ولد الشاعر والروائي الأمريكي "جيم هاريسون" عام 1937 في إحدي قري ولاية ميشيجان. عاني من الفقر في طفولته، وكان عليه أن يعمل في الحقول والأعمال اليدوية الشاقة، إلا أنه ورث حب القراءة عن أبويه، وقرأ الكثير من الكتب في طفولته وصباه. بعد الانتهاء من المرحلة الثانوية، درس الأدب المُقارن بجامعة ميتشيجان ستيت، وتخرج بعد فترة تعثر عام 1960، ثم حصل علي الماجستير عام 1964. بدأ حياته الأدبية بإصدار ديوانه الأول "أغنية السهول" عام 1965، وحقق نجاحًا ملحوظًا جعله يتفرغ لكتابة الشعر والمقالات. وفي عام 1967، أصدر ديوانه الثاني "السير علي الأقدام"، وفي العام التالي أصدر ديوانه الثالث "مواقع". كتب روايته الأولي "الذئب: سيرة ذاتية زائفة" عام 1971، التي تم استقبالها بشكل جيد، ومنحته شهرة لم يحصل عليها كشاعر. تعرض لأزمة مالية ونفسية قوية، انتهت بصدور أهم أعماله علي الإطلاق؛ روايته القصيرة "أساطير الخريف" التي تحولت إلي فيلم سينمائي شهير. شارك في تحويل روايته إلي فيلم، وعمل في كتابة السيناريو بعد ذلك لفترة طويلة. علي مدار خمسين عامًا، كتب "جيم" 17 ديوانًا، و13 رواية، و8 روايات قصيرة. تعكس أغلب أعماله شغفه المُبكر بالطبيعة منذ أن فقد إحدي عينيه في حادث حين كان طفلاِ ، وأصبح يميل إلي الانعزال. اعتمد بكثافة علي عناصر الطبيعة في أعماله الشعرية واستخدمها كقواعد للكناية والاستعارة والمُعادلات الموضوعية، ومن أشهر دواوينه: "الأنهار: النظرية والتطبيق" عام 1977، "وحشية الطبيعة" عام 1982، و"العودة إلي الأرض" عام 1986، و"رسائل إلي يسنين" عام 1973. دارت أحداث أغلب رواياته في مناطق ريفية وغابات وأحراش، وقدم شخصيات غير مألوفة بالنسبة للمجتمع الأمريكي. تأسس مجده الأدبي علي أعماله السردية، إلا أنه اعتبر نفسه شاعرًا في المقام الأول، وأرجع نجاحه في السرد إلي خبرته كشاعر. نال "جيم" شهرة واسعة، وتقديرًا أدبيًا كبيرًا، وتم اختياره لعضوية الجمعية الأمريكية للفنون والآداب قبل أن توافيه المنية في مارس 2016، بعد حياة حافلة بالإبداع؛ قدم فيها رؤية مختلفة للإنسان وعلاقته بالطبيعة، وهذا جزء من حوار معه يتناول فيه تأثيرات فترة الطفولة علي إبداعه، وجوانب من رحلته الإبداعية. تستخدم الكثير من ذكريات الطفولة في أعمالك، هل تتمتع بذاكرة قوية؟ ذاكرتي ليست قوية، ولكني أجتهد في عملية التذكر. وفق نظريات فرويد الكلاسيكية، إذا أُصبت بعقدة في صغرك، تصبح مُعاقًا نفسيًا، وتتضخم ذكرياتك إن أردت لها ذلك. أتمني أحيانًا أن أنسي الكثير من ذكرياتي، وأبذل جهدًا كبيرًا لتحرير عقلي من الذكريات حتي لا تستولي عليه. أتمني أن أنسي ذكرياتي القديمة وأستبدلها بأخري جديدة، ولهذا السبب أحب السفر. السفر والنهر فكرتان مركزيتان في أعمالك. إنهما المُحرك الأساسي لديواني "الأنهار: النظرية والتطبيق". علي الإنسان أن يعيش حياته كالنهر، ويتحرك مع حركة الحياة. عليه ألا يشغل نفسه بوضع خطط تافهة لمواجهة مواقف مُحتملة. عليه أن يعيش وجوده. طلبت مني إحدي المجلات ذات مرة، أن أكتب مقالاً ِ عن الطبيعة، فقلت لهم إنني لا أستطيع، ولكن بمقدوري كتابة مقال عن الشعور بالضياع وجوانبه الإيجابية.. شاعرية الاستسلام للحياة. قلت في المقال إن السحر الحقيقي في الشخصية الإنسانية يكمن في الانتباه. أغلب الناس يعيشون الحياة وهم يحملون نفس التصورات تقريبًا، ويحملون نفس الأعباء: الزواج، الأطفال، التعليم، وما إلي ذلك. حين ذكرت كلمة الانتباه، لم أكن أعني الانتباه إلي الواقع، ولكن إلي الاحتمالات المُمكنة في هذا الواقع. كان "ماركيز" يُقدم تصوره الخاص عن الواقع في روايته "مائة عام من العزلة". يُسمي النقاد هذا التصور "الواقعية السحرية"، إلا أنهم لا يفهمون طبيعة أمريكا اللاتينية علي الإطلاق. اذهب إلي البرازيل مثلاً. توجه إلي الأدغال وتوغل فيها. قال لي رجل عجوز هناك: "هل تعلم أن هناك بشر لا يستطيعون التمييز بين شجرة وأخري؟". أدهشه هذا الأمر للغاية، وأدهشه كذلك أنهم لا يعلمون أن لكل أمُة روحها الخاصة مثل تاريخها الخاص، وأن لكل منطقة من الأرض أشباحها الخاصة. ما قاله الرجل حقيقي، كنت أصدقه وأنا في التاسعة عشرة من عمري، وعُدت إلي تصديقه الآن، بعدما اكتشفت أن كل ما تعلمنا غير صحيح، وأن الانتباه هو وسيلتك الأساسية في الحياة وعند قراءة الأدب. هل كنت تفكر في مُراهقتك أن تصبح شاعرًا؟ فترة المُراهقة علي قدر كبير من الأهمية بالنسبة للجميع، كما أنها مؤلمة كذلك. فكرت لبعض الوقت أن أعمل واعظًا، إلا أنني أدرت حينها عدم قدرتي علي ذلك. كنت أتخلي حينها عن كل ما هو يقيني، وأعتقد أن كل شغفي بالدين تحول إلي الفن. هل كنت تقرأ كثيرًا؟ أجل. كان أبي قارئًا نهمًا، وورثت منه تلك العادة. كان يعمل في مجال الزراعة، إلا أنه قرأ كل أعمال هيمنجواي وفوكنر، وكالدويل. كان يقرأ كل ما يقع تحت يده، وأمي كذلك. هل لنشأتك الريفية تأثير في تكوينك كشاعر؟ نشأتي الريفية كانت تسبب لي الحرج. كنت أتمني أن أصبح مثل اللورد بايرون أو فان جوخ؛ ولكن كيف لطفل ولد في قرية نائية أن يُحقق هذا؟! ألم يكن هذا حافزًا يحثك علي الانطلاق؟ أظن أن تلك النشأة منحتني القوة، وأن السنوات التي عملت فيها الكثير من الأعمال اليدوية منحتني صلابة وقوة تحمل أفادتني بعد ذلك. كنت أعمل في تفريغ سيارات الأسمدة طوال اليوم مقابل دولار واحد، وأحلم بمدينة نيويورك أثناء العمل. قبل صدور ديواني الأول بشهر، كنت أعمل في البناء؛ لم تتمكن السيارة التي تحمل الأسمنت من الوصول إلي موقع المنزل، وكان عليّ أن أحمل 1200 شيكارة أسمنت علي كتفي لمسافة سبعين ياردة. كان يومًا شديد البرودة، واستغرق نقل الأسمنت تسع ساعات، وحصلت علي دولارين ونصف فقط في الساعة. حين عدت إلي المنزل كنت جائعًا ومُرهقًا وليس معي سوي خمس وعشرين دولار فقط. هل تظن أن ذلك الجهد البدني أفادك بعد ذلك وحولته إلي صفحات مكتوبة؟ لم أفكر بهذه الطريقة. كيف يمكن الاستفادة من العمل في حقول الذرة يومًا بعد الآخر في كتابة رواية؟ ربما القدرة علي تحمُل التكرار. ربما أكسبتني تلك الحياة الريفية القاسية نوعًا من الجوع لفعل شيء ما. كتبت بعض ملامح حياتي في الروايات؛ في رواية "فلاح"، يشتاق "جوزيف" إلي رؤية المحيط. لن تتصور كم عانيت وأنا أسافر تطفلاً علي السيارات حتي أصل إلي كاليفورنيا وأري المحيط الهادي. سافرت بنفس الطريقة إلي نيويورك. تركت عائلة مكونة من خمسة أطفال، ولم يكن معهم نقود. وقفت علي الطريق السريع ومعي تسعين دولار فقط، هي كل ما ادخرته، وآلة كاتبة قديمة؛ هدية من أبي في عيد ميلادي السابع عشر، وملابسي. كنت أخطط للحياة في قرية "جرين-ويتش"، وأعيش حياة بوهيمية علي غرار البوهيميين الذين رأيت صورهم في مجلة "لايف". كان أبي يوافقني علي هذا، ولم يُلِح عليّ كي أنهي دراستي الجامعية؛ إذ كان يعلم أن هينمجواي وفوكنر لم يذهبا إلي الجامعة. لقد بدأت حياتك الأدبية كشاعر، لماذا اتجهت لكتابة الرواية؟ سقطت من أعلي تل أثناء صيد الطيور، وجُرحت. كان يجب أن أقضي فترة علاج لمدة شهر، وكانت تلك فترة نقاهة طويلة. لحسن الحظ كنت قد حصلت علي منحة في ذلك العام، وإلا لكنت أفلست. اقترح عليّ صديق أن استغل الوقت في كتابة رواية، وبالفعل كتبت روايتي الأولي "الذئب". أرسلتها إلي دار النشر بالبريد، ولكنها تأخرت بسبب إضراب سُعاة البريد، واندهشت حين علمت بموافقة دار النشر علي نشرها. اكتشفت بعد ذلك أن شهرتي الحقيقية ارتكزت علي أعمالي السردية أكثر من الشعر. لم تكن رواية تقليدية، وسيطرت عليها النزعة الاعترافية، أكان هذا بسبب خبرتك كشاعر؟ كانت أول عمل سردي أكتبه، ومن الطبيعي أن تكون ذات طابع شعري، لدرجة أنني شككت في كونها رواية، ولهذا السبب أسميتها "الذئب: سيرة ذاتية زائفة". راجعت الرواية بدقة شديدة، لأن الشعراء اعتادوا علي التدقيق الشديد والتوقف عند كل مُفردة. يفرد الشاعر روحه ويطويها أثناء الكتابة مثلما كانت النساء تفعل مع الغسيل في الماضي. ليس لدي الشاعر سوي روحه، وهي شاغله الوحيد. احتوت الرواية علي قدر كبير من الغضب، أليس كذلك؟ تذكرني رواية "الذئب" بصبي مفطور القلب، يجلس علي سقف مخزن حبوب ويصرخ. لقد أصبحتُ شخصًا أكثر لطفًا بمرور الزمن. لقد بذلتُ جهدًا كبيرًا لكي أصبح عاقلاً ، علي الأقل وفق معاييري الخاصة. اتسمت روايتك التالية "يوم مناسب للموت" بأنها أكثر تقليدية علي مستوي الشكل وطبيعة السرد، أهو نوع من الانتقال من الشعر إلي السرد؟ حاولت فيها أن أسرد قصصًا بسيطة عن أشخاص يخلقون الفوضي علي الدوام؛ أشخاص لا تحب الالتقاء بهم أو الجلوس معهم في غرفة واحدة. كانت الرواية تعكس الحالة السائدة في أواخر الستينيات. كانت أول رواية من الروايات التي أطلقوا عليها بعد ذلك "روايات فيتنام". قال أحد النقاد أن شخصيات الرواية غير موجودة في الواقع، ولكنها موجودة وبأعداد كبيرة كما أثبت الزمن بعد ذلك. أعتقد أن سبب استقبال أعمالي بصعوبة هو أنني أكتب عن شخصيات تبدو غريبة عن السياق العام، وغير مقبولة اجتماعيًا. كتبت كثيرًا عن الطبيعة والحياة في الأحراش، وعن رغبة أبطالك في رؤية الذئاب، لماذا هذا الهوس بالذئاب؟ يتعلق الأمر بأحلامي. إنه شيء بدائي لأن عقولنا لا تزال بدائية بمفهوم عالم النفس "يونج". منذ طفولتي المُبكرة وأنا أحلم بالدببة والذئاب، وحرصت علي رؤية ذئب في الطبيعة وليس في حديقة حيوانات. كنت أعلم أنني سأري واحدًا. دفعني الهوس بالطبيعة إلي زراعة نحو خمسة آلاف شجرة حور حول المنزل، ووضعت أعشاشًا لطيور الحجل حتي تستقر هنا وأسمع غنائها. ثم واتتني فكرة أخري، أن أزرع حول الكوخ غابة من الزهور البرية، والأجمات. إن عشت عشرين عامًا أخري، سوف أستمتع بالوقوف هنا؛ في قلب غابة من الأشجار والزهور البرية. ما رأيك في مقالات النقاد؟ لن تقتلني. بصراحة، المقالات السيئة أفضل من عدم كتابة مقالات عن أعمالي، وبالطبع لن أتوقف عن كتابة الشعر والرواية بسبب مقال نقدي. هل انتابتك لحظات يأس وشعور بالإخفاق؟ أجل. حققت روايتي الأولي نجاحًا لا بأس به، وكذلك روايتي الثانية، إلا أن رواية "فلاح" فشلت لدرجة سببت لي الحسرة. شعرت بالعجز حيال الموقف، ومررت بفترة في غاية الصعوبة، ولم أتمالك أعصابي إذ أصابتني سلسلة من الإخفاقات المتوالية، ولم أتمكن من دفع الضرائب. كتبت في تلك الفترة ديواني "رسائل إلي يسنين" الذي حقق نجاحًا كبيرًا بعد ذلك. كان هذا الديوان يناقش فكرة الانتحار، هل أقدمت علي الانتحار بالفعل في ذلك الوقت؟ أعتقد أن فكرة الانتحار تراود أغلب الشعراء، خاصة عن كانوا فقراء، فالقصيدة الجيدة لا تدفع ثمن الطعام. كانت الفكرة تحوم في رأسي طوال تلك الفترة العصيبة، إلا أنني استبعدتها لأنني اعتبرتها نوعًا من الأنانية في حالتي، ثم اقتنعت حينها أن الوجبة التالية تستحق الانتظار من أجلها. كتبت حينها "ضفيرة أختي ذات الثلاث سنوات مُعلقة في مقبض الباب، وتصرخ في وجهي كي أتراجع". وماذا حدث بعد تراجعك عن الانتحار؟ اتجهت الأمور من سييء إلي أسوأ، وتعرضت لخداع عدة مرات متوالية؛ إذ اشتركت في كتابة بعض الأعمال للسينما دون أن أحصل علي أي نقود. انتهت تلك الفترة القاسية حين قابلت "جاك نيكلسون". بعد أن تحدثنا قليلاً ، سألني إن كان معي إحدي رواياتي، وكان معي رواية "الذئب". قرأ الرواية فأعجبته، وطلب مني الاتصال به علي الفور إن وصلت إلي فكرة رواية تصلح لأن تكون فيلمًا له. كانت تلك الفترة بعد نجاح فيلمه "طار فوق عش الوقواق"، وكان الكُتاب يتهافتون عليه. حين علم أنني مُفلس، زارني وعقد معي اتفاقًا وأقرضني مبلغًا من المال حتي أتفرغ للكتابة، وكانت النتيجة هي رواية "أساطير الخريف".