اليورو يهبط مع تهديد ترامب بفرض رسوم جمركية على الاتحاد الأوروبي    أونروا: سكان غزة بلا استثناء يتم تجويعهم بعملية ممنهجة وخطيرة.. وكبار السن يموتون لعدم توافر الدواء    وكالة أممية: نهب 15 شاحنة مساعدات في قطاع غزة    جوتيريش: المساعدات الإسرائيلية ملعقة صغيرة.. وغزة تتعرض للتجويع تحت أنظار العالم    على حساب الزمالك.. الأهلي بطلا لكأس أفريقيا للأندية أبطال الكؤوس    انخفاض القيمة السوقية لشركة آبل دون مستوى 3 تريليونات دولار    بسبب توتنهام.. مدرب كريستال بالاس يكشف حقيقة رحيله نهاية الموسم    أسعار مواد البناء مساء اليوم الجمعة 23 مايو 2025    استقبال حافل لفيلم "الحياة بعد سهام" في عرضه الأول بمهرجان كان    موجة شديدة الحرارة تضرب البلاد.. تعرف على حالة الطقس المتوقعة غدا    تسيير قافلة دعوية مشتركة بين الأزهر والأوقاف والإفتاء بشمال سيناء    ما حكم الكلام فى الهاتف المحمول أثناء الطواف؟.. شوقى علام يجيب    الترجي التونسي يحصد برونزية بطولة أبطال الكؤوس الأفريقية لكرة اليد    من مصر إلى إفريقيا.. بعثات تجارية تفتح آفاق التعاون الاقتصادي    انطلاق امتحانات العام الجامعي 2024–2025 بجامعة قناة السويس    كم تبلغ قيمة جوائز كأس العرب 2025؟    تراجع أسهم وول ستريت والأسواق الأوروبية وأبل عقب أحدث تهديدات ترامب بفرض رسوم جمركية    محافظ البحيرة: إزالة 16 حالة تعدي على أملاك الدولة بالموجة ال 26    ضبط كيان صناعي مخالف بالباجور وتحريز 11 طن أسمدة ومخصبات زراعية مغشوشة    عاجل|بوتين: مستقبل صناعة السلاح الروسية واعد.. واهتمام عالمي متزايد بتجربتنا العسكرية    يختتم دورته ال 78 غدا.. 15فيلمًا تشكل موجة جديدة للسينما على شاشة مهرجان كان    «المشاط» تلتقي رئيس المؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة لبحث سبل تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين الجانبين    مستشفى الحوض المرصود يطلق يوما علميآ بمشاركة 200 طبيب.. و5 عيادات تجميلية جديدة    أمين اتحاد دول حوض النيل يدعو للاستثمار في أفريقيا |خاص    بين الفرص والمخاطر| هل الدعم النفسي بالذكاء الاصطناعي آمن؟    القاهرة 36 درجة.. الأرصاد تحذر من موجة شديدة الحرارة تضرب البلاد غدًا    الخطوط الجوية البريطانية تعلن وقف رحلاتها إلى إسرائيل    بث مباشر نهائي كأس مصر سيدات - الأهلي (1)-(0) دجلة.. جووول أشرقت تسجل الأول    حزب الإصلاح والنهضة: نؤيد استقرار النظام النيابي وندعو لتعزيز العدالة في الانتخابات المقبلة    هل يحرم على المُضحّي قصّ شعره وأظافره في العشر الأوائل؟.. أمين الفتوى يوضح    رئيس "التنظيم والإدارة" يبحث مع "القومي للطفولة" تعزيز التعاون    إيفاد قافلتين طبيتين لمرضى الغسيل الكلوي في جيبوتي    تقديم الخدمة الطبية ل 1460 مواطنًا وتحويل 3 حالات للمستشفيات بدمياط    جامعة هارفارد تقاضي إدارة ترامب بسبب حظر الطلاب الأجانب    الزمالك يعلن جاهزيته للرد على المحكمة الرياضية بعدم تطبيق اللوائح فى أزمة مباراة القمة    ندوة توعوية موسعة لهيئة التأمين الصحي الشامل مع القطاع الطبي الخاص بأسوان    جوارديولا: مواجهة فولهام معقدة.. وهدفنا حسم التأهل الأوروبى    أحمد غزي يروج لشخصيته في مسلسل مملكة الحرير    "طلعت من التورتة".. 25 صورة من حفل عيد ميلاد اسماء جلال    قصور الثقافة تعرض مسرحية تك تك بوم على مسرح الأنفوشي    ضبط مدير مسئول عن شركة إنتاج فنى "بدون ترخيص" بالجيزة    ننشر مواصفات امتحان العلوم للصف السادس الابتدائي الترم الثاني    خطيب المسجد النبوى يوجه رسالة مؤثرة لحجاج بيت الله    ضمن رؤية مصر 2030.. تفاصيل مشاركة جامعة العريش بالندوة التثقيفية المجمعة لجامعات أقليم القناة وسيناء (صور)    بدون خبرة.. "الكهرباء" تُعلن عن تعيينات جديدة -(تفاصيل)    البريد المصري يحذر المواطنين من حملات احتيال إلكترونية جديدة    "نجوم الساحل" يتذيل شباك التذاكر    محافظ الجيزة: الانتهاء من إعداد المخططات الاستراتيجية العامة ل11 مدينة و160 قرية    وزير الزراعة يعلن توريد 3.2 مليون طن من القمح المحلي    زلزال بقوة 5.7 درجة يدمر 140 منزلا فى جزيرة سومطرة الإندونيسية    الدوري الإيطالي.. كونتي يقترب من تحقيق إنجاز تاريخي مع نابولي    ضبط 379 قضية مخدرات وتنفيذ 88 ألف حكم قضائى فى 24 ساعة    رمضان يدفع الملايين.. تسوية قضائية بين الفنان وMBC    يدخل دخول رحمة.. عضو ب«الأزهر للفتوى»: يُستحب للإنسان البدء بالبسملة في كل أمر    الهلال يفاوض أوسيمين    دينا فؤاد تبكي على الهواء.. ما السبب؟ (فيديو)    أدعية مستحبة في صيام العشر الأوائل من ذي الحجة    خدمات عالمية.. أغلى مدارس انترناشيونال في مصر 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في رواية ( للعشق أوجاع وهذه منها)
نشر في شموس يوم 10 - 11 - 2012

الدراسة المصاحبة للرواية ، الصادرة عن الهيئة العامةللكتاب 2012م
الأديب محمود رمضان الطهطاوي روائي متمرس صاحب خط واضح في أعماله التي يميل من خلالها إلى الاستبطان تجربةً والإدهاش دلالة؛ فهذه سمة انتظمت تجربته بتمامها وارتصفت في سَلْكِهَا أعماله جلها، تلك الأعمال التي تنوعت ما بين المجموعات القصصية والروايات التي تعددت أساليبها وتنوعت تجاربها بدءاً من روايته « بئر العسل »، وحتى رواية « للكبار فقط »، مروراً بعدد من الروايات : « للعشق أوجاع وهذه منها »، « أسيرة »، « شجرة الأربعين »، « رايحين على فين .. »؛ وكلها تجارب تأبى إلا أن تشي بكاتب شديد الحساسية والولوع معاً بموضوعه وفكرته وإطاره، ثم هو يعشق كتابته وكأنها ابن من أبنائه وفلذات أكباده، وهي كذلك، فكل سطر يكتبه محمود الطهطاوي هو نتاج صريح ومباشر لوجدانه يمزجه بِذَوْبِ روحه ويُجَمِّلُه بعلاقته بواقعه بحسب رؤيته هو كاتباً وإنساناً لهذا الواقع، والقريب من محمود الطهطاوي سيكتشف أنه في الدراما السوداء واقعي وفي الدراما النفسية واقعي وفي الفانتازيا واقعي؛ ثم إنه مثلاً في روايته « للعشق أوجاع ... » يقدم تفسيراً فانتازياً لموضوع رواية « أسيرة »، وفي « أسيرة » يقدم تفسيراً موضوعياً لفانتازيا « للعشق أوجاع »؛ إنه العالم الذي يلتقطه من شارع المكان ويدخل به قصر الفن، فيحوله إلى بنية جمالية يرضاها هو لما اجتلب ؛ مع تنوع اتجاهاته الموضوعية والفنية والإطار الفكري لنتاجه ؛ فقد قدم الطهطاوي رواية الشخصية في « بئر العسل »، و« رايحين على فين »؛ ورواية المكان سواء الإطار البيئي كما في « رايحين على فين »، أو البيئة الأيديولوجية للمكان كما في « شجرة الأربعين »، ورواية الأشياء والهامش مثل « للعشق أوجاع »، ورواية الموضوع مثل « للكبار فقط »، ورواية المثيولوجيا كما في « شجرة الأربعين » ... إلخ .
هل يكتب محمود الطهطاوي الرواية ..؟.
كانت العقيدة الكلاسيكية القديمة ترى أن الفكرة الروائية العظيمة تتطلب أحداثاً كبرى، وهذه الفكرة أطلقها وناصرها دعاة الشكل والمضمون؛ حتى نشأت نماذج روائية قادرة على كسر هذه القاعدة والاستعاضة عن فكرة التوسيع الكمي بفكرة الاتساع الدلالي للأنطقة المتاحة وتقليب المفاهيم على أوجهها، حتى تصل التجربة الضيقة لمرحلة الثراء اللازمة التي تملك القدرة على تعويض ضيق الموضوع بسعة الفضاء الدلالي، وقد استخدم التجريب الروائي لذلك أساليب متعددة من بينها : الفانتازيا والتجاوز الحسي، والتراسل والاستنطاق، وهي مفاهيم استطاع الروائي محمود الطهطاوي تجسيدها في رواية « للعشق أوجاع .. وهذه منها »، مثلاً؛ لكن يبقى السؤال مطروحاً، هل تعد النماذج التي يكتبها محمود الطهطاوي روايات، وبصيغة أخرى : هل يكتب محمود الطهطاوي الرواية بدلالة هذه النماذج المطروحة بين أيدينا ؟.
سؤال مثير؛ باعثة الرئيس هو تلك الكتابات التي وجدت في الحديث عن القصر والطول والبعد الكمي للعمل ساحة مقدسة للاستطراد، لا يرتضيه تعريف فورستر للرواية بأنها : « قصة خيالية مثيرة ذات اتساع معين »، هذا الاتساع يبدأ من الحد الذي يمكننا أن نرى أنه تجاوز القصة القصيرة، وارتضى كاتبه له أن يسميه رواية لا قصة طويلة ..، ففورستر لم يضع حداً، وإنما اكتفى بذكر الاتساع الذي يتعلق بالكم في أدنى درجاته؛ ويؤكد على حرية الإطار الكمي تعريف هنري جيمس للرواية بأنها صورة حية للحياة؛ كما أن ماكلر وسونتز من دعاة الكلية الاندماجية « الجشطالت gestalt »؛ يريان أن الإبداع فعل ينتج عنه فكر جديد، أو رؤية مكتملة التكوين، يأتي إلى الفرد المبدع بوصفه ومضة، هذه الومضة تعتمد في منطلقها ونتاجها على الخيال لا على المنطق أو العقل .
ومن تعريف فورستر وهنري جيمس للرواية، ورؤية ماكلر وسونتز للإبداع، سنظفر بالإجابة الملائمة لسؤالنا، حيث إن القاعدة المستنتجة من التعريفين والرؤية الجشتالتية للإبداع، هي أن كل قصة نثرية ذات اتساع ما، تقدم صورة من صور الحياة، يمكن أن نطلق عليها مسمى رواية، وهذا ما تميل إليه النفس؛ كما أن العصر الآني بإيقاعه السريع صار عثرة في طريق الروايات الطويلة، فالمتلقي الآن بحاجة إلى نص يمكنه الانتهاء منه دون أن يمثل عبئاً على وقته وحياته، وبالتالي فالمعوِّل في الرواية الجديدة لا على الطول ولا القصر، وإنما المعول الحقيقي على مدى استيفاء الرواية للشروط الفنية الأولية لهذا الفن، أخذاً في الحسبان التبدلات والتحولات الفنية والذوقية التي طرأت على هذا الفن أو الأساليب الفنية التي تطورت إلى صور أخرى؛ إضافة إلى الشروط الكلاسيكية التي وضعتها الرواية الكلاسيكية ولما تزل صالحة إلى اليوم، من بينها : الحكاية والشخصيات والحبكة الروائية وأسلوب واتجاه الخيال، والنبوءة أو الشفافية prophecy ثم الإطار والنموذج، والنطاق المكاني والحدود الزمانية لوقوع الأحداث.
المعالجة الروائية عند محمود الطهطاوي :
لقد عالج محمود الطهطاوي عدداً من التجارب التي تطلبت قدرات فنية متغايرة، وكأنها تختبر قدراته روائياً، فكان روائياً جديراً بتجاربه، حيث استطاع أن ينهج الأساليب المناسبة لكل موضوع، فعالج تجاربه برؤى نفسية واجتماعية وتجاوزية، منها ما عالجه من الداخل من خلال النطاق البيئي، ومنها ما عالجه من خارج النظرة النفسية، وتزيا عند الحاجة بالأقنعة الملائمة لمعالجة التجربة المطروحة .
ومما يشار إليه ويُشاد به عند الأديب محمود الطهطاوي : اقتداره على خوض تجاربه المغايرة للرصد الوصفي الذي يتسيد الساحة الروائية الآن، فعالج تجربته بأسلوب الفانتازيا في « للعشق أوجاع وهذه منها »؛ كما اجترأ على معالجة موضوع شبه مستحيل ( ولا مستحيل في الفن ) في رواية « للكبار فقط »، واستطاع أن ينجو من البعد التقريري الذي تعلو نسبة احتماله في هذا الموضوع الذي لا يمكن تصوره فنياً إلا بعد قراءة الرواية فعلاً؛ وإن كان النص محوجاً لتكثيف دور الشخصيات الثانوية والتجارب الهامشية في التجربة، فمن يعرف بموضوع الرواية سيرى أنه موضوع نقدي يعيدنا إلى أساليب المقالة القصصية القديمة، لكنه نجح في صوغه في قالب فني يمتلك الرؤية والأدوات المناسبة فيه الحبكة والشخصيات والتصعيد الدرامي، محولاً استدعاءاته النصية إلى بنى تناص تمد العمل وتُقَوِّيه .
تجربة للعشق أوجاع :
في رواية « للعشق أوجاع هذه منها »؛ جعل الكاتب قسم المبتدأ مقصوراً على البعد الغنائي من التجربة، حتى صراعه كان صراعاً من خارج الذات، صراعاً يستطيع التغلب عليه والسيطرة على تحولاته واحتواءه؛ لكن القسم الآخر وهو قسم الخبر تحول إلى صراع داخلي مؤثر بشكل مباشر وحقيقي على ذات العاشق وعلاقته بالمعشوقة، فهو موزع بين نداء الجسد وتسامي الروح، انعكس هذا الصراع على العلاقة بين الشمس والقمر، وبلغ الذروة للحد الذي جعل الروح تقنط من إمكان وجود حل لهذا الصراع : « بهذه الطريقة لن نتفاهم، ولن نلتقي في طريق واحد » ( للعشق أوجاع ص 55 )؛ وهو أمر ضد الحياة القويمة لشخصية العاشق المحوجة إلى الجسد والروح معاً؛ ثم يطور الصراع في الجزء السادس من قسم الخبر ليصل إلى العلاقة ببين العاشق والعاشقة .
وقد حاول الكاتب بفنية مميزة أن يختزل الزمن في الرواية إلى لحظة في المقطع الثامن من القسم الثاني ( الخبر )، وكنت أود أن تنتهي الرواية عند لحظة التماس الثانية بين أصابعهما : العاشق والمعشوقة، لكن الكاتب آثر أن يستطرد في سرد أحداث لاحقة في الرواية التي تعتمد على الفانتازيا، ليصل بسرده إلى نهاية ذات بعد كلاسيكي، حيث وارت الأرض جسديهما واحتضنت الرياح روحيهما، ربما لأنه يعلم مسبقاً أنها نهاية لن يصل إليها خيال التلقي الذي يجنح لاتصال الفرح لا النهايات المحزنة .
لقد حاول محمود الطهطاوي أن يقدم في روايته « للعشق أوجاع » دلالة الدهشة في سياق مختلف، يذكرنا برواية روب جرييه « المتلصص Le Voyeur »، حيث يرى الناس بوصفهم أشياء بين الأشياء، ولكن تأثر الطهطاوي هنا تأثر عكسي، حيث حاول جهده أن يحجم انطلاقه حفاظاً على القيم الموروثة والجذر الأهم للخُلق الجمعي للمجتمع العربي بعامة أو لبيئة الصعيد بخاصة ..، إلى حد ما .
والكاتب يؤكد في نصِّه على الاتجاه الصوغي الواعي منذ الإهداء الذي قصد فيه إلى بنيات صرفية واضحة، حيث أهدى روايته إلى « المفتونة »، وهي صيغة اسم مفعول، ثم وصفها بأنها « العاشقة »، وهي صيغة اسم فاعل، ثم جعل من المراوحة بين اسمي المفعول والفاعل عماد التسمية التعريفية لشخصيات الرواية، إضافة إلى قسيمتيهما ضمائر الغيبة منفصلة أو متصلة؛ فسمى أو وصف شخصياته ب : المدهوش – الشايف – العارف – المسروق – المتابع؛ كما استخدم هو وهي وهم، ثم إضافة إلى هذين القسمين – الصيغ الصرفية والضمائر - استخدم للتعريف بشخصياته أسماء الإشارة إضافة إلى الفعل المتصف به هذا الشخص الذي يصير ضميره الضمني فاعلاً له بالضرورة، بوصفها صيغة بديلة عن اسم الفاعل مثل « الذي نظر » .
وقد جاءت الرواية في فصلين، أولهما المبتدأ، والآخر الخبر، واستهلهما بمقطعين نثريين من نشيد الأنشاد، كما قسم كل فصل إلى مقاطع مرقمة الأول بلغ اثنتين وعشرين مقطعاً والآخر جاء في أحد عشر مقطعاً وكأنه يقصد إلى أن يكون عدد المقاطع في الفصل الثاني نصف عدد المقاطع في الفصل الأول؛ وقد رأى الكاتب أن يضيف إلى روايته قبل استهلالها مقطعاً تنويرياً دالاً استمده من رواية قلق سري للأديبة فوزية رشيد .
لقد اعتمد الكاتب في روايته على عدد من الفنيات من بينها فنية الاسترجاع ( الفلاش باك Flashback ) كما استخدم فنية لغوية مميزة هي فنية المتقابلات التي تخلق نوعاً من الحوارية المقارنة في الصوغ : الأرض والسقف – الباب والشباك .. إلخ، كل ذلك ينتظمه فعل واحد ..: « كله متجه ببصره وبصيرته إلى العينين »، مما يؤكد أن المسألة أكبر من الإعجاب الخارجي وهذا يبرر أنسنة الأشياء، ومحبة البطل غير العادية لصاحبة العينين .
ولعل عناية الكاتب بما يسمى بأنسنة الأشياء، كان من أبرز السمات الفنية لهذه الرواية؛ فالباب والنافذة والحوائط وسقف الحجرة ليست أشياء مجردة تحيط بالحدث؛ وإنما هي شخصيات في بنية الرواية لها أدوارها، ربما تصل إلى حد الفانتازيا، فمثلاً باب الحجرة يتأمل جمال السيدة بعينين تنطلق منهما الرغبة ..، ثم يُغالي الكاتب في وصف المشهد بمحاولة تعميقه بالحوار القصير، حيث يقول الباب بعد أن تأخذه الرغبة ويستبد به الشبق تجاه السيدة : « هيت لك !! »؛ فينبت السؤال ما الذي يمكن أن تفعله امرأة جميلة بباب لا يستر ..، سنكتشف أن كل هذه الأشياء التي أسبغ عليها الكاتب السمة الإنسانية وكساها بالبعد الوجداني المتفاعل مع جمال السيدة الجميلة الفاتنة ليس سوى محاولة إسقاط المشاعر الشخصية للبطل الراوي على الأشياء من حوله، وهي بالضرورة مشاعر شبقة صادرة عن شخص بهتته النظرة واستعمرته الأنثى وذاب في عينيها حتى « انشطر إلى نصفين » – بتعبير الكاتب – ثم يرصد المؤلف حال القسمين : « نصف لم يستطع مقاومة النظرة، والنصف الثاني توارى غرقاً في احمرار الخجل »، وهو وصف مُجمل يحاول الإخفاء بقدر ما يقدم الكشف والاستقصاء ..، فأي نصف لم يقاوم ؟، وأي نصف توارى غرقاً وخجلاً ..؟ سؤال غير مطلوب من الكاتب أن يجيب عنه، ليس بدعوى إحكام فنية الصوغ بقدر ما هو حالة الصوغ نفسها التي يعتمد الكاتب فيها منطق الفانتازيا ولا منطقية الحلم، وهي في ذاتها منطق الصوغ المنتظم الذي اجتهد الكاتب فيه؛ حتى جعل هذه الفانتازيا واللامنطقية ضمن منطق إسقاطي من داخل النص، وتأليفي من خارج النص، أو من حيث كلية النتاج النصي؛ فالعينان الفاتنتان لهما عند البطل سلطة مطلقة، آخذة قاهرة، لكنها عند الكاتب سلطة تحت السيطرة إذ استطاع الكاتب إخضاعها فأنهاها ليحل محلها سلطة من نوع آخر تقوم بفنية الصوغ داخل التجربة، فقد أنهى الكاتب سلطة العينين المطلقة ( بوصفهما الجمال الجزئي ) لتظهر إلى جوارهما في النص سلطة الجمال الكلي، وهو نوع من أنواع ترقية الحالة النفسية لدى البطل بوساطة الكاتب، وإن بدت إزاحة للسلطة الساكنة للجمال على البطل بإحلال الصراع الذي انطلق بين البطل وبين الأشياء من حوله، وقد استهل البطل الصراع بالسؤال : « لماذا يبحلقون فيها هكذا ؟ »؛ والسؤال يعني البحث عن استكمال نقص معرفي، أي أن البطل يستشعر نقصاً في نفسه تجاه من يحب، أو تجاه تلك الجميلة نفسها أو تجاه فتنتها، والاستكثار ربما يعني الإحساس بالقلة، والقلة هنا تعني عدم بلوغه في نفسه مقداراً من الإعجاب يرضى هو عنه تجاهها؛ فهي دائماً في عينيه أكبر من كل إعجاب، ويدل على ذلك تفصيل أنماط النظر وأنواع الإعجاب : « كل حسب وجعه »؛ فلما يعود البطل للعينين؛ نجده قد تخلص من أسر المراقبة والملاحظة، فيصفهما وصفاً وجدانياً ينم عن رؤيته الخاصة لا الواقعية لهما، بما يوقعه في تناقض نفسي، فبينما هو يحدق باستلاب في هاتين العينين، نجده يعول على من ينظر إليهما : « الكل يبحلق .. الكل نزع برقع الحياء .. »، دون أن يسأل نفسه هل نزعه هو أيضاً عندما ( بحلق ) فيهما أم لا ..؟!! .
عندما وجد ( الناظر / البطل ) صاحبة العينين متجهة صوبه استفاقت روحه واعتدل ميزانه، صار عنتر زمانه / الرمز، قَوِيَ بعد وهن، كثر بعد قلة، وتفرد بعد ازدحام؛ فهو الفائز باهتمامها ونظرة عينيها ..، هو المعنِىُّ الوحيد بحوارهما الصامت ..، لكن ما الذي يفعله الظمآن عندما يغوص في جوف النهر وتحتضنه أعماق الماء سوى أن يغلق فمه مخافة الغرق ؟!!، هكذا فعل البطل، أغمض عينيه ليأسر بهما اللحظة ليحتبس داخلهما نظرة هاتين العينين الرائعتين، أغمض إغماض نشوة لا إغماض زهد – إغماض طمع ورجاء، لا إغماض انصراف وقلى، وفي كل الأحوال يغمره الاندهاش والذَّهَلُ، وهي الحالة نفسها التي دفعته لأن يفتح عينيه مجدداً ليستوثق لنفسه ويؤكد لروحه أنه واحد العينين وهدفهما، لكنه عندما تيقن انصرف من الجزء إلى الكل، من العينين إلى صاحبتهما : « شعر بالراحة وبنشوة تدغدغ جسده، وبأنه عنتر زمانه، عندما توغل في نظرتها الواعدة، ووجد عينيها مشرعتين تجاهه، تجاهه فقط، تبتسمان له وحده، تمنحانه الحنان وحده، تخترقانه وحده، تبثانه شعاعهما وحده، فقط دون غيره، فأغمض عينيه في نشوة، وكأنه غير مصدق ما يدور حوله، جال ببصره مرة أخرى وركز على شعاعهما فوجده مندفعاً تجاهه فقط، صرخ لذاته، في أعماقه : إنها تنظر لك وحدك .. !! » .
وفي الفقرة الثانية من القسم الأول من الرواية يبدو للوهلة الأولى أن الكاتب أسير لذلك التراسل، وتلك الأنسنة بين الأشياء، وأنه يسترسل ويستطرد في إعادة طرح الحديث عن نظرة هاته الأشياء إلى تلك الجميلة، والحقيقة أنه يدلف بنا إلى منطقة جديدة يتطور فيها الفعل، فتتطور الرؤية؛ ولكن المؤلف يحافظ على رومانسية الطرح وهدوئه، يدفعه حثيثاً صوب هدف يبدو جلياً أمامه لذا يجد مبرراً لهدوء نفسه وقرارها واطمئنان حالها .. ف ( الشباك ) يخرج من حالة النظر من بُعدٍ قريب إلى الدخول في حالة تفاعل مع تلك الجميلة، يبدؤها بالمداعبة، فللشباك يد من هواء تزيح خصلات شعرها المتهدلة فوق وجنتيها وجبهتها؛ ونلاحظ هنا عدة أمور من بينها تذكير الشباك وكان من الطبيعي أن يقول نافذة – كما نلاحظ استخدام المؤلف للفظ صفعها، وهنا قسوة ربما يرى البعض أنها لا تتواءم مع حالة المحبة وهي عكس ذلك تماماً، إنه نوع من الذود عن النفس وأشيائها، ولاطراد الأثر الرومانسي سنرى فيما بعد أن الصفعة تُسكر لا تؤلم، تُطرب لا تُوجع، فتدفع الشعر المتهدل للرقص، وهو ما دفع الباب إلى الغيرة، فهو الآخر قد تملكته النشوة التي كانت باعثاً لمناجاة الجميلة وبثها شوقه ولوعته : « امتلكته النشوة فأطلق صريراً سمعه الشباك »، وبدأ الصراع بين الشباك والباب؛ « فأحس بالحالة التي وصل لها الباب العذول، فكتم غيظه وصفعه بقذيفة هواء جعلته يُكبَّل في المزلاج .. ».
ولما بدأ الصراع بين الشباك والباب، دخل الهواء – رسولهما إلى الجميلة – حلبة الصراع مع ملاحظة نظرته الجزئية إلى الجميلة : ( الشعر الجميل – الوجه الملائكي ... ) وقد برر الصراع بعد الثورة بسؤال الهواء نفسه : « لماذا لا تكون لي وحدي .. ؟ أبثها شوقي .... »، وهنا اختلفت نظرته من الرؤية الجزئية بوصفها الواقع إلى الرغبة الكلية، أو ما يمكن أن نسميه التحقق الجزئي، وكلية الرغبة أو الطمع الكلي، فالهواء صار ينظر إليها بوصفها وحدة كلية مستعرضاً قدراته في بث المتعة إلى نفسها : « أداعبها وحدي، قادر وحدي على إمتاعها ومداعبتها، وبعث النشوة في كل مساماتها ».
وأشار الكاتب إلى شيء من الاستجابة أبدتها الجميلة لطموح الهواء : « يرى السعادة ترسم على شفتيها من فعل الهواء »، لكن الكاتب لم يوضح نوع تلك الابتسامة؛ هل هي ابتسامة ظفر ونصر أم ابتسامة انتشاء وخدر ؟، كما أنه يبني الفعل « رُسِمَ » إلى المجهول : تُرسم، دون تحديد فاعله، وهو نوع من تغييب الجميلة عن الفعل الذي هو إشارة إيمائية إلى رد الفعل، وكأنها لم ترسم الابتسامة بهدف محدد، وهو ما يدعمه تغييب الكاتب لنوع الدلالة في الابتسامة المرسومة؛ وهو بذلك يضرب فوق النص مظلة من واقعية الوهم حتى يظن معها القارئ أن الأشياء من طبيعتها الإحساس والتفاعل والصراع، بدليل أن إدراك حركية وتفاعل هذه الأشياء مشترك بين البطل ( الشايف ) والجميلة صاحبة العيون الآسرة والشعر المتهدل، ونلاحظ هنا أن هذه الأجزاء ليست - هنا في هذه الرواية العجائبية - أجزاء من كيان إنساني؛ بل شخصيات مستقلة قادرة على الفعل المؤثر الذي له القدرة على توجيه مسار الأحداث والتحكم في الشخصيات المجاورة؛ فمثلاً نرى أن المتابع قد همَّ أن يسير على الدرب الذي سلكه الهواء نفسه، ويفعل فعله، لكن عينيها أطلقتا عليه سهام المودة، فكشفت له عن شيء أحسه فاطمأن منتشياً؛ فأدخلته تلك النشوة إلى طور من الانفصال عن الوجود من حوله .
بدأت الفقرة الثالثة من القسم الأول بالحديث عن ذلك الولهان المتأمل لتصف حاله مع تلك الجميلة وتسلط الضوء بكثافة عليه وتعرض بعض ملامحه النفسية والوجدانية، ونلاحظ هنا، في تتالي الكادرات، أن المؤلف بدأ بصورة كلية شاملة ظهر فيها المتأمل الولهان مصوباً بصره صوب تلك الجميلة؛ بينما كل جزئيات الغرفة تفعل مثله متابعةً أحوال تلك الجميلة، ثم في الكادر الثاني ضيق المشهد ليبرز الصراع بين الشباك والباب، ثم محاولة دخول المتأمل في ذلك الصراع، قبل أن تطمئنه نظراتها إليه بالمودة، ثم في الكادر الثالث يعرض صورة أكثر تركيزاً، تُبرز صورة العاشق مع تلك الجميلة وكأنه يجتزئ من كل صورةٍ جزءاً يحوله إلى صورة يسلط الضوء عليها في الكادر التالي؛ « إنه يجد لها أكثر من وجه »: دلالة تجدد؛ وكأنه يقول إن وجهها مساحة من العطاء الجمالي لا ينفد منه السخاء والعطاء كألماسة مضيئة لكل وجه من أوجهها ضوء وجمال، وللتأكيد على تلك النظرة قاس ذلك على لوحة الموناليزا ( الجيوكاندا ) لليوناردو دافينشي .
البعد اللغوي :
يستخدم محمود الطهطاوي اللغة للتكثيف؛ إذ يمتلك الكاتب بوساطتها القدرة على التكثيف الرأسي للأحداث من خلال استخدام عبارات موجزة، يقول مثلاً : « سمع المتلصص؛ فتحول إلى كائن هلامي قميء .. »، ثم يعلق على هذا الرصد الوصفي التتبعي بقوله : « وكثرت الكائنات الهلامية »؛ وكأنه يضيف امتداداً وزخماً وازدحاماً إلى التجربة، وكأن المتلقي بوساطة هذه العبارة الموجزة المقتضبة يشعر بتزاحم الكائنات الهلامية على صفحات الرواية تكاد تتقافز خارج دفتيها، وتملأ المكان من حوله؛ لتضيف إلى البعد الفانتازي والعجائبي صيغةً جديدةً تكمن في التلقي بعد المعالجة، وكثرت مثل هذه التعبيرات واتخذت وجهات دلالية مختلفة، يقول مثلاً : « فانزوت الأرض وأقفلت فمها الجائع » ( للعشق أوجاع ص 23 )، ومنها قوله « بلادنا ركبتها العفاريت والمردة » ( للعشق أوجاع ص 74 )؛ وقد تضيف مثل هذه العبارات أو تتسع بحسب الحالة، وربما تصل العبارة إلى لفظ واحد مثل قوله : « توحدا » ( للعشق أوجاع ص 26 )؛ حيث جعل من هذا اللفظ خاتمةً للجزء الحادي عشر من الفصل الأول من الرواية، لفظ واحد جعله الأديب محمود الطهطاوي محملاً بشحنات دلالية كبرى، وأراد له ذلك في الصوغ، وقصد إليه، إذ جعله بعد جملة منتهية، وجعله على سطر مستقل .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.