ماذا يعني الغياب بالنسبة إليهم، إنه أمر عارض، لا يشمل وجودهم كله، فقط الجسد الذي سكن التراب، أما آثارهم فباقية، لا تعرف الاندثار، كامنة أو ظاهرة، جلية أو خفية، هي في كل الأحوال رابضة، تنتظر الأذهان، وأصحاب الوجدان، كي يلتقوا بها، سواء علي صفحات كتاب، أو في »براح» لوحة، أو في غضون لحن خالد يأسر الآذان، ويهز الوجدان، لذا يرحل سائر الناس ويغيبون، ولكن المبدعين يبقون في آثارهم، وما عملته أيديهم، يذهب الجسد، ويبقي الصوت والأثر، متأهبا في كل آن لمخاطبة العقول، ومصافحة الوجدان، أحيانا يسكن رواية، وأخري يستقل ديوان شعر، وتارة يكمن في لوحة، أو في لحن عذب أخاذ، لذا يبدو من الظلم أن يتحدث عن المبدعين الحقيقيين من لا يعرف أقدارهم، ويعي قيمتهم، لأنه - لا شك - سيجانبه التوفيق، وسيخاصمه الصواب، كما حدث مؤخرا مع واحد من أفذاذ بلادنا هو الأديب المصري العالمي نجيب محفوظ الذي رحل عن عالمنا، وترك لنا تراثا خصبا باهرا، وتاريخا مشرفا مرموقا، ودروسا ليت الآخرين يستوعبونها، وقبل أيام من عيد ميلاده الذي يحل في الحادي عشر من ديسمبر، يتأمل معنا عدد من المفكرين والأدباء والنقاد لوحة محفوظ بألوانها المتعددة التي تعجز السنون عن محوها، أو جعلها باهتة، تماما كتلك اللوحات الخلابة والمناظر الرائعة التي تزين المعابد المصرية القديمة، وتتألق بألوان لم تستطع القرون أن تؤثر علي روعتها وبهائها، فمن مختلف زوايا اللوحة المحفوظية ينظر معنا هؤلاء ويعبرون عن الأثر الخالد والعطاء الباقي للرجل الفذ رغم أنف المسيئين إليه. في البداية يقول الناقد الكبير د.محمد حسن عبد الله: نجيب محفوظ باق راسخ كالهرم لأنه أسس فنا روائيا ناضجا ولغة فنية راقية لا يمكن أن توسم بأي نوع من النقص، ورب ضارة نافعة فهذا النائب البرلماني الذي هاجم نجيب محفوظ كشف عن وجود تيار فكري متطرف مازال مسيطرا علي من يقرأ أعماله بطريقة متعجلة وسطحية أو يستمع إلي آراء من لم يقرؤوا رواياته، أو يستلبون معلوماتهم عن أدب محفوظ من خلال الأعمال الدرامية المستوحاة منها، ومن باب أولي كان عليهم قراءة أعمال الجاحظ وشعر المتنبي فسوف يجدون عبارات قد يعتبرونها مكشوفة، وأن يتأملوا قول الإمام علي بن أبي طالب الذي يقول إن تلك المفردات لا تستعمل إلا في الضرورة، وكان محفوظ يستخدم بعض الكلمات ليعبر عن واقعية الحياة المصرية، وأدعو سيادة النائب إلي أن يقرأ كتابي »الإسلامية والروحية- في أدب محفوظ» ليكتشف أن هذا الأديب صوفي راسخ في عالم الصفاء الروحي. في حين يرصد الناقد الكبير د.حسين حمودة مضمون رسالة أديبنا العالمي قائلا: سوف يبقي المشروع الإبداعي الكبير الذي قدمه لنا وللإنسانية طويلا، سوف يبقي دفاعه الإبداعي المجيد عن القيم الإنسانية الرفيعة عن العدل والمساواة، والحرية، والتقدم والتسامح، وسوف تبقي استكشافاته وإسهاماته في الرواية العربية والإنسانية التي قامت برسم حدود في ترسيخ الفن الروائي في الأدب العربي، قد كانت تجربته الروائية حاصلة بمنجزات خاصة به وحده، ونحن نعرف جميعا أن مغامراته الإبداعية لم تقف عند هذا الحد، انما كان يسأل نفسه باستمرار، يقول ما الذي سوف يضيفه كجديد في عالم الأدب المصري؟ وهكذا كانت مغامراته متجددة علي الدوام، وتشهد المراحل والانتقالات التي نعرفها منذ كتاباته الأولي في فترة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، وصولا إلي نصوصه المختزلة في »أصداء السيرة الذاتية» و»أحلام فترة النقاهة»، وكأن هناك أكثر من نجيب محفوظ أو كأن هناك كاتبا واحدا احتوي في داخله مجموعة من الأدباء، فكتابات نجيب محفوظ بعمقها وقيامها بجماليتها تسمح لنا بأن نتأملها بعيوننا، ونعيد تأملها عديد مرات ومرات، وكل مرة نكتشف فيها أبعادا جديدة، وهذا يجعل تجربته الإبداعية باقية وعابرة لكل الأزمنة. مرآة عكست كل الأحداث أما الناقد الكبير د.حامد أبو أحمد فيقول: مراحل أدب محفوظ هي علامات بارزة في مسيرة الرواية العربية، بداية بالمرحلة التاريخية التي تحكي عن تاريخ الفراعنة برؤية محفوظية مثل روايات »عبث الأقدار» و»رادوبيس» و»كفاح طيبة»، ثم انتقاله إلي الواقعية النقدية التي تشمل رواياته مثل »القاهرة الجديدة»، »قصر الشوق»، »بين القصرين»، »السكرية»، »زقاق المدق»، »السراب»، وبعد ذلك الأعمال ذات الفكر الفلسفي مثل »الطريق»، »ثرثرة فوق النيل»، »الشحاذ»، فعالم محفوظ بالغ الثراء، وهو ناقد للمجتمع الذي نقد الأوضاع غير الصحيحة في المجتمع المصري، وهذا يدل علي أن هذا الأديب مازال خالدا، وأنه مرآة عكست كل الأحداث التي وقعت في مصرمن خلال العقود الزمنية الماضية، والعالم يتغير لكن نجيب محفوظ باق مثل الهرم و(أبو الهول). تواضع الكبار وعن إنسانيته الفريدة يحدثنا تلميذه مجدي سعد أحد حرافيشه الجدد بقوله: هو قيمة إنسانية يكتشفها من يقترب منه، وكان إنسانا بالغ الخصوصية وشخصا متواضعا أمام الجميع، وكان رجلا نبيلا، وأتذكر بأن ابن صديقه العزيز تصرف يوما بصورة تسيء إليه، وسألته هل ستتخذ إجراءات قانونية ضده؟ فنفي محفوظ بشدة؛ لأنه لا يريد أن يخسر صديقه، وقمنا بحل الخلاف بطريقة ودية، وهذا الموقف يجعلنا نكتشف كيف كان نجيب محفوظ مهتما بأصدقائه ولا يحب أن يخسرهم؟. أما الأديب نعيم صبري أحد الحرافيش البارزين فيقول: تعلمت من محفوظ مجاهدة النفس، وأن تواصل الكتابة الإبداعية حتي آخر العمر، وكيف تكون شديد الانضباط، وحريصا في كل عمل جديد علي أن تقدم تقنية مختلفة وحديثة في كتابتك، وقد استطاع محفوظ أن يؤسس للرواية العربية ويجعلها مشروعا متكاملا ويعمل علي هيكلتها لتصبح معبدا لكل روائي مصري، وجعل الرواية العربية مساوية للرواية العالمية. توثيق ما حدث! ويتأمل المؤرخ الكبير د.أيمن فؤاد سيد رئيس الجمعية التاريخية المصرية زاوية التأريخ الفني عند محفوظ ويقول: كتب تاريخا موازيا عن حياة المصريين من خلال روايات ملحمة الثلاثية التي ترصد حياة أسرة السيد أحمد عبد الجواد، حيث يتعرف القارئ كيف تعامل المصريون مع قيام ثورة 1919، وخبر نفي سعد زغلول والمظاهرات التي هتفت ضد الاحتلال الإنجليزي، ورواية »القاهرة الجديدة» تتحدث عن طلاب جامعة القاهرة، كيف ينظرون إلي الطبقة المتوسطة في فترة مهمة من تاريخنا، وقد استطاع محفوظ أن يوثق ما حدث في مصر علي مدي أكثر من ثمانين عاما بطريقة غير مباشرة ذات طابع إنساني برؤية درامية. تقطير الحكمة! ويتناول الناقد المتميز د.سيد ضيف الله زاوية أخري في عطاء محفوظ حيث يقول: وفيما يتعلق بنجيب محفوظ القصاص فإن الحديث عن القصة ينبغي أن يتجاوز النظرة التي تقارن قصصه برواياته، لإثبات أنه أهمل القصة، أو أنه تفوق في الرواية علي حساب القصة، فلمحفوظ خمس عشرة مجموعة قصصية، بل إنه بدأ بكتابة القصة، وليس بالرواية، حيث أصدر مجموعته الأولي همس الجنون 1938 لكنه توقف عن القصة نحو خمس وعشرين سنة ليعود إلي كتابة مجموعته »دنيا الله» عام 1962 ثم توالت المجموعات القصصية، فإنتاج القصة عنده ارتبط أحيانا بحالته الصحية، وعدم قدرته علي القراءة في سنواته الأخيرة، لكن في الوقت نفسه جاء الطابع الفلسفي والحكمي التأملي كسمة من سمات الكتابة عند محفوظ طوال حياته، فكانت »أحلام فترة النقاهة» الفلسفة والحكمة مقطرة تقطيرا جميلا!، ولا ينفي هذا ان محفوظ كان أحيانا يتعامل مع القصة باعتبارها رواية يتم تلخيصها! وفي الختام تقول عالمة الاجتماع د. سامية خضر صالح: كان محفوظ يرسم المجتمع صورة كاملة، واستطاع أن يلقي الضوء علي قضايا اجتماعية مهمة عن ظلم واضطهاد المرأة والبطالة ذلك من خلال رواياته وقصصه، وعندما يتواصل القارئ مع سطوره يستضيء ذهنه، ويكتشف وعيه حجم هذه المشكلات الاجتماعية التي لم يلتفت إليها في حياته اليومية، وأن محفوظ لا يبحث عن حلول إنما يقدم قضايا اجتماعية حتي يلتفت إليها الناس ليبحثوا عن حل.