وهذا يعنى أن كل الكوادر الجيدة ستهرب أو بالفعل هربت للخارج ولا أعرف هذا فى مصلحة من ؟!! 210 جنيهات بعد 5 سنوات أما الدكتور أحمد سعيد فهو خريج 2006 أيضا ويعمل فى أحد المستشفيات التابعة لوزارة الصحة فيقول : «بعد 5 سنوات عمل مرتبى 210 جنيهات فهل هذا مرتب أستطيع فتح بيت به وهل لأنى دكتور يجب أن أعاقب فكل زملائى من خريجى الكليات الأخرى مرتباتهم مع أنهم فى نفس عمرى من 4 أضعاف إلى عشرة اضعاف مرتبى فعلى أى أساس يطلقون علينا كلية القمة؟! يومى كله مقسم بين المستشفى الحكومى نهارا وعيادة الأستاذ ليلا وكذلك عيادة فى جامعين أتردد على العيادة التخصصية بهما 3 أيام فى الأسبوع لكل منهما، بصراحة لا أستطيع أن أعتبر نفسى حيا فأنا ليل نهار أعمل وفى الآخر لا أستطيع الوصول لدرجة مرضية من الاكتفاء والاعتماد على نفسى لبناء بيت وأسرة ويجب أن ألجأ لوالدى ألا يكفى تعبه معى طوال سنوات الدراسة والجامعة هل لأن والد الطبيب كتب عليه مساعدته طوال عمره ؟! حتى البنات اشتكوا الدكتورة ريم ممدوح -30 سنة - تقول : « رغم أنى أعشق كلية الطب منذ كنت طفلة إلا أنى «تعقدت»، بالفعل فمرتبى بعد أن تخرجت سنة 2005 كان 130 جنيها وبعد الحوافز والزيادات التى أقرتها الوزارة قبل ذلك وصل إلى 310 جنيهات ولا توجد ميزانية فى العالم تستطيع وضعها لتفى باحتياجاتها الشخصية ومواصلاتها وأطالب أى مسئول بأن يستطيع مساعدتى إذا استطاع.. كما أن هناك مشكلة كبيرة تتمثل فى المراكز الطبية فهى غير مؤهلة على الإطلاق لمنافسة المستشفيات مما يجعلنى لا أمارس الطب على أصوله فأفتقد التطبيق المباشر، ولأن أى طبيب حتى يكون ناجحا يجب أن يحضر ماجستير أو دبلومة ولأن، مجموعى لم يحصل « نيابة أطفال » أو نساء وتوليد طالت فترة تكليفى فى المركز الطبى وأخطر شىء الآن بعد الثورة هو فى ظل عدم الأمان والانفلات الأمنى القلق من النوباتجيات الليلية فنقضى الليل كله وإن لم تأت مريضة ولا أعلم لماذا لا يوفرون الأموال التى تصرف على هذه المراكز من نور وكهرباء وتليفونات لتحسين الخدمات الطبية الحكومية وزيادة رواتب الأطباء ؟ لأنها لا تكفى أى أحد، والحال يذهب للأسوأ فى ظل غلاء وارتفاع أسعار كل شىء ما عدا مرتباتنا.. طبيبة أخرى رفضت ذكر اسمها دفعة 2005 تصف حالها بالمأساة فتقول : « بعد كل هذا المجهود لأتخرج من كلية القمة تحطمت كل أحلامى وأصابنى الإحباط فيكفى أن تدخل مركز الصحة الذى جاءنى فيه أول تكليف والذى كان فى الزاوية الحمراء لترى مدى المعاناة فى ظل عدم الأمان يجب أن أبات فيه ومعى ممرضة وحارس أو اثنان وإذا فكرت فى العودة لبيتى فأى مفتش يمر « يمسح بى الأرض » وهذه النوباتجية نأخذ عليها 45 جنيها هل يمكن تصور ذلك !! ولك حد أقصى من النوباتجيات الليلية والمرتب يصل إلى 300 جنيه بعد الحوافز والبدلات وأعتمد على أهلى فى كل شىء لأن المرتب بعد الزيادات والنوباتجيات لا يزيد على 450 جنيها وبعد أن استطعت أن أعمل فى مستشفى تعليمى أكسبنى خبرة، ولكن أعصابى تنهار عندما يأتى مريض ونقول له لا يوجد سرير فارغ « يدعى علينا » وكأننى السبب فى قلة الإمكانيات. الدكتورة مها أحمد طبيبة أسنان خريجة 2007 تبدأ حديثها معى وكلها أمل فى تحسين العديد من الأشياء للأطباء، خاصة بعد الثورة على كل شىء فى البلد، وتحكى قائلة إن تكليفى جاء فى سمالوط - المنيا مع أننى من سكان مصر الجديدة فى القاهرة واعتقدت أن هذا التكليف هو ما سيعلمنى ويساعدنى فى ممارسة المهنة وسافرت إلى هناك على الدرجة الثانية للقطار الذى يقف فى كل محطة لأن التذكرة أرخص وعندما نزلت المنيا ركبت مينى باص إلى مديرية الشئون الصحية هناك ومنه ركبت التوك توك لأصل للوحدة الصحية والتى كانت غير مجهزة على الإطلاق من المعدات. أما سكن الأطباء فكان كارثة بمعنى الكلمة فعدت واستقلت. وأنا أحضر الدراسات فى قصر العينى فراتبى الذى وصل إلى 250 جنيها لن يغطى مواصلاتى فقط وبدلات السفر التى تصرف كل عدة أشهر على حسب عدد الأطباء فأحدنا فقط هو الذى سيصرف له كل شهر.. الدكتورة ليلى شادى طبيبة أسنان دفعة 2007 وتعيش فى القاهرة فقد جاء لها التكليف فى وحدة صحية وصممت على إنهاء التكليف لتستطيع ممارسة مهنتها ولكنها على حد قولها تفاجأت وتشرح ذلك : «وجدت أن الوحدة لا توجد بها وحدة للأسنان وذهبت لأنهى تكليفى و« ماليش دعوة » وتكمل ضاحكة : « الطبيب البشرى هناك فى الوحدة إذا جاء له مريض يشتكى ألم أسنان. فيكتب له على مضاد حيوى ومسكن دون الرجوع لطبيب الأسنان أو الكشف عليه فليست هناك أصلا وحدة للأسنان وراتبى هو 350 جنيها بالحوافز وبدل السفر فللأسف ليس هناك عمل حقيقى ولا دخل عادل، فضلا على المهانة التى أتعرض لها كفتاة فى هذه التنقلات. أما السكن هناك الخاص بالطبيبات فهو عبارة عن غرفة وكأنها « بيت الرعب » وليس بها بوتاجاز أو ثلاجة والحل فى إيجار غرفة مناسبة وهى لا تقل عن 800 جنيه وتتساءل « لماذا لا يكون التكليف فى منطقة سكن الطالبات، فجامعة المنيا مثلا فيها العديد من الخريجات اللواتى إذا جاء تكليفهن فى المنيا لن تكون هناك أدنى مشكلة ؟! وحتى المديرين : أما الدكتور محمود. ع فهو مدير لمستشفى حكومى راتبه لا يتجاوز الألفى جنيه يقول عنه « إنه مرتب هزيل جدا لقاء سنوات عملى التى تجاوزت ال 25 عاما وعندما حاولت العمل فى الخارج تعبت كثيرا فأنا أكره الغربة والبعد عن أبنائى وبلدى مع أن بلدى لم تعطنى وتعوضنى عن مجهودى لمصلحة ولشفاء المرضى وجهادى لتحقيق ذلك حتى إن الوزارة تشترط علىَّ كمدير ألا أعمل فى عيادة خاصة حتى يتضاعف مرتبى وهو ما لا أستطيع لعدم الاستقرار فى مركزى.