سألت نفسي لماذا لم أعترض مثل آخرين علي فوز بوب ديلان بجائزة نوبل للآداب ؟ نعم أعرف أنه موسيقي عظيم، بل وأسطورة الستينات الأمريكية في موسيقي الراب، وأعرف أنه شاعر غنائي يكتب شعراً للغناء له وللآخرين، وأعرف أنه رسام، وعازف جيتار وثائر ومتمرد، وأحد رموز الموسيقي الشعبية الأمريكية ، وأنه ليس فقط شاعراً يرتدي ملابس الوقار الأدبية لم أصاب بالدهشة حال سماع الخبر، بل أنني ضحكت حين سمعت الخبر ولم أتوقف كثيراً أمام فوز هذا الشاعر المطرب بالجائزة الأكبر في عالم الأدب. لقد ذكرت الأكاديمية السويدية أن بوب ديلان يكتب شعراً من أجل الأذن، وأنه خلق تعابير شعرية جديدة في الأغنية الشعبية الأمريكية، فحيثيات الجائزة في الأدب وليس الموسيقي، نعم نحن أمام موسيقي كبير والجائزة تعرف أن أعماله باعت ملايين الاسطوانات، وأنه أنفق خمسة عقود في اكتشاف مذاهب وتقاليد الموسيقي الشعبية الأمريكية ، لكنه أيضاً شاعر فهو ينتمي إلي جيل البيت ووصفه آلن جينسبرج أحد أبرز رموز هذا الجيل بأنه شاعر بطولي وموسيقي أساسي في القرن العشرين، نعم إنه شاعر لكنه يكتب شعراً للآذن وليس للتأمل والقراءة مثل كل الشعراء الشعبيين علي مر التاريخ وفي كل الحضارات منذ هوميروس اليوناني الجوال الذي حكي عن غضبه أخيل في الإلياذة وصولاً إلي شاعر السيرة الهلالية جابر أبو حسين ومروراً بعشرات الشعراء وكل منهم نتاج ثقافته المحلية التي شكلت جماليات هذا الشعر الشعبي وأساليب أدائه، وبوب ديلان لا يحمل ربابة مثل شعراء السيرة الهلالية ولم يتجول في شوارع أثينا قبل الميلاد ليحكي عن صحوة الضمير الإغريقي بعد إبادة طروادة شعبها بقرون مثل الشاعر الضرير هوميروس ، لكنه قدم شعراً حديثاً في قالب الموسيقي الشعبية بمفهوم هذا العصر، حيث أصبحت أشعاره رمزاً للثقافة المضادة والمقاومة الرافضة للحرب أثناء حرب فيتنام، وتميز بمواقفه المتمردة وأغانيه الحماسية والاحتجاجية التي جعلت منه أسطورة الستينات. الذي أثار غضب الأوساط الأدبية أنه ليس شاعراً بالمعني التقليدي المتعارف عليه، فهل تقلل الموسيقي أو الغناء من شأن الشعر؟ ربما يتواري الشاعر لصالح الموسيقي ولكن هذا لا يعني سوي أن عوامل الجذب الموسيقي أقوي من الشعر ، بوب ديلان الشاعر يكتب الكلمة قبل اللحن ، والمعيار إذا حذفنا الموسيقي من هذه الأشعار، ماذا يتبقي ، دون شك سوف يتبقي شعرا لا يخلو من رؤية فلسفية عميقة لتفاصيل الحياة اليومية، وقصائد تحمل طابعاً مأساوياً في بناء درامي محكم استطاع التأثير في أجيال عديدة واستمر هذا التأثير سنوات ، ولو كانت أغانيه التي كتبها فقط تعتمد علي الموسيقي لما استطاعت الصمود طويلاً لكن الشعر عامل أساسي في أغانيه . نعم لم أغضب من فوز بوب ديلان بجائزة نوبل ليس فقط لما ذكرته من قبل أو لأنه تم ترشيحه أكثر من مرة للجائزة ، حيث وضع اسمه علي قوائم نوبل عام 1996 ، وعاد اسمه للتداول مرة أخري عام 2011 ، بل لأن الشعر أصبح في مكان أخر غير الذي نعرفه دون أن يتغير الشعر ، ولم يقلل هذا المكان الآخر من شأن الشعر ، لكن مقتضيات المرحلة حملت الشعر إلي هذا المكان ، فلم يعد الشعر للقراءة التقليدية فقط و أصبح الشاعر يطل علي جمهوره في ملابس أخري غير الكلمات المهموسة ، وإذا كان غناء الشعر يحدث منذ قرون إلا أن الجديد هو الشاعر نفسه الذي يغني ويلحن أشعاره ويحمل كلماته إلي الجمهور في حفل صاخب وهي بكامل ملابسها الموسيقية ، وكانت صدمتي الأولي والكبري حين تم دعوتي إلي مهرجان الشعر العالمي في روتردام عام 2001 وطلبوا بالإضافة إلي القراءات الشعرية أن أشارك في حفل الختام ، وظننت أننا سوف نقرأ شعراً ، ولكن المشاركة كانت تعني أن يرتدي الشعر ملابس أخري مثل الغناء والأداء التمثيلي ، وبالطبع اخترت الأداء المسرحي لقصيدة رجل طيب يكلم نفسه وقمت بإعدادها للمسرح مع مخرج ومهندس ديكور وموسيقي ورغم سعادتي بالتجربة ، إلا أنني كنت أشعر بالخجل ليس من نفسي ولكن من الشعر وكأنه يقول لي ماذا تفعل بي ؟ وكانت الكلمات تهمس في أذني غاضبة ! وبعد أن توالت الفقرات وصعد الشعراء إلي خشبة المسرح ، البعض راح يغني أشعاره ، أو يرقص ويؤدي مشاهد تعبّر عن الطقوس المحلية لثقافته وخاصة من جاء من الثقافتين الإفريقية والأمريكية ، شعرت براحة الضمير لأنني لم أفعل شيئاً بالشعر سوي أنني حاورته علي خشبة المسرح ، وتوالت الصدمات في العديد من المدن الأوربية وأنا أشاهد الشعراء في ملابس الموسيقي والغناء والأداء الحركي الصاخب أثناء القراءة وتقريباً لا يخلو مهرجان من هذه الفقرة حيث يأتي شاعر ليقدم هذه الفقرة وحين يصفق الجمهور ، أهمس في أذن أصدقائي الذين أصابهم الضجر : نحن الجيل الكلاسيكي . فهل سيذهب الشعر إلي طرق أخري لا تعرفها أقدامنا ؟ ربما حدث هذا منذ زمن ولكن هذه الطريق لن تقلل أو تُعلي من شأنه سيظل الشعر هو الشعر ، ولكن مقتضيات المرحلة جعلته يرتدي هذه الملابس ، وظني أن أمانة جائزة نوبل منحت الجائزة لهذا الإتجاه ، وللشاعر الأكثر تأثيراً في جمهوره علي مدي خمسة عقود بوب ديلان ، نعم إنه ليس في قامة ت. س . إليوت أوبابلو نيرودا ، لكنه شاعر حقيقي استمتعت بقراءته من خلال مجموعة من القصائد القليلة سواء في الإنجليزية أو العربية ، فإذا كان يكتب شعراً للأذن لكي يصدح به أمام جمهوره مع الموسيقي ، إلا أنه لا يخلو من فلسفة عميقة للحياة ،إنه الشاعر الذي يطرق باب السماء حتي تفتح له ، ومن أجمل قصائده في مهب الريح التي ترفض الحرب " في مهب الريح كم من الطرقات ينبغي للإنسان أن يقطعها قبل أن ندعوه رجلاً /كم من البحار ينبغي للحمامة البيضاء أن تطير فوقها قبل أن تنام في الرمال؟/ وكم من القنابل ينبغي أن تقذفها المدافع / قبل أن تُحظرَ الي الأبد؟/ الجواب، يا صديقي، في مهب الريح " وقصائد أخري عديدة منه " مثل حجرٍ يتحرج " التي يخاطب فيها الفتاة التي كانت تسخر من المتسولين ثم صارت منهم بلا مأوي لا تعرف أقدامها طريق بيتٍ " مثل حجرٍ يتدحرج /قد كان يا ما كان / في يوم من الأيام، لبستِ أحسن الثياب /ورميت قرشاً للمتسولين/ كنت في عنفوانك، أليس كذلك؟كان الناس ينادونك "أيتها الجميلة الطائشة.. أحذري.. ستسقطين/فظننت أنهم يمزحون " فلم يكتب فقط قصائد احتجاجية مباشرة ضد الحرب تؤكد مواقفه بل جسد بوب ديلان فلسفة جيله ، جيل الغضب الذي واجهه العالم بالسخرية ، ونال الجائزة عن إنتاجه الأدبي كما جاء في حيثيات نوبل ، نعم إنه شعر في ملابس أخري لم نعتادها ، لكنه شعر حقيقي .