منذ اللحظة الأولي نوقن من اسمها "شارع الخلا" أنها رواية تنتصر وتنتمي للمكان انتماء مطلقا، وإذا علمنا أن هذا المكان واقعي بالفعل، فهو شارع في مدينة المنصورة، لكنا نقر بأن واقعية المكان تدخل الكاتب في دوامة من الأسئلة، فمثلا هل استطاع الكاتب ابراز أبعادا أخري وفضاءات آخري تنبثق من حيز هذا المكان للتغلب علي الرؤية المعروفة سلفا لدي القارئ؟ وهل للخيال دور داخل محدودية المكان؟ وهل يفرض المكان لغة معينة علي النص إيمانا بهذا القول" الروائي لفظي متخيل، يحيل إلي نفسه، ولا يتأثر بمحاولات الروائيين تسميته باسم حقيقي بغية إيهام القارئ بمصداقية الحوادث وواقعية المجتمع الروائي"أسئلة تشع داخل شارع الخلا، أدرك حجازي بفنية في هذه الرواية أن " عبقرية المكان حقا، هي حيزه. " متن الرواية الراوي قد يكون شخصية حكائية موجودة داخل الحكي جواني الحكي يشارك في ما يجري فيها فهو يري سيرته " ونظرا لأن الكاتب يمس خيوط روايته "شارع الخلا" بسرد حقيقي لتجربة حقيقية كما جاءت علي لسان الكاتب نفسه " فؤاد حجازي "كنت وقتها عائدا من سجن الواحات الخارجة في أوائل الستينات، وقد فقدت أبي وعملي في وحدة مجمعة وعملت في عصارة قصب باثنتي عشرة قرشا يوميا، إلي أن يقول " ولقد ذهبت إلي منزل صاحب العصارة،ورأيت معيشته الفاخرة،ينام جانبا كبيرا من النهار،و يلهو ليلا،ويدخن الحشيش،ولا يحضر إلي المحل إلا عند إغلاقه،لاستلام المعلوم"،إلا أن سفينة السرد الفني قد أدخلتنا في عوالم ودروب متنوعة بشخصيات وأمكنة تنبثق من المكان البطل " شارع الخلا "ومحل عصير القصب"، فقصة شارع الخلا "الموجود بالفعل في مدينة المنصورة "هي قصة البطل "فوزي أفندي "الطالب الذي كان يحلم بأن يكمل التوجيهية، لكن توفي والده قبل ذلك بسنة واحدة وترك له أما وثلاث أخوات بنات،وليس لديهن أي مصدر للرزق، فتخلي فوزي عن دراسته ليعمل عامل ماركات في محل عصير قصب " عصير الشرفاء " لصاحبه "المعلم بدير" براتب قدره اثنا عشر قرشا، وهي لا تكفي حتي لإطعام أسرته،وما أن انخرط فوزي في هذا المجتمع الغريب حتي ودع أحلامه التي كانت الدراسة سبيلا لها، وتلون بلون المكان وشعبيته،وتبدلت أخلاقه لتواكب مجتمع الحارة الشعبية،فصار في دروب ومتاهات مابين الفحش والابتذال في العاطفة،والسعي لحب البنات تعويضا عن آماله الضائعة " حلم الدراسة، والحب العفيف"، لكن ظل هاجس يلاحقه بضرورة أخذ الثأر من دنيا الفقر، فاشتعلت نفسه بالعبث بصندوق الماركات ومحاولة سرقة بعض المال لزيادة راتبه إلي أربعة عشر قرشا "ذلك الطلب الذي رفض المعلم بدير الموافقة عليه"،حتي يؤهله ليكون إنسانا مستورا ولو بقدر يسير، فالرواية تنتصر لفكرة القهر الاجتماعي والانكسار الروحي المتمثل في فوزي الكادح الفقيرفي مقابل الغني والراحة لدرجة ضياع المال في شرب الحشيش والسهر. الظلال الوصفية للمكان اعتمد حجازي في تشييد المكان الروائي في شارع الخلا علي عدة محاور كلبنة أساسية لتقريب الحدث للقارئ، منها المشهد الوصفي للمكان، وكذلك الصورة الفنية،والرمز، وكلها روافد تنبع من فضاء المكان كعدسة تصور الواقع والخيال كالأتي: 1-"الوصف" آمن حجازي " بأن الوصف يجعلنا نقف علي الصور الطوبوغرافية للمكان والتي تخبرنا عن مظهره الخارجي "، فرسم الإطار العام والخلفية التي يستند عليها سرده،وأفاض في رسم الملامح الدقيقة لشارع الخلا بكل تفريعاته وشوارعه الجانبية وتقاطعاته مع الشوارع الأخري مثل شارع العباسي وسوق الحدادين متخذا من نواته المكان البطل هنا " دكان عصير الشرفاء الذي يعمل فيه فوزي أفندي " نقطة ارتكاز لتدور دوائر الوصف حولها، واصفا مكانه بالمركز الإستراتيجي، الذي يمثل تجمع الكثير من المارة التجار والفلاحين والأطباء والطلاب الذين يتواجدون في شارع الخلا لوجود المدارس والمستشفيات والأسواق الرئيسية، وإيمانا بأهمية المكان،فقد خصص حجازي لهذا الوصف ما يقارب خمس صفحات "ص 2-6 "، مؤمنا برمي ظلال هذا كله علي أبطاله وسرده،، وعزف علي تيمة تقسيم المكان الروائي إلي بعد جغرافي وبعد نفسي وبعد اجتماعي وبعد هندسي وبعد تاريخي، لعرض قضيته، وبنفس انتماء اللغة الشارحة للمكان يصف شارع جامع القهوجي،وكيف يؤدي إلي شارع الخلا"ص 21 "ويصبغ وصفه النوراني للمكان بصبغة الجلال الروحي لتطهير النفس بما يتناسب مع شارع الشيخة عائشة " وران علي المكان جلال وكمال " ص 55" ولأن المكان ينشر أشعته وتأثيره علي الشخصيات الساكنة فيه، فقد جدل حجازي طبائع الفرد اليومية بطبيعة المكان، فتجلت علاقة التأثير والتأثر، وما لها من دلالة إجتماعية من حيث طريقة التعامل واكتساب الخبرات " فكما يتخذ المكان دلالته التاريخية والسياسية والاجتماعية من خلال الأفعال وتشابك العلاقات، فإنه يتخذ قيمته الكبري من خلال علاقته بالشخصية "، فبرع في تجسيد شخصيات المكان بدقة تجعلنا ندرك ما يصبغه المكان علي روح من يعاشره فترة زمنية،كوصفه لهيئة" المعلم بدير" صاحب محل عصير الشرفاء"رقبة قصيرة، عينان ضيقتان أديمهما عكر بلون عصير القصب.." ص 19" ، ووصف أخيه الأصغر خليل " محني كخطاف اللحم ص 31، وأفاض وأبدع في وصف المرأة بما لها من دلالة إجتماعية ترتبط بنوع المكان كوصفه لفتاة الكيس والمعلمة نجية " جسمها المكتنز شعرها مهمل في ضفائر غير منسقة.." ص 35 0، و قد تطرق حجازي لوصف المواد الحسية التي ترتبط نفسيا بالمكان، فاشتعل المكان بوصف الروائح الحسية " كرائحة السردين الطازج والذرة المشوية والبن المحمص والبسطرمة و..." ليؤكدحقيقة مدي التأثر الطبيعي بالمكان حتي من الناحية الحسية. 2-"الصورة الفنية " يلجأ حجازي لوصف المكان بطريقة غير مباشرة لا لرسم إطاره الخارجي، بقدر ماهو تفاعل مع خيال المتلقي حتي يأنس طبيعة المكان ويشاركه الحدث عبر الصورة الفنية التي "هي نتاج لفاعلية الخيال، وفاعلية الخيال لا تعني نقل العالم أو نسخه، وإنما تعني إعادة التشكيل،واكتشاف العلاقات الكامنة بين الظواهر،والجمع بين العناصر المتضادة أوالمتباعدة في وحدة، ويتجلي ذلك عبر صور فنية وخيالية كلوحة بديعة تقتل ملل وغربة الرسم التقليدي للمكان الواقعي، كتشخيصه لشارع العباسي " كان شارع العباسي بجبروته نائما "ص 55، ووصفه لشارع الشيخة عائشة "برزت المآذن متطاولة إلي السماء في حياء وخفر"ص55، ووصف المخزن " تطل من بينه" الطوب الأحمر" المونة كألسنة شامته " ص 104. 3-"الرمز" يظل الرمز في الرواية منطقة استكشافية تحتاج إلي عقل تأويلي وفضاء يسمح للقارئ بحرية التجوال عبر دروبه، فمن الممكن أن تأول كل مسمي حسبما رسم له السرد طريقه"وعادة ما يرتبط المكان علي مستوي الرمز ببعض المشاعر والأحاسيس، بل ببعض القيم السلبية أو الإيجابية" ويطل الرمز علي استحيائه ملازما للمكان عبرمشاهد سردية تعبر عن الفترة الزمانية المعاشة لبطل الرواية فوزي أفندي، ورغم عزوف السيل السردي عن التصريح بأي حقيقة جلية للزمن انتصارا للقضية الإجتماعية إلا إننا ندرك ذلك من خلال مفاتيح نادرة نثرها الرواي داخل أروقة شارع الخلا، كعملة القروش المتداولة، وإصرار المعلم بدير علي الإحتفاظ بتعليق صورة مرسومة للزعيم جمال عبد الناصر مصافحا للرئيس السوري شكري القوتلي يحيط بهما علم الجمهورية في محل العصير، ورفضه للاعتراف بانفصال سوريا عن مصر"ص2"، بالإضافة إلي معرفتنا زمن صدور الرواية " أكتوبر "1968"، هي إذن في أواخر الستينات وما لهذا من دلالة نفسية واجتماعية علي الشخصيات والجو العام للرواية، كرفض المعلم بدير قراءة الأخبار السياسية في الجرائد، فالامتناع عن تبني الموقف السياسي قد يكون هو نفسه أكبر موقف سياسي لإدراك طبائع الأحوال بدرجة كبيرة، لدرجة العزوف عنها،رفضا أو مللا أوكرها. فمنذ اللحظة الأولي يشعرك الكاتب بأن مصر كلها تمر و تعيش داخل شارع الخلا ومحل عصير الشرفاء"ومن الممكن تأويل وصفه لمكان المحل في الرواية " فمحلنا مركز استراتيجي يندر وجود مثله، من يسيطر عليه يسيطر علي المنطقة بأكملها " ص 3"،بأنه رمز حقيقي لمكانة مصر بين الدول، أما عن الرمز"المرأة" فاللمكان أثره في صبغة الرمز بدلالة اجتماعية خاصة، فكل امرأة عشقها فوزي تسقط لك رؤية وتمني وحلم معين، فسهير طالبة الجامعة البنت المثقفة ترمز "للأمل والعلم والمكانة الاجتماعية الراقية و" البنت لا إله إلا الله" بنت بائعة الفاكهة، ترمز للفقر و الإبتزال و كأن الراوي بتسميتها الغربية هذه علي لسان العمال، يصرح بالتسليم بأمر الله في وجودها الدائم بحال واحدة،وهناك العديدات من النساء، كالمعلمة نجية وحمدية بنت بائع البخور والراقصة، أماعن المعلم بدير صاحب محل عصير الشرفاء، فمن الممكن تأوليه لتلك القوة الجبارة التي تتحكم في الرزق، وتتقلب طبقا لمصالحها، فهو يقدر فوزي ويدافع عنه ويخرجه من السجن، ثم يشك فيه، ويأتي بفتاة الكيس لتستلم مكانه علي بنك الماركات، فهو العين الساهرة عبر تحديد " الماركات للعمال"، بينما يأتي " حلم فوزي " الكابوس " الذي رآه في المنام رمزا إلي كافة الاضطرابات النفسية والإنكسارات الحياتية التي يمر به، أما عن النهاية التراجيدية الممتدة للرواية فباب التأويل مفتوح إلي ما لا نهاية، فالمنبر في جامع الكناني هو الملاذ الأخير والأمان لفوزي، فقد صدم فوزي بعد رؤيته لخليل وهو يبكي،وينعي حظه بضياع حبه نظرا لخطبة حبيبته لغيره، فبكاء خليل الأبله جعل فوزي يناجي نفسه بذهول، أمعقول لهذا الأبله قلب،وهدف !، فما كان من فوزي إلا أن يلجأ إلي المنبر في جامع الكناني، وينام بجواره،ليشعر بالاطمئنان الذي يجعله رافضا ومقيّما ونادما وساخطا علي حياته التي بدت تافهة أمام هدف وحب خليل الموصوف بالأبله،وقد يكون هذا اللجوء وقفة كبري مع النفس لتغير منهج الحياة بأكمله، فيودع الماضي وداعا نفسيا، وقد يؤول يأسا واستسلاما للرقدة الكبري ويكون وداعا حقيقيا أخيرا بقوله" استمرأ جسدي الرقاد.ولم أرد علي نداءات العمال تطلب مني الإسراع ونويت أن أظل كما أنا حتي ولو جاءني ملاك من السماء" .