كنا جالسين ذات مساء علي شرفة العشة التي تطل علي البحر،عندما أقبل علينا الأستاذ يوسف وهبي ليمضي السهرة معنا، كان بين الحاضرين الدكتورسعيد عبده، وأحمد الصاوي وكامل الشناوي وتوفيق الحكيم وأم كلثوم. تنهد يوسف وهبي وقال انه متعب،متعب جدا من إدارة فرقته والقيام بالأدوارالأولي وتأليف المسرحيات وإخراجها، ثم قال "وكله يهون إلا التأليف. فقد أجد المدير الحازم الذي يتولي نيابة عني إدارة الفرقة، وقد اجد المخرج الكفء الذي يتولي إخراج المسرحيات وتدريب الممثلين، وقد انزل عن الدور الأول في بعض المسرحيات لأحد زملائي مثل حسين رياض وأحمد علام، ولكن المسرحية من الذي يؤلفها ؟ . ثم ألقي نظرة فيها شئ من التحدي علي وجوه الأدباء الحاضرين وهو يقول أو يتساءل: "أين هم مؤلفو المسرحية، لقد بح صوتى فى طلب المؤلفين، ولكن أين هم ؟ ". تنحنح توفيق الحكيم وقال "يعنى،ألم يتقدم إليك مؤلف ،" واحد بقصة تستحق اعتبارك ؟ أجاب يوسف وهبى "فاهم عاوز تقول إيه،وسأتكلم بصراحة. لقد قدمت لى فى الموسم الماضى مسرحية من تأليفك، قطعة فنية رائعة، بارعة الحوار، فيها ولا شك متعة ذهنية، يعنى تصلح للقراءة من الخاصة والمثقفين، لكنها لا تصلح للتمثيل،لأن الجمهور لا يهضمها، ولو أخرجتها لنام الجمهور فى الفصل الثانى وربما اضطررت إلى وقف تمثيلها بعد يومين. معذرة يا أستاذ توفيق فأنا لا انتقص من قدرك ولا من قيمة أدبك، ولكنى اريد ان اقول ان الادب شئ والكتابة للمسرح شئ آخر، وخذ مثلا "فيكتوريان ساردو" أعظم كتاب المسرح فى فرنسا، كانوا يلقبونه بساحر المسرح، فيكتوريان ساردو هذا لم يكن من الأدباء ولم يزعم احد انه أديب، بل كان أسلوبه فى الكتابة دون المستوى المقبول. سألوه مرة عن مكانه بين أدباء عصره فأجاب ( إن الأدب محراب وأنا لا .( ! أدخله لأنى من الكافرين مصمص توفيق الحكيم شفتيه وهو يقول ." ! ! " حصل انبرى سعيد عبده يرد على يوسف وهبى فقال" تسمح لى يا يوسف بيه أقول لك إن فى كلامك مغالطة كبيرة،أنت تقول إن الأدب شئ، والكتابة للمسرح شئ آخرفهل تريد أن تقول إن من المستحيل أن يكون الأديب مؤلفا ." . مسرحيا ناجحا ." ! أجاب يوسف: " تقريبا هنا قال سعيد عبده " وشكسبير،ما رأيك فيه،هل تنكر عليه مقامه فى دنيا الأدب، وهل تنكر أن مسرحياته أو معظمها نجحت ." وكتب لها الخلود ؟ أجاب يوسف وهبى " شكسبير لا يقاس عليه،ومثله برنارد شو، هذه عبقريات شاذة وإلا فهل تزعم أن مثل شكسبير أو برنارد شو يولد فى كل عام أو حتى فى كل قرن من الزمان،ولكن مالنا والغرب نحن فى مصر، قل لى من هم أئمة الأدب وأعلامه فى مصر، أليسوا هم عباس العقاد وطه حسين والمازنى،هل فيهم من يستطيع أن يكتب ." مسرحية ناجحة ؟ لم يتردد سعيد عبده فى الرد، فقد صاح" نعم ونعم ونعم، لكن المسرحيات التى يكتبها طه حسين أو العقاد أو المازنى لن ." تعجبك ولن تعجب جمهورك ابتسم يوسف وهبى وقال " وليه بأه يا ." !دكتور ؟ هكذا بدأ الحديث عن ألوان القصص، فقال سعيد عبده " القصة التى يكتبها الأديب الحق هى دائما قصة من الحياة التى نعيشها،حياتنا العادية ليست مملوءة دائما بجرائم القتل والذبح وهتك الأعراض والانتحار، حياتنا العادية ليست سلسلة من الفواجع والمصائب والنكبات. كما تصورها فى قصصك يا يوسف بيه، عارف ليه،لأنك تكتب من خيالك،لأنك تؤلف، والتأليف تزييف، وأنا أسالك أين هذه الأسرة المصرية التى يصاب ربها بالشلل وانفجار شرايين المخ،وتموت زوجته فى نفس اليوم أونفس الأسبوع حرقا،و يهتك عرض ابنتهما وتنتحر،ويلقى ابنهما بنفسه أمام عجلات الترام، ثم ينزل الستار على الدلال وهو يدق جرسه أمام دار الأسرة المنكوبة ليبيع مخلفاتها فى المزاد لسداد الديون، إنك يا يوسف بيه تتاجر بالمصائب وعواطف "! ! وانفعالات الجمهور لم يسكت يوسف. فقال : أنا وحدى، وقصصى وحدها، ماذا تقول يا دكتور فى شكسبير ؟ وعدد القتلى فى ماكبث،وعدد القتلى فى عطيل، وعددهم فى روميو وجوليت،وعدد المصائب فى هاملت ؟ أجاب سعيد عبده وهو يحاول أن يطوى من طول لسانه : صحيح، ولكن شكسبير يقدم لنا مع كل جريمة قتل حكمة رائعة أو موعظة بليغة،يقدم مع كل نكبة أبياتا من . الشعر الرفيع امتعض الأستاذ يوسف وهبى وتساءل: .! عاوز تقول إيه ؟ تدخلت لأنى أشفقت أن تتطور المناقشة وقلت : عاوز يقول إن شكسبيراشتغل بكتابة القصة والتمثيل،مثلك تماما، لكنه نجح فى كتابة القصة وفشل كممثل،أما أنت فممثل كبير وهذا ما نعترف به جميعا. وهنا لم تستطع أم كلثوم مقاومة إغراء النكتة فقالت : يعنى شكسبير أديب كبير وممثل صغير،أما أنت فممثل كبير وأديب صغير،وأكبر مزيف .! لا أكبر مؤلف ضحكنا واشترك يوسف وهبى معنا فى الضحك، وهنا تذكر توفيق الحكيم أن هناك شيئا يريد أن يستفسر عنه فقال : أنت قلت يا دكتور سعيد إن التأليف تزييف فماذا .تقصد ؟ أجاب سعيد عبده : نعم، إلا إذا كان للقصة المؤلفة أو المزعوم تأليفها سند من الحقيقة والواقع،ومعظم القصص التى كتبتها ولا أقول ألفتها كانت قصصا حقيقية، من واقع الحياة،وأنا أعرف أشخاص هذه القصص، وقد اتصلت بهم أو قابلتهم فى المدرسة أو فى القرية أو فى المدينة، وكل ما عملته هو اننى حورت وبدلت وحذفت وأضفت لكى لا اكشف حقيقة أسمائهم وشخصياتهم،لكن جوهر القصة أولب الحقيقة بقى صحيحا سليما ليس فيه تأليف ." أو تزييف رفع توفيق الحكيم رأسه وتساءل ساخرا : وأى فضل لك إذن فى هذه القصص التى نشرتها باسمك ؟ أجاب سعيد عبده : لى فضل الحائك، الترزى الذى يتناول قطعة قماش ويحيك منها ثوبا،وفضله يظهر فى براعة التفصيل ودقة الحياكة، ولى فضل الموسيقى الذى يتناول قصيدة يلحنها. وقد تتناول يا أستاذ توفيق نفس القصة وتكتبها على طريقتك وتوشيها وتزخرفها بحوارك البارع فتجىء قصة خالدة، أو يكتبها شخص ثالث سوانا فتولد قصة هزيلة أو ميتة،ومع ذلك فالقصة واحدة لكن طريقة العرض تفرق بين الجودة ." والرداءة هنا قال الصاوى : هذا صحيح فأنا اعرف صحفيين يتناولون النبأ المثير ليكتبوه فيخرج خبرا تافها هزيلا،وأعرف زملاء يتناولون الخبر التافه يكتبونه بأسلوبهم .الخاص فيجعلون منه نبأ هاما خطيرا تدخلت أم كلثوم قائلة " معذرة لتطفلى على حديثكم،لكننى اشعر أنكم جميعا تغالطون، وإن القياس فى مناقشتكم مع الفارق، وإلا ما هى العلاقة بين ( التأليف والتزييف ) وبين النبأ المثير، والخبر الهزيل .؟ قال يوسف وهبى : هذا صحيح،خرجنا عن موضوع المناقشة، لكن سعيد عبده أصر على انه لم يخرج وقال: لم نخرج عن اصل الموضوع،وليس فى حديثنا قياس مع الفارق، الحكاية كلها،هل هناك أخبار تؤلفها الصحف وتنشرها أنباء هامة مثيرة،أو تولد أخبارا تافهة هزيلة ؟ كلا، فالصحف لا تؤلف أخبارا ولكنها تتناول الأخبار الحقيقية الواقعية، ولكن الصياغة أو مهارة أو براعة الصنعة هى التى تختلف، كذلك القصة، فليس هناك قصص مؤلفة، وإن وجدت فهى قصص مزيفة، خذوا مثلا قصة روميو وجوليت، ما الذى فيها مما يمكن وصفه بأنه جديد مؤلف،لا شئ، لأنها قصة فتى أحب فتاة وأحبته،والفتى والفتاة من أسرتين العداء بينهما قديم، وتقوم الصعاب وينتحر الفتى والفتاة،أى جديد أو أى تأليف فى هذه القصة التى تتكرر حوادثها فى كل ما فيها قديم قدم التاريخ نفسه. و قصة الغيرة فى عطيل، زوج يغار على زوجته،ووغد سافل يذكى الغيرة فى صدر الزوج لغرض فى نفسه، فيقتل الزوج زوجته البريئة، أى جديد أو أى تأليف فى هذه القصة التى يقع مثلها فى كل عصر وفى كل بلد وفى كل بيئة، ابحثوا فى مكاتب المحامين وسجلات محاكم الجنايات فى مصر ستجدون عشرات القصص الشبيهة، لكن شكسبير تناول هذه القصص القديمة وعوامل الحب واليأس والغيرة والدس وصاغها ببراعته وزخرفها .! بشعره وحكمته فأخرجها آيات خالدات سكت سعيد عبده ريثما يجمع أنفاسه المتلاحقة،وانطلقت ضحكة رنانة من أم كلثوم وهى تقول " خايفة تقولوا أم كلثوم بتسرق من شكسبير "، ثم مضت تقول " أنا كما تعرفون من قرية طماى الزهايرة مركز السنبلاوين، فى نفس المركز توجد قرية كان لها عمدة نعرفه وكان كثيرا ما يدعونا لإحياء حفلات فى قريته "، ثم ضحكت وهى تقول" ده كان أيام زمان، وكان أجرى وأجر التخت كله يتراوح بين عشرين وخمسين قرشا. كنت طفلة،وكان العمدة المذكورمعروفا بأنه ابن حظ وزير نساء،وكان للقرية شيخ خفر متزوج ملكة الجمال فى القرية والقرى المجاورة،أحبهاالعمدة واشتهاها،لكن عينى زوجها شيخ الخفر كانتا مفتوحتين دائما فلم يتمكن العمدة من الوصول إليها، لكنه استطاع ان يوفد إليها من يغريها، وذات يوم أصيب شيخ الخفر بآلام فى المعدة وتوفى، وحصل العمدة بالتليفون على إذن من طبيب الصحة بدفن الجثة لأن الوفاة بشهادة حلاق الصحة كانت طبيعية. وبعد بضعة شهور تزوج العمدة من أرملة شيخ الخفر التى كان لها من زوجها المتوفى ولد فى سن الثانية عشرة "، سكتت أم كلثوم لحظة وهى تدير عينيها فى وجوهنا ثم قالت : "هيه،هل اكمل القصة أم تراكم عرفتم ماذا أريد أن أقول ؟. فأسرع كامل الشناوى يقول : " دعينى أكمل القصة نيابة عنك "، قالت " ليه، هل أنت من مركز السنبلاوين وسمعت بالقصة "،قال " كلا، لم اسمعها،لكننى حزرت ماذا تريدين أن تقولى "، قالت أم كلثوم " تفضل ". اعتدل كامل الشناوى ومضى يكمل القصة التى بدأتها أم كلثوم فقال : " انطلقت شائعة فى القرية والقرى المجاورة تقول إن زوجة شيخ الخفر قتلته بدس السم فى الطعام "، فقاطعته أم كلثوم قائلة :" كلا، بل فى القهوة التى وضعت فيها سم الزرنيخ "، استأنف الشناوى كلامه :" وكبر ابن شيخ الخفر، وسمع ان امه قتلت اباه بإيعاز من العمدة الذى تزوجته فصمم على الانتقام ". قاطعته أم كلثوم مرة أخرى وهى تقول : برافو، نعم صمم على الانتقام،ولكنه انتقم من الاثنين،من أمه ومن العمدة، فقد دخل عليهما وهو يحمل بندقية أبيه شيخ الخفر،وأفرغ رصاص البندقية فى رأسيهما، ثم دارت بعينيها فى وجوهنا وقالت : - ترى لو نشرت هذه القصة باسم المؤلفة أم كلثوم ألا يتهمنى النقاد بأننى ! سرقت قصة هاملت من شكسبير ؟ ضحكنا وقلنا : صحيح، فقالت " لكننى كما ترون لم اسرق من شكسبير، بل رويت قصة معروفة فى مركز السنبلاوين ". ساد السكون لحظات إلى أن قال الأستاذ احمد الصاوى محمد موجها كلامه إلى غير أحد قائلا : هذا صحيح مائة فى المائة،اذكر انى قرأت مرة لكاتب كبير لا اذكر اسمه ما معناه أن فى استطاعة أى هلفوت أن يكتب قصة خالدة لو انه كتب قصة حياته بأمانة وصدق وصراحة فيصف نزواته والصراع الذى قام بين عقله وقلبه أو بين ضميره وجسده، وأن يسجل فى القصة الانفعالات والانطباعات فى نفسه، ولكن من ذا الذى يستطيع أن يتعرى تماما أمام الجمهور، الذى يستطيع أن يخلع عنه ثياب الحياء والكرامة والتقاليد !ويقف عاريا تماما أمام الجمهور ؟ قال يوسف وهبى "يعنى وصلنا لأية ." نتيجة ؟ أجاب توفيق الحكيم "وصلنا على قدر فهمى إلى هذه النتيجة وهى انه ليست هناك قصص مؤلفة، بل هناك قصص قد أعيدت كتابتها وصياغتها "، وهنا سألته " وهل تنكر هذا يا توفيق، قصص أهل الكهف، بيجماليون، شهرزاد، مؤلفة. أم قديمة قدم التاريخ،ويوميات نائب فى الأرياف هل مؤلفة من نسيج الخيال أم هى مجموعة وقائع حدثت فعلا ووقعت أيام كنت وكيلا ." للنائب العام ؟ ." قال" يعنى عاوز تقول إيه ؟ قلت " عاوز أقول إن سعيد عبده على حق، فليس هناك قصص مؤلفة جديدة، أو افكار جديدة،ولكن هناك طرقا جديدة لعرض أو صياغة الأفكارأو القصص القديمة ! ". قال سعيد عبده "وأنا عاوز أقول إن فى حياتنا وفى حياة الذين نلقاهم كل يوم قصصا كثيرة تصلح للنشر لوعرفنا كيف نعرضها،أنت مثلا، ألم تعرف أو تسمع بقصة حقيقية وقعت لصديق أو لزميل لك، قصة تفوق فى حبكتها وغرابتها ومفاجآتها كثيرا من القصص التى تنشر فى الصحف والمجلات على أنها من تأليف الأديب فلان ." أو القصصى علان ؟ سكت الحكيم لحظة قبل أن يقول "أى واالله صحيح، فأنا اعرف قصصا من هذا النوع " فسألته " ولم لا تكتبها، أو تقصها علينا "، فقال " لأنها تمس حياة أصدقاء ." وزملاء قال يوسف وهبى " وأين براعة القصصى الأديب الكبير، أين سعة حيلتك وحكمتك ." وخيالك وكياستك ؟ هز توفيق الحكيم رأسه وسكت. فقال سعيد عبده " أما أنا فعندى قصة حاضرة وجاهزة، ولا أرى مانعا من ذكر أسماء أشخاص لأنهم جميعا معروفون لكم، والعهد بحوادث القصة قريب"، فابتسم يوسف وهبى قائلا" وعندى أيضا قصة، بل هى صفحة من حياتى، ولكننى أخاف إن قصصتها عليكم أن ! تتخذوا منها مادة للتشنيع ّعلى وكانت الساعة قد جاوزت منتصف الليل، وقمنا على أن نجتمع فى مساء الغد لنسمع قصة صديقنا الدكتور سعيد عبده، هذا ما يقوله ويؤكده الأصدقاء الرواة، وكلهم صادق وأمين. ولكنى مع ذلك أحب أن أقول ما قد يحب كل منهم أن يقوله فى صدر قصته إذا جلس وكتبها بالقلم، وقد يقول : أنا لا ازعم أن حوادث هذه القصة قد وقعت تماما كما هى مدونة هنا، ولكنى ازعم انه كان من الممكن بل من المحتمل أن تقع، وما دام وقوعها كان ممكنا بل محتملا فلماذا لا تكون !قد وقعت فعلا وحقا ؟ محمد التابعى أخبار اليوم - مارس 1952