كانت تعتقد أن سنوات الشقاء سوف تنتهي مع زواج ابنتها آخر العنقود، فلم تكن تدري أن هذا الزواج سيكون بداية لفصل آخر من العذاب والشقاء. عندما تزوجت موظفة الأرشيف من زميلها الذي يعمل بنفس المصلحة الحكومية، تعاهدا علي ابقاء حياتهم بعيدا عن المشاكل ومواجهة الحياة بحلوها ومرها. جاءت أول مولودة لتضفي علي حياتهم الزوجية المزيد من السعادة التي طالما حلموا بها اطلقت عليها اسم (أمل) لتكون هي الأمل في حياة سعيدة مقبلة، بعدها رزقت ببنت ثانية ثم ثالثة، ولم يعد يهمها في الحياة سوي راحة أسرتها الصغيرة خاصة بعد أن رأت مدي قبول زوجها "لخلفة" البنات وعدم انجابها للولد الذي يحمل اسمه كما كانت تردد نساء عائلته. وكأن الحياة قد استكثرت عليها السعادة، فانقلبت حياة الأسرة الصغيرة إلي مأساة بمرض الأب ثم وفاته في غضون شهور قليلة، لتفقد السفينة ربانها وتتولي هي مسئولية قيادتها وسط أمواج الحياة العاتية. ولكنها استطاعت تربية بناتها علي أكمل وجه رغم ما واجهته في تربية ثلاث بنات وهي الأرملة التي تعرضت لمشاكل كثيرة سواء من رجال طامعين فيها أو متطلبات المعيشة وتعليم البنات وكانت قد رفضت تماما فكرة الزواج ممن يساعدها علي تربيتهم. وبمرتبها ومعاش زوجها الهزيل الذي بالكاد يكفيان متطلبات الحياة الأساسية عاشت هي وبناتها، وبعد تخرجهن من الجامعة تهافت عليهن العرسان رغبة في الزواج. فتزوجت الأولي من أحد أقاربهم، أما الثانية فتزوجت وسافرت مع زوجها إلي احدي الدول العربية، أما الصغري فقد كانت هي شقاءها وتعاستها منذ أن تفتحت عينها علي أحلام المراهقة وبدأت تتطلع إلي عيشة أفضل من التي توفرها لهم الأرملة التي أفنت حياتها عليهم، فلم تقدر الابنة تضحيات والدتها بكل كانت تعيرها بسبب وضعهم الاجتماعي المتدني مقارنة بزميلاتها في المدرسة ثم الجامعة. عندما تقدم للابنة من يخطبها عن طريق جارتهم رحبت الابنة بهذا الزواج بعد أن رأت فيه تحقيق حلها في مستوي اجتماعي ومادي أفضل فقد كان يعمل بالتجارة وحالته المادية ميسورة. واعتقدت الأرملة أن الحياة بدأت تبتسم لها من جديد بعد أن تزوجت بناتها واطمئنت علي مستقبلهن، لكن لم تمضي شهور قليلة إلا وبدأت مشاكل الابنة الصغري من جديد فزادت مشاكلها مع زوجها، حتي بعد أن رزقها الله بمولود لم يتغير الحال وظلت علي عنادها حتي انتهي الأمر بينهما بالطلاق. لتعود إلي والدتها بمشاكلها ومسئوليتها بل وتحمل علي كتفها طفلا لا ذنب له في الحياة سوي أنه ابن لأبوين كان عنادهما أكبر من اهتمامهما بتوفير حياة هادئة ومستقرة له. سرعان ما تزوجت الابنة من جديد لتترك ابنها لأمها وذاقت الأم الأمرين بين ابنتها التي تركت لها طفلا لا حول له ولا قوة وأبا يرفض الانفاق عليه وأمام استهتار ابنتها وجبروت طليقها وانشغال كلا منهما بحاله، وتهربهما من مسئوليته، فلم تجد الأم بصفتها جدة للطفل سوي اللجوء إلي المحاكم للحصول علي نفقة للطفل تعينها علي تربيته. فأقامت دعوي أمام محكمة الأسرة التي حاولت الوصول إلي اتفاق ودي مع الأب لتقرير نفقة للابن ولما فشلت تلك المحاولات تم رفع قضية نفقة للصغير، وحكمت المحكمة بإلزام الأب بأجر حضانة للصغير يدفع للجدة باعتبارها الحاضنة للطفل ومن يقوم بالاهتمام بشئونه بعد أن تخلت أمه عنه وأيضا أجر مسكن للطفل، وذلك لأن أجر السكن من عناصر نفقة الصغير علي أبيه شرعا. اللواء الإسلامي المعروف أن نفقة الأبناء واجبة علي الآباء ولها سند ثابت من الكتاب والسنة والاجماع والعقل، فأما الكتاب فقوله تعالي: "والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلي المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف"، ومن السنة النبوية قول النبي صلي الله عليه وسلم لهند امرأة أبي سفيان "خذي ما يكفيك - أي من مال أبي سفيان - وولدك بالمعروف"، وأما الاجماع.. فقد قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم علي أن علي المرء نفقة أولاده الأطفال الذين لا مال لهم، وأما المعقول فلان ولد الإنسان بعضه، وهو بعض والده، فكما يجب عليه أن ينفق علي نفسه وأهله كذلك يجب أن ينفق علي بعضه، ولأن الانفاق عند الحاجة من باب احياء المنفق عليه، والولد جزء الوالد واحياء الوالد نفسه واجب كذلك احياء جزئه. مني محمود