مبتدأ: 1 بالكاد تفلح المرأة في المرور من باب المطبخ تتجه مباشرة إلي الطاولة الموجودة في الركن تسحب كرسيين من الكراسي المحيطة بها وتجلس عليهما تمد يدها إلي صحن الفاكهة وقبل أن تطرف عيني مرتين، تكون المرأة قد تناولت ثلاث تفاحات وقاربت علي إنهاء التهام الرابعة... لا أنتظر أكثر من ذلك أظهر لها نفسي. لايظهر علي وجهها أي أثر لدهشة تنظر إلي ملياً ثم تقول: "ؤأخيرا جئت"؟ أهز رأسي تكمل: "لم تتأخر كثيراً فقط عشرين سنة" أحس بالدماء تتصاعد إلي وجهي ومع ذلك أقول: "كيف حالك"؟ تجيب وهي مستمرة في تقشير تفاحة: "حالي هو حال أية واحدة تركها عريسها مع المأذون والمدعوين واختفي، ولم تسمع عنه من يومها". مطاطيء الرأس أرد: "جئت لأتأسف" ترتسم إبتسامة استهزاء علي وجهها ولاتقول شيئاً أقول: "ألن تسألي عن سبب اختفائي"؟ ترد وهي تأكل التفاحة التاسعة: "سألت كثيرا. سألت نفسي وسألت أبي وسألت أخوتي وسألت الجيران والأصدقاء والمعارف والأقارب والأغراب ثم توقفت عن السؤال.. ولن أبدأ ثانية "أهم بالكلام": ألا... "تقاطعني: "لا!" أقول: "ولا..." تقاطعني ثانية: "لا!" أعترض" "ولا حتي.." ترد": لا! والآن أرجوك أذهب! "أهز رأسي مستسلماً. أسير خطوتين صوب الباب ثم ألتفت وأسألها وأنا أبتسم إبتسامة بلهاء: "هلا غفرت لي؟" تهز رأسها بأسي "سؤال أخير. هل تسمحي لي بتفاحة؟". ترد بحسم وهي تلوح بالسكين: "بالقطع لا!". 2 يدخل الرجل الغرفة ويغلق بابها وراءه يخلع ملابسه ويظل بتلك الداخلية يقف أمام المرآة، ينظر، يتأمل، يبدي إعجابه بما يري بصوت مسموع يلقي بقبلة إلي إنعكاسه في المرآة ثم يخلع النظارة ويلقي بقبلة أخري. يقف بثبات، ينظر أمامه، يرفع يديه إلي أقصي مدي لهما ثم ينزلهما ويكرر الأمر وهو يعد: واحد، إثنان، ثلاثة، أربعة. وعندما يصل إلي عشرين يكون العرق قد غطي وجهه وجسده. يتوقف لحظة، يمسح العرق ثم يخلع الفانلة ويعاود رفع الذراعين وإنزالهما، هذه المرة مع القفز... يتصبب العرق منه أكثر وأكثر. يتوقف. لا أنتظر حتي يخلع قطعة ملابسه الأخيرة أخرج من تحت السرير "مساء الخير" يقفز الرجل قفزة عالية يصل بها إلي قرب السقف. يفعل ذلك وهو يصرخ صرخات حادة متتالية. أشير إليه أن يهدأ يتوقف عن القفز ويظل ينظر إلي وهو يرتجف يظهر علي وجهه أنه قد تذكر شيئاً يمسك المنشفة ويغطي بها جسده "ألا تعرفني؟" يهز رأسه بعصبية من جانب إلي جانب "أنا زميلك في المدرسة... ذلك الذي كان يضربك كل يوم بعد أن يأخذ طعام غذائك.. وأحياناً قبل ذلك... وأحياناً دون سبب" يظهر من التعبير الذي ارتسم علي وجهه أنه قد تذكرني. يرتدي الفانلة وهو لايزال يرتجف ثم يمسح وجهه بالمنشفة. أكمل: "أسف علي ظهوري المفاجيء.. جئت في الحقيقة كي أعتذر لك وأطلب منك أن تسامحني علي ما اقترفت يداي تجاهك.. حسناً، يداي وقدماي ورأسي". ينظر إلي ثم يقول بصوت مبحوح:" أربع عشرة سنة من الرعب المتواصل، من الحضانة إلي نهاية الثانوية... ضرب وعض وركل وسحل ثلاث مرات يومياً.. حتي هذه اللحظة لا أعرف طعم الشطائر التي كانت تعدها لي أمي.. أصبت بالثأثأة وفقر الدم والربو والتبول اللاإرادي من أفعالك تلك.. وتطلب مني أن أسامحك؟" أرد بهدوء: "سأظل جالساً هنا حتي تسامحني وتغفر لي. وإن كان جلوسي هنا معك يثير في ذكريات الماضي والتي قد يدفعني الحنين إليها إلي محاولة تكرارها و... "يقاطعني وهو يتراجع صوب الحائط واضعاً ساعديه أمام وجهه: "أسامحك..!.. أسامحك..!"... أقترب منه، أشكره وأقبله. 3 يضع الرجل كوب الشاي علي الطاولة ثم يجلس متربعاً علي الأريكة. يشد الطاقية التي علي رأسه إلي الأسفل لتغطي أذنيه ثم يلف الكوفية المحيطة برقبته لتحيط بها مرة أخري. يسحب البطانية بعد ذلك ويضعها علي ظهره فتصير كعباءة يدثر بها. يعدل من وضعه علي الأريكة ثم يمد يده فيتناول رشفة من كوب الشاي. يضعه بجواره ويأخذ في البحث عن أداة التحكم في التليفزيون عن بعد يتأوه متأففاً عندما لايجدها في متناول يده. يهم بالقيام للبحث عنها أتدخل أنا في تلك اللحظة فأخرج من وراء الستارة الثقيلة. أحضر أداة التحكم وأمد يدي له بها. ينظر الرجل إلي الأداة ثم ينظر إلي يدي فذراعي فوجهي. يحملق في ثم يمد يده ويأخذ الأداة من يدي. أقول: "لاتتعب نفسك لا بالقيام ولا محاولة تذكري" يرد: "آه" أتابع: "لقد مرت سنين طويلة.. أذكرك بنفسي... أنا من كان يرمي عليك الطباشير أثناء كتابتك الدروس علي اللوحة" يرد: "آه" استمر: "وأنا أيضاً من كان يكتب الشكاوي الكيدية التي كانت تنهال علي الإدارة والوزارة خصوصاً تلك ذات الجانب الأخلاقي "يرد:" آه "أكمل: "أعتقد إذاً أنني ذلك الذي تسبب في طردك من سلك التعليم وإتجاهك حسب ما سمعت إلي فتح كشك لبيع الحلوي والبسكويت علي ناصية شارع المدرسة" يقول: "آه" أستطرد: "وسمعت أيضاً أن زوجتك وأبناءك قد تركوك بعد دخولك مستشفي الأمراض العقلية" يرد متأوها: "آه" استطرد: "وأن...." يقاطعني بآه أتابع: "ها قد قلت كل شيء... أعبر لك عن عميق أسفي وخالص إعتذاري" يطلق الرجل آهة طويلة. أعلق: "لك الحق في ذلك بل وأكثر.. كم عظيم منك أن تغفر لي وتسامحني.. لقد سامحتني، أليس كذلك؟" يتأوه الرجل: "آآه". أرد: "شكراً لك" أقترب منه لأحييه، أكتشف أنه في جلسته تلك يضغط بشدة علي ساقه. أغير من وضعها وأخفف الضغط من عليها. تنبسط أساريره ويطلق آهة راحة طويلة، أتركه معها ومع كوب الشاي. 4 أرز، بامية، قطعة لحم مسلوق وعلبة بها مخلل مكون من جزر ولفت وبصل وزيتون. يجلس الرجل إلي الطاولة. يهم بتناول الطعام. يتوقف فجأة وهو يبدي تبرماً. يقوم ويتجه إلي المطبخ. يغيب دقيقة ويعود بزجاجة ماء وكوب. يجلس إلي الطاولة. يهم بتناول الطعام. ينظر إلي المائدة أمامه. يحس أن هناك شيئاً ناقصاً. يضرب جبهته بيده ويقوم ثانية متجهاً صوب المطبخ يعود بعد أقل من دقيقة برغيفي خبز بلدي. يجلس إلي المائدة. يأخذ قطعة خبز ويغمسها في البامية. يضعها في فمه. يبدي إمتعاضاً. يهم بالقيام. أخرج له من تحت الطاولة. يجفل الرجل ويتراجع إلي الخلف فينقلب به الكرسي. أتقدم منه، آخذ بيده، أعدل له الكرسي وأجلسه عليه. أمد يدي وأنا أقول: "تعصر الليمونة أم أعصرها لك؟" يشير بيده ولايقول شيئاً. أقطع الليمونة بالسكين إلي نصفين. أعصر أحدهما. يشير إلي بأن أعصر الآخر أيضاً أحس مع ذلك باضطراب الرجل. أطمئنه: تفضل! لا تجعلني أعطلك عن تناول طعامك. تفضل!" يمسك قطعة خبز وقبل أن يمدها ناحية البامية أقاطعه: :قبل أن نستطرد في الحديث أود التأكد أنك صاحب محل البقالة الكائن علي ناصية الشارع المقابل". يهز رأسه. أكمل: "حسنا.. بصراحة وبدون الدخول في تفاصيل كثيرة ومقدمات وتمهيدات وافتتاحيات وإعدادات... أنا لص! "يضع الرجل قطعة الخبز جانباً ويبدأ في خلع ساعة يده، أقاطعه: لا لا.. لا أقول أني جئت لأسرقك الآن!... في الحقيقة أنا أسرقك عبر العشرين سنة الماضية... منذ الصغر وأنا أتردد علي محلك يومياً.. شكلي تغير طبعاً.. المهم أني كنت حريصاً عبر السنوات العشرين تلك علي سرقة ما قيمته جنيه واحد كل يوم لا أكثر ولا أقل.. ولاتسأل لماذا "يحملق الرجل في ولايقول شيئاً أتابع" جنيه يومياً أي سبعة جنيهات في الأسبوع أي ثلاثون جنيهاً في الشهر ثلاثمائة وخمسة وستون جنيها في السنة في عشرين سنة مع مراعاة السنوات الكبيسة يصير المبلغ سبعة آلاف وثلاثمائة وخمسة جنيهات.. هذا هو قيمة ما سرقته منك" يقول الرجل بصوت يتداخل معه صوت مضغ طعامه:" وهل جئت لتدفع الآن؟" أرد: "إذا تفضلت "يرد باستعلاء: "أفكر". أخرج حقيبتي من تحت الطاولة. ألتفت إليه وأسأله: "أين سأنام؟" يرد مندهشاً : "ماذا؟ وما هذا؟" أرد: "هذه حقيبتي. جئت مستعدا. يكفيني ما بها بضعة أسابيع حتي تأخذ الوقت الذي تحتاجه للتفكير" ينظر الرجل حوله متأففاً ثم يرد وهو يكاد يختنق في قطعة الخبز التي كان قد ابتلعها: "حسناً... أسامحك" أقفز مكاني، أخبطه علي ظهره وأنا أقول "شكرا لك.. شكرا.. والآن تفضل هذا" ينظر الرجل إلي الكيس الذي أمد يدي به إليه ويتساءل: "ما هذا؟" أرد وأنا أناوله إياه: "شطيرة فول وشطيرة فلافل فبصراحة كنت أعتقد أني سأقضي وقتاً أطول قبل أن أظهر لك الليلة فجئت بعشائي والآن بما أننا قد تصافينا فليس أقل من أن نتعشي سوياً. تفضل هذه الشطائر الخفيفة ودع الأرز والبامية واللحم لي. لقد كدت تختنق من جرائها يا رجل!".