حوار: عزمى عبد الوهاب كأن الشاعرة "غادة نبيل" تهمس، لكنك تكتشف الجمر تحت رماد الهدوء، فهى تجرب باستمرار، سعيا وراء المصالحة مع العالم، وتعيش الأجواء الحقيقية لما تكتب، قبل أن تعيد تهيئتها لنا فى قصيدة، وهذا ما بدا واضحا فى ديوانيها "تطريز بن لادن" و"أرواح المنسيين" وغير ذلك من أعمال شعرية مثل: "المتربصة بنفسها – كأننى أريد – أصلح لحياة أخرى" إضافة إلى روايتها الوحيدة "وردة الرمال". "الأهرام العربي" أجرت هذا الحوار مع الشاعرة "غادة نبيل". اختتمتِ ديوانك الصادر حديثاً تحت عنوان "هواء المنسيين" بقصيدة "محاولات متكررة لكتابة قصيدة صادقة" تعكس القصيدة أجواء مغايرة لما جاء فى الديوان هل هذا إيذان بالانتقال إلى مرحلة شعرية جديدة؟ لا أستطيع التنبؤ بما سأفعله لاحقاً فى شعرى، أتذكر ما كنت أحكيه لأمى: كان صديقنا وشاعرنا الكبير الراحل حلمى سالم يستمع لى وأنا أشكو له خوفى بل ارتعابى ذات يوم من رغبتى المُلحة فى أن أكتب شيئاً عارم التجريبية، وتحفظى لو وجدته "قبيحاً غير مستساغ" أجابنى كشاعر وتجريبى كبير يرمى نرده ولا ينتظر النتيجة التى يحلم بها: " إيه يعنى ما يطلع وحش وسيىء؟" تعليق حلمى سالم بمثابة روح " زوربا" أظن أنه كلما تحررنا من الخوف ربح الفن، آمل أن أتحرك باتجاه مزيد من التحرر من نفسى ومن الآخرين، أو من مخاوفى من ردود أفعالهم، أما بشأن القصيدة التى تشير إليها فكانت أمى هى أول من سمعها، وكنت مترددة بشأنها، وهى من حسمت ترددى. أنا فقط أردت الصراخ بعنف على العنف، أردت صدمة القارئ وكسر توقعات القراءة المستأنسة، وفكرة أن الشعر يجب أن يكون دائماً هائماً وجليلاً، أردت تحدى نفسى واختبار جرأتى، أردت بعض الانتقام، أردت الشعر! بعد قراءتها النقدية لديوانك " كأننى أريد " سألت الناقدة أمانى فؤاد ونحن نسأل معها أيضاً: هل باتت التجربة الذاتية بديلاً عن الشاعر الكونى والقومى؟ الشاعر يكون كونياً بامتياز فى عمق ما يوصف ب " ذاتيته " لا مسافة بين النفس والكون حقاً، فهى الكون الأصغر، ولا توجد كائنات أخرى معنا على هذا الكوكب، فما يقوله شاعر فى غابات الأنديز هو ما قد تحسه أنت كشاعر، وقد يشبه ما كتبه طاغور، أو من سيولد من شعراء فى المستقبل، عن نفسى أملك القول إنى أخسر كثيراً حين أتعمد أى شىء سواء فى الشعر أو الحياة، أستطيع إضافة حقيقة أخرى تخصنى باطمئنان: إننى شخصياً ألوذ بالشعر من كل شر تعرضت له، الشعر وقانى وعصمنى من تكرار محاولة انتحار ومن احتمال فقد العقل تحت وطأة شرور محددة، بداخلى غادة التى تنزل المظاهرات وشاركت فى ثورة يناير والمليونيات بعدها، لعدم تحقيق أهداف الثورة أيام المجلس العسكرى وأيام المرشد، لا أتخلى عن غادة تلك أو أخلعها ببساطة حين أجلس لكتابة قصيدة، لكننا متعددون، وعليه أكتب ما تهمس لى به روح غادة بأن ثمة فارقاً بين الشعر و" المنشور " أو المانيفستو، كفى فصلاً تعسفياً، فالجمال وحده هو ما يعيش، والمقاومة لا تكون فقط بحمل السلاح بل بممارسة الجمال والفنون. ألم يتغير مفهوم الذاتية بعد انخراط الشاعر فى معطيات الثورات الأخيرة فى العالم العربى؟ كل شىء يتغير مع مرور الوقت، فمن ناحية لا الشاعر هو نفس الشاعر من قبل ثورات الربيع العربى، ومن ناحية لم يعد النقاد والجماهير يحملون المقاصل للمقيمين فى الأبراج العاجية، وقد استشهد من استشهد من بعض الفنانين فى ثورة 25 يناير(الفنان زياد بكير وغيره) وسُجن بعدها من سُجِن من الشعراء الناشطين(عمر حاذق وأحمد دومه) والتشكيليين (شريف فرج) ويواجه بعض الكُتّاب السجن (كرم صابر) الأبراج تتهدم شيئاً فشيئاً وحتى قبلها كان المبدع والمفكر العربى يتعرض للاغتيال إن لم يكن من الأنظمة فمن المتهوسين دينياً (اغتيال المفكر فرج فودة ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ) وأعرف شاعرات من بلاد عربية تم حبس أولادهن على ذمة وقفة أو تظاهرة سلمية، لو حركت فينا قصيدة مزيداً من حب الرحمة، كشفت لنا عن "متعة" ودهشة جديدتين، لو أسالت دموعنا قصيدة أو مقطوعة موسيقية وقتها يكون تحقق معنى من معانى وجودنا. تقولين:" أرغب بشدة فى كتابة قصيدة بذيئة توازى بذاءة ما يحدث فى العالم " ماذا تقصدين ؟ أقصد أن الحياة يمكن أن تكون دنيئة وخبيثة، يمكنك أن تولد فقيراً شحاذاً أو بإعاقة خِلقية أو لأبوين قاسيين أو حرمتهما الحياة من التعليم، نولد فى دين معين لآباء بعينهم فى طبقة محددة، وزمن محدد بوجه محدد بلون محدد، لنحيا أقدارنا بحتم استفزازى لا يقبل إلا خضوعنا وترويضنا، نمرض، نخسر أحباباً، لا نعثر على التقدير فى الوظيفة، وقد نتعرض للرفت – هذا لو كنا محظوظين ولم نواجه كغيرنا البطالة – نتعب، نهرم، نُخلِص ونعانى، وعليك أن تكون من أحد فريقين بعد ذلك فالخيارات ليست كثيرة: إما الكراهية أو شجاعة تحمل غياب الحب، يفزعنى عدم خجل البعض من عبء الكراهية بل الفخر بها، كل هذا الشر فى العالم وتسألنى ما البذاءة؟ أشار البعض إلى وجود حس قصصى فى ديوانك الأول "المتربصة بنفسها" هل كان ذلك يمثل بذرة اللجوء إلى الرواية فى "وردة الرمال"؟ لا أتفق مع هذا الرأى، هناك بعض السردية الجنينية ربما فى قصيدة قصيرة عن الروائى الراحل إبراهيم أصلان، لكن حكاية "وردة الرمال" كانت رغبة أعمق فى الحكى، كنت أشعر أنى أحمل على قلبى وأكتافى حملاً ربما خفت منه على شعرى أو شعريتى ما جعلنى أجازف به فى أرضٍ جديدة فكانت المحاولة الروائية. هل تطرح الرواية ما يعجز عنه الشعر ؟ الرواية شخوص وأحداث وحرية درامية فى الاختباء خلف بارافانات، مع تقنيات أخرى بما يعنى أن بها مساحة وامتداداً، ربما هناك شياطين لا يمكن طردها إلا بالرواية أى بالسرد، لكن الشعر عنقاء تطير بسر الحياة الذى سيبقى مجهولاً، كيف لا نتبع العنقاء ؟ مع هذا لو وافقنا فيديريكو فيللينى على أن "كل الفن هو سيرة ذاتية" قد ينتفى سؤالك . سأعيد عليكِ سؤالك: هل يستطيع الشعر أن يغير العالم ؟ كل الفن لن يستطيع تغيير العالم فهل يتوقف الفنان عن فنه؟ ليس هذا بيت القصيد إذا كانت الحياة صعبة التحمل رغم جمال الفن والطبيعة والطفولة فما بالنا لو غاب عنها الفن؟ ربما أقصى ما يطمح إليه الشعر هو إحداث رجفة أو هزة فى أرواحنا - كما تفعل الموسيقى - ليذكرنا بالجمال والخير المعتدى عليهما، ليحفزنا على طلب الجمال لغيرنا وعلى الخجل من الكراهية والشعور بالعار من القسوة والظلم والخداع. قطعتِ الأرض من مشرقها إلى مغربها سفراً وإقامة وترحالاً كيف كان أثر ذلك عليكِ ثقافياً وإبداعياً؟ زمان كنت مع أبى فى سيارته ذات صباح وفجأة قلت له: "عايزة ألف العالم كله" كان يعرف ما جعلنى أقولها، أجاب بحزن الفاهم : "لو لفيتى العالم كله واللى جواكى زى ما هو مش حتكونى شفتى حاجة" دعنى أقل لك إنه رغم متعة وتعب وقلق السفر لكنه لم يكن معلمى الأول ولا الثانى، بل بيت أهلى وكل مبدأ ربيانى عليه، دعنى أصرخ بحقيقة أن الانتزاع من الجنة، جنة العصر الذهبى لطفولتى والمدينة - الحلم (كما وصفتها جارتنا اليونانية المصرية المهاجرة) الإسماعيلية بحكم الحرب والتهجير، ثم توالى الفقد والانتزاع من الجنة اللاحقة للحب ثم من البراءة طبقة وراء طبقة، الصدمات الكهربائية فى بعض الأهل وليس انتهاء بانتزاع أبى منا بالموت وانتظار المزيد من "الانتزاع القسرى المستمر" كل هذا شكلنى. لماذا تظل قصيدة النثر محرومة من جوائز الدولة حتى الآن؟ هذا سؤال أوجهه معك للجهات الرسمية فى الإعلام ووزارة الثقافة ووزارة التعليم التى لا تمهد لظهور شعراء موهوبين، وكل من يظهر، يظهر رغم أنف التعليم المنهار وليس بسببه، كأنما المؤسسات التى يرأسها المسنون لا يمكن أن تسمح بهواء جديد، يريدون فرض الموت على الحياة والأحياء فيتبعون سياسات تعمية وتجهيل متعمدين لاستمرار مكاسبهم ورئاساتهم لنفس العفن المتراكم من عقود، يعبّون الهواء من أنفاس الصغار ليطيلوا سيطرتهم ومن ثم تجريمهم لأى شىء جديد فهو تهديد مباشر لكهنوتهم، قصيدة النثر بها طاقة " انقلابية " والمجتمع يريد " التهدئة " والتغطية، المنع لا يتجزأ وفلسفته تقوم على تسريبه للوجدان منذ الصغر. هل أضاف عملك بالصحافة الثقافية إليكِ أم أنه كان خصماً من رصيدك الإبداعى؟ كل المضايقات والعُقد النفسية والثارات التى يفرضها عليك رئيس تحرير، يحاول إرضاء السلطة، تبدو ذرة غبار بجانب سطر شعرى، يخرج من الروح ويفاجئ صاحبه، أنا مترددة وكسول بل مهجوسة بمستوى شعرى وجودته،هذا يعنى إن إيقاعى الروحى لا يناسب مهنتى، لهذا رغم الظلم والتعنت، بل العدوان الوظيفى منذ ما قبل وما بعد ثورة يناير، الشعر هو كهفى الذى ألوذ به حيث أحاول إيهام نفسى أن أحداً لن يعثر على. مُنعتِ من النشر فى جريدة الجمهورية حيث تعملين بسبب مقال عن الحرية والعدالة (الحزب).. هل لا تزال أسباب المنع قائمة حتى بعد سقوط الإخوان؟ لا أزايد لأبدو بطلة، لكنهم لا يريدون صداعاً من أمثالى، ممن كانوا يقفون على سلالم نقابتنا منذ عهد مبارك، بالنسبة لمقالى عن الحرية والعدالة فى عهد مرسى لم يفاجئنى المنع، فى وقت سابق أيام حكم المرشد استدعانى رئيس التحرير لمكتبه كى "يُعرّفنى" بالمسموحات والممنوعات ليتظاهر بإفساح الرأى للجميع، بدأت أكتب وأعد صفحة ثقافية، تحدياً لمسموحاته، عارفة مسبقاً أنه لن ينشرها، كنت أريد اختبار نفسى وليس اختباره: هل سأقبل لا شعورياً "مواصفاته وشروطه" التى هى تعليمات وشروط المرشد ونظام فاشى لم أنتخب رئيسه ولا أحترم حزبه الحاكم. توالى أكثر من رئيس تحرير علىّ وقت حكم محمد مرسى، ومنعنى رئيس تحرير آخر من الكتابة، لأنه لم يستطع أن يغفر لى مقالة كتبتها ونشرتها فى جريدة مصرية مستقلة (قبل أن يصبح رئيساً للتحرير) ضد كتاباته التحريضية على الكراهية، والتى ركز فيها حقده على البهائيين المصريين، وأراه مسئولاً ومشاركاً فيما تعرضوا له من حرق منازلهم أيام مبارك. لماذا يفشل أبناء جيلك فى العمل الجماعى؟ هل للموضوع علاقة بالسن أم باختلاف أم بتنافر الشخصيات فى الجهد الجمعى أم بحالة إحباط عامة يحاول كل منا مواءمة نفسه مع مزاجيتها أم بكون الثورة لم تحقق أهدافها بعد، ونحن تعبنا من حال المجتمع أم أن هناك رغبة دفينة لدى كل منا فى الهرب بعد كل مظاهرة إلى منطقة صوفية أو غير صوفية خوفاً على الشعر؟ خارج مصر رأيت كيف ينجح أبناء جيلى فى العمل الجماعى الثقافى الطوعى، بل حتى فى مصر نجحت تجارب بعد الثورة مثل "الفن ميدان" نجح العمل الثقافى الجماعى المستقل فى مجتمعات عربية لم تحدث بها ثورات، أو مجتمعات أوروبية أنجزت ثوراتها، وتحصد ثمارها من قرون، ما يعنى أن للمجتمع والحالة العامة تأثيراً كبيراً.